في شقة خافتة الإنارة ذات ستائر مُسدلة، جلس فيها 4 رجال أنيقين يُدخنون بنسق مُنسجم وعلى الطاولة التي تجمعهم دولارات خضراء وعلى خصر كل منهم مُسدس صغير الحجم عظيم الفعل: هذا ما قد تُصورها لنا مُخيلاتنا التي شكلتها أفلام هوليوود حول اللوبيات أو ما يُعرف بجماعات الضغط.
وبعيدًا عن فانتازم السينما، وعند التأمل في الكيان الصهيوني المحتل وضآلة حجمه الجغرافي (حجم الرقعة الجغرافية التي يحتلها) ومحدودية تعداده الديمغرافي، لا يملك إلا أن يتعجب لقدرة هذا الكيان الهجين على تطويع القانون الدولي لتغطية جرائمه ودفع الحكومات لاتخاذ سياسات تتقاطع مع مصالحه الإستراتيجية، وعندما تتعمق قليلًا في البحث تكتشف أن مفتاح كل هذا يتلخص في جماعات الضغط التي تُحسن تحريك الأفراد والدول على حد السواء كأنها دمى متحركة.
وفي الحقيقة، لم يعد عمل اللوبي الصهيوني مقتصرًا على الساحة الأمريكية من خلال توجيه سياسات الولايات المتحدة تجاه المنطقة بالشكل الذي يخدم إسرائيل وأهدافها الاستيطانية، بل امتد هذا اللوبي إلى أوروبا وأخذ يمارس نشاطه بشكل علني ومكشوف في عاصمة الاتحاد الأوروبي “بروكسل” بمباركة وتشجيع من المفوضية والبرلمان الأوروبيين والعمل على تعزيز أواصر العلاقات الأوروبية – الإسرائيلية والوقوف في وجه أي تقارب عربي – أوروبي.
كيف تعمل اللوبيات؟
اللوبي تقنيًا هو عبارة عن جماعة ضغط سياسي واقتصادي واجتماعي وإعلامي تكونت بفعل ظروف خاصة للتأثير على مواقف خاصة وتقديم الدعم المادي والمعنوي والفكري لجهة هي بحاجة إلى ذلك، وتعمل جماعة اللوبي في البلد القاطنة فيه على المستوى السياسي والاقتصادي والفكري وغيره، وفق خطة دقيقة ومحكمة، وعبر تخطيط شامل أسلوبًا ومنهجًا يتزامن مع مراحل تنفيذ الأهداف المرسومة.
واللوبي وإن كان يطمح في تحركاته للعمل المباشر تحت الأضواء لتحقيق أهدافه المختلفة، إلا أنه يفضل في كثير من الأحيان العمل خلف الستار، فينوب عنه في التنفيذ العاملون في ركابه ليبقى هو بعيدًا عن الأضواء والحصول على المكاسب وفق الظروف المحيطة به، أي أنه يمقت الظهور على السطح إلا في حالات تفرض عليه الضرورة برفع الستار، ويعود تحاشي الأضواء للرغبة في تجنب صدام مباشر مع الغير، مما يهيئ له مناخًا مناسبًا لتوزيع أدوات العمل توزيعًا دقيقًا على أوكاره وأدواته كما أنه يعتمد في ميادين العمل على توفر المال في المكان الذي يعشش فيه لهذا فإنه (اللوبي الصهيوني) يحتضن في صفوفه كبار الأثرياء اليهود للاستحواذ على قسط كبير من الدعم المادي.
الصهيونية وجذورها الأوروبية
الصهيونية كما يعلم الجميع هي حركة سياسية يهودية، ظهرت في وسط وشرق أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر ودعت اليهود للعودة إلى ما أسمته أرض الآباء والأجداد “إيريتس يسرائيل” ورفض اندماج اليهود في المجتمعات الأخرى للتحرر من “معاداة السامية” والاضطهاد الذي وقع عليهم في الشتات، وبعد فترة طالب قادة الحركة بإنشاء دولة منشودة في فلسطين والتي كانت ضمن الأراضي التي تسيطر عليها الدولة العثمانية.
وقد ارتبطت الحركة الصهيونية الحديثة بشخصية اليهودي النمساوي هرتزل الذي يُعد الداعية الأول للفكر الصهيوني الحديث والذي تقوم على آرائه الحركة الصهيونية في العالم، وبعد تأسيس دولة الاحتلال الإسرائيلي، أخذت الصهيونية على عاتقها توفير الدعم المالي والمعنوي لها، وكان ناثان برنباوم، الفيلسوف اليهودي النمساوي، أول من استخدم مصطلح الصهيونية عام 1890، وعُقد أول مؤتمر صهيوني في مدينة بازل في سويسرا ليتم تطبيق الصهيونية بشكل عملي على فلسطين فعملت على تسهيل الهجرة اليهودية ودعم المشاريع الاقتصادية اليهودية.
وبحسب بعض المؤرخين المطلعين على تجربة تأسيس الحركة الصهيونية، فإن بدايات الفكر الصهيوني كانت في إنجلترا في القرن السابع عشر في بعض الأوساط البروتستانتية المتطرفة التي نادت بالعقيدة الاسترجاعية التي تعني ضرورة عودة اليهود إلى فلسطين شرطًا لتحقيق الخلاص وعودة المسيح، لكن ما حدث هو أن الأوساط الاستعمارية العلمانية في إنجلترا تبنت هذه الأطروحات وعلمنتها ثم بلورتها بشكل كامل في منتصف القرن التاسع عشر على يد مفكرين غير يهود بل معادين لليهود واليهودية.
ورغم أن أول من دعا لإنشاء دولة يهودية في فلسطين في العصر الحديث هو نابليون بونابرت، إلا أن صدور وعد بلفور هو أهم حدث في تاريخ الصهيونية الذي أتى كنتيجة لضغط اللوبي اليهودي في إنجلترا الذي كان ضئيلاً مقارنة مع مثيله في ألمانيا، لكنه نجح فيما فشل فيه اليهود الألمان الذين كانوا في موقع المتمكن في فترة ما قبل الحرب العالمية الأولى.
وبحسب بعض المتابعين لمسار إنشاء دولة الاحتلال، يتجاوز وعد بلفور، في الواقع، قبول الدول الأوروبية بنظرية التأسيس الصهيوني ” أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض” إلى التبني العملي للمشروع، إذ تضمن الوعد التزام بريطانيا بتسهيل تأسيس وطن قومي لليهود في فلسطين، باعتبار أن هؤلاء هم شعب وأمة مستقلة بذاتها لا تنقصها إلا الدولة، ورغم أن مصدر هذا الوعد كان بريطانيا، غير أنه كان في الواقع قرارًا أوروبيًا بامتياز، إذ لم يكن بإمكان الإمبراطورية البريطانية، رغم ما كانت تتمتع به من قوة، الإعلان عن الوعد دون التشاور مع حلفائها آنذاك، أي الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا وإيطاليا، لذلك فإن موافقة تلك الأطراف على مضمون الوعد قد شكل حافزًا لبريطانيا على طرحه لاحقًا على المجلس الأعلى لقوات الحلفاء في مؤتمر سان ريمو وذلك في 25 أبريل 1920 وهو المجلس الذي قرر إصدار صك انتداب بريطانيا على فلسطين “24 يوليو 1922” الذي تضمن في أحد بنوده وعد بلفور وتوصية بتطبيقه.
وبالرجوع إلى المؤتمرات الأربعة الأولى التي عقدتها الحركة الصهيونية، نجد أنها انعقدت في مدن أوروبية، وهي بازل سنة 1897، وبازل مرة أخرى سنة 1898، وبازل للمرة الثالثة سنة 1899 ثم لندن سنة 1900.
اللوبي الصهيوني في أوروبا بين الظل والضوء
ولئن انطلق العمل العلني للوبيات اليهودية الصهيونية في أمريكا منذ سنوات تدريجيًا على يد فئة قليلة من اليهود الذين هاجروا في أواسط القرن السابع عشر من أوروبا – التي لفظتهم – إلى القارة الأمريكية وتمكنوا بعد الاستيطان فيها من تكوين اللوبي اليهودي على مختلف الأصعد والأنشطة من خلال تركيز أنوية اجتماعية والسيطرة على دواليب التجارة والصناعة والزراعة والصناعات النفطية في كبريات المدن الأمريكية؛ ما مكنهم بفعل القوة الاقتصادية من التسلل إلى مراكز الحكم والوظائف العامة الرئيسية في أهم المؤسسات كالبيت الأبيض ووزارات السيادة والأحزاب وأجهزة الإعلام المختلفة، ظل ظهروره في أوروبا خافتًا غير مباشر إلى حين الإعلان عن افتتاح مكتب للمؤتمر اليهودي – الأوروبي في بروكسل منتصف شهر أكتوبر سنة 2009، ليكون وسيلة اتصال دائم بين اللوبي الإسرائيلي ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، وليتحرك المكتب بموازاة الأنشطة التي تقوم بها المؤسسات الصهيونية الأخرى في بروكسل، التي تعمل تحت غطاء مؤسسات للدراسات والأبحاث ومجموعات التفكير (think tank).
ومن المثير للاهتمام، ما تحظى به مختلف هذه الهيئات من دعم مالي مباشر من الموازنة العامة للاتحاد الأوروبي، الذي رصد موازنة سنوية تبلغ 50 مليون يورو لهذا المكتب الجديد بغية تغطية مصاريفه ورواتب موظفيه ودعمًا للأنشطة التي سينفذها.
ومما لاشك فيه أنه ماكان لإسرائيل القيام بتشكيل هذا اللوبي اليهودي لولا الدعم الذي تلقاه من معظم الدول الأوروبية التي تأتي على رأسها فرنسا وألمانيا وبريطانيا وإيطاليا، ولولا الدعم الذي تلقته من بعض دول أوروبا الشرقية التي تصر وباستمرار على إقامة أفضل العلاقات مع حكومة بنيامين نتنياهو اليمينية المتطرفة، وترفض توجيه أي لوم لها، رغم مواقفها الرافضة للاستيطان وخصوصًا في مدينة القدس المحتلة.
وإذا كان اللوبي الإسرائيلي حديث العهد في عاصمة الاتحاد الأوروبي بروكسل فإنه يبقى على عكس اللوبي اليهودي في بريطانيا الذي يتمتع منذ سنوات بعيدة بنفوذ هائل وهو من أقوى جماعات الضغط السياسي وأوسعها نفوذًا في أوروبا بعد اللوبي اليهودي في الولايات المتحدة المسخر، لدعم المصالح الاسرائيلية ودولة الكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة، وكان له الدور الكبير في الهيمنة والسيطرة على رئيسي وزراء بريطانيا توني بلير وغوردون براون وعلى البرلمان البريطاني وعلى الأوساط السياسية والإعلامية هناك.
ويُعد توني بلير أبرز الشخصيات الأوروبية السياسية التي تتزعم اللوبي الصهيوني في أوروبا، فبعد أيام فقط على استقالته من منصبه مبعوثًا للجنة الرباعية الدولية للشرق الأوسط، تولى منصب رئيس اللوبي الصهيوني في أوروبا المتمثل بـ “المجلس الأوروبي للتسامح والتصالح” الذي تأسس سنة 2008 لمحاربة الكراهية لليهود والمظاهر العنصرية وبالأساس الأصولية الإسلامية.
وفي فرنسا، توجد جماعة يهودية يبلغ تعدادها 700 ألف، وهي جماعة اكتـسبت لونًا يهوديًا قويًا نوعًا ما بعـد هـجرة يهـود المغرب العربي، وهي جماعة ذات نفوذ قوي في الإعلام وغيره، ويُعد ساركوزي تعبيرتها السياسية الأبرز حتى الآن.
مؤسسات وهيئات أوروبية داعمة للكيان الصهيوني
وقد ساهم العمل الدؤوب للوبيات الصهيونية في تركيز مؤسسات ذات وزن وتمويل كبيرين في مختلف الدول الأوروبية، مؤسسات يصعُب حصرها إلا أن منها :
– جمعية الصداقة الفرنسية الإسرائيلية (Groupe d’amitié France-Israël): وهي جمعية تعمل على ربط علاقات مع برلمانيين فرنسيين بهدف التحكم في التشريع الفرنسي بما يضمن مصالح دولة الإحتلال. رئيستها الحالية دانيال هوفمان ومن آخر أنشطتها تنظيم زيارة لمُؤسّسةَ ياد فاشيم اليوم لنُواب فرنسيّين أَعضاءٌ في الجمعية ولقاء رئيسَ الدولة شمعون بيرس ونائبَ وزيرِ الخارجيّة زئيف الكين وأَعضاءَ كنيست ومُدراءَ كُبرياتِ الشَّركاتِ التكنولوجيّة المُتقدّمة .
– مجلس المؤسسات اليهودية في فرنسا ( CRIF)
– مؤسسة آن فرانك هاوس (Anne Franck House): مؤسسة هولندية مُختصة في الترويج للهولوكوست اعتماد على قصة الفتاة آن التي هربت من ألمانيا واستقرت في هولندا، يحتوي مقرها في مدينة أمستردام، وهو ما يقال أنه منزل الفتاة آن، على مُتحف عالي الجودة يروي الرواية الإسرائيلية لما تعرض له اليهود في أوروبا، وتتوجه للرأي العام الأوروبي ببروغاندا محترفة لتعزيز ما يُسمى بعقدة الذنب تُجاه اليهود، كما كانت لها مُحاولات للإنتصاب في دُول الربيع العربي وخاصة تونس آلت للفشل.
– المؤتمر اليهودي الأوروبي (European Jewish Congress) ومقره بروكسيل.
– المجلس الأوروبي للجماعات اليهودية (European council for jewish communities) ومقره باريس
– المؤتمر اليهودي العالمي (World Jewish Congress)
– الغرفة الإقتصادية الإسرائيلية الألمانية، مؤسسة هانز سايدال (ناشطة في بعض الدول العربية)، كونراد أدناور، ZEIT-Stiftung، ZEIT-Stiftung، مشروع التعاون الإسرائيلي الألماني ، مؤسسة روزا لكسمبورغ وكلها مؤسسات ألمانية تنشط في مجال دعم الديمقراطية في إسرائيل وعلى تقوية المجتمع المدني داخل الكيان الصهيوني
رغم كل ما يتطرق إلى أسماعنا بين الفينة والأخرى من عتاب أوروبي على دولة الاحتلال بخصوص ممارساتها المنافية للقوانين والأعراف الدولية، إلا أن الكيان الصهيوني نجح في تثبيت لوبيات مُؤثرة في أغلب العواصم الأوروبية مسكت دواليب الإعلام والاقتصاد، ورغم وجود تيار آخر داعم للقضية الفسطينية من الأوروبيين أنفسهم، إلا أن السياسة والمال توأمان، وهو ما نجحت فيه دولة الكيان وفهمته منذ السنوات الأولى في القرن العشرين وعملت على التفوق فيه.
هذا المقال يأتيكم ضمن ملف اللوبي الصهيوني على نون بوست.