صارت مظاهر الانحطاط الحضاري والتشرذم المجتمعي في العالم العربي والإسلامي أوضح من أن تخفى وأكبر من أن تحصى، حتى أصبح هذا العالم اليوم في التخلف والعجز مثالًا؛ وحتى صار يدخل في مدح البلد العربي المسلم قولُنا إنه بلد استطاع أن يتجنب ويلات الحرب الأهلية والفوضى والإرهاب، وكأن سقف طموح الشعوب العربية والمسلمة صار يقف عند درء الفتن ودفع الآفات التي تهدد بنسف مقومات وجود هذه الشعوب، عوض أن يسمح باستشراف أفق إبداعي أرحب، ويجابهنا هذا الواقع المتردي بجملة من الأسئلة، على رأسها السؤال المتعلق بإمكانية استئناف الدور الحضاري للأمة العربية والإسلامية، وانبعاث روح الإبداع الثقافي والفكري فيها من جديد؛ فهل من الممكن أن يستأنف العرب والمسلمون صناعة التاريخ، أم سيظل قدرهم هو الخضوع والامتثال للقوى التي تصنعه؟
ليس هناك ما يفيد بأن التخلف هو حالة ملازمة للشعوب العربية الإسلامية، أو خلل في بنية العقل العربي المسلم؛ فقد سبق وأن نهض العرب والمسلمون في التاريخ نهضة علمية وثقافية وفكرية محترمة، ولا يوجد ما يمنع من نهضتهم مرة ثانية، شرط أن يتأتى لهم دفع الموانع الذاتية والموضوعية المعوقة لهذه النهضة، ويأتي على رأس هذه الموانع كلها التقيد بنموذج السلف في نهضتهم الحضارية.
فمعلوم أن السلف تفاعلوا مع أحدث علوم عصرهم قصد بناء منظومتهم الفكرية والثقافية، حيث لم يسلم علم من علومهم، بما في ذلك علوم أصول الفقه، من التأثر بعلوم الآلة المتوفرة في زمانهم، غير أن السقوط في أسر نماذج السلف حال دون التخلف والتفاعل مع أحدث علوم عصرهم هم، استيعابًا ونقدًا وتمحيصًا وتتميمًا، ومن أوضح مظاهر العجز في حياة العرب والمسلمين الفكرية والثقافية اليوم تَوسُّلهم بنفس الأدوات التي توسَّل بها من سبقهم، ظنًّا منهم بأنها أدوات تصلح لبناء نهضتهم اليوم؛ والحاصل أن هذا هو الانحطاط بعينه.
تتعدد الشواهد الدالة على أن أزمة الثقافة العربية والإسلامية اليوم هي أزمة نفسية وذهنية، قبل أن تكون أزمة بنية عقلية، لقد ولدت من رحم عصور الانحطاط تيارات فكرية عربية وإسلامية لا تحسن إلا النكوص إلى مواقع الدفاع عند الاحتكاك مع العوالم الخارجية، وإلا فكيف نفسر بعض الظواهر المستحكمة في وعي النخب المثقفة مثل ظاهرة “التأصيل”، أو “الإعجاز العلمي” مثلًا! إن هذه الظواهر الثقافية تعكس حالة من الوعي هي ألصق بنفسية وذهنية إنسان عصر الانحطاط، منها بنفسية وذهنية إنسان عصور الانتشاء والازدهار والارتقاء.
لقد وَلَّد الاحتكاك مع الديموقراطية الغربية، مثلًا، ارتباكًا كبيرًا لدى الإنسان العربي والمسلم عمومًا، مما حدا بكثير من المثقفين إلى البحث عن صيغ لتبيئتها في التجربة التاريخية الإسلامية وتأصيلها في المأثورات النصية، فعوض التعامل مع الديموقراطية بوصفها قيمة ومفهومًا جديدين لم تُبكِّر الإنسانية لاكتشافهما قبل الأزمنة المتأخرة، يسعى رواد التأصيل لاختزالها في تجربة اجتماع السقيفة، أو ردها إلى مصطلح الشورى؛ وفي هذا المسعى تعسف واضح، يُحمِّل التجربة الماضية ما لا تحتمل من معاني الحاضر، كما يحصر النصوص الداعية إلى إعلاء القيم الأخلاقية في شكل واحد من أشكال الممارسة المتعددة واللامتناهية.
ولا يسلم المؤصل في مثل هذه الحالات من الوقوع في آفتين عظيمتين: آفة التجميد وآفة التقديس، فالمؤصل للديموقراطية يسعى، عن قصد أو غير قصد، إلى تجميد ظاهرة متحركة، لم تبلغ بعد منتهى حسنها أو قبحها، في تجربة تاريخية يراد الاحتكام إليها بوصفها نموذجًا مكتملًا؛ كما أنه يسقط من حيث لا يشعر في تقديسها إذ يطلب لها أصلا في النصوص المقدسة.
هذا في حين أن أصحاب الديموقراطية لا يقرون لها بقداسة تذكر، كما أنهم لا يقولون باكتمال نضجها، فهذا أحد صناع الديموقراطية الغربية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وهو رئيس وزراء بريطانيا وينستن تشورشل، يقول: “الديموقراطية: إلى الجحيم!”؛ ويبدي استعداده للتخلي عنها متى ما ظهر ما هو أفضل منها، فالديموقراطية في نظر صناعها هي ممارسة تخرج بالمفهوم وبالقيمة من طور إلى طور، وبالتالي فوجهة المشتغل بها هي المستقبل المخبوء؛ أما وجهة المؤصل لها فهو الماضي المعلوم، وحين تستنفذ الديموقراطية أغراضها، تجد المؤصلين في ورطة، يلهثون من جديد من أجل تأصيل الظاهرة الجديدة التي أتت بدلها، وهكذا يكون التأصيل أداة من أدوات نفي العرب والمسلمين من التاريخ.
ومن الظواهر الدالة على حالة الانحسار والتراجع في السياق الثقافي العربي والإسلامي ظاهرة الإعجاز العلمي، فمعلوم أن مقصد المشتغلين بهذا الفن هو رد كل مكتشف علمي جديد إلى النصوص الدينية المقدسة، بغرض التأكيد على سبقها إلى الإشارة إلى الحقائق العلمية وإثبات مصدرها الرباني، ثم تعزيز قدسيتها في النفوس، يجلي لنا الاشتغال بهذا الفن كيف يتم توظيف المنظومة العلمية الحديثة لأغراض دعوية فقط، لا بغرض الإجابة على التحديات التي صار يطرحها الواقع اليومي على رجل العلم، فإذا كانت وجهة رجل العلم في المجتمعات الحديثة هي الواقع الكوني، فإننا نجد الكثير من رجال العلم في السياق العربي والإسلامي منصرفين وجهة النص، يرومون تأصيل مكتشفات الآخرين العلمية فيه، وهذا ضرب آخر من ضروب إخراج العرب والمسلمين من التاريخ والجغرافيا، في حين يدخل غيرنا المَخْبر كي يخبروا حقيقة الأشياء، ندخل نحن المخبر من ورائهم لنصل الحقيقة المخبرية بالخبر الديني.
إن ظاهرة الإعجاز العلمي وشبيهاتها من الظواهر تصب في تضخيم المنظومة الدعوية على حساب المنظومة العلمية، وتساهم في إيهام الأجيال المتعلمة بأن العرب والمسلمين يشتغلون بالعلم، والحال أنهم يشتغلون بالدعوة، وما العلم عندهم إلا شكل من أشكال الفلكلور، يفزع إليه لدغدغة عواطف الشعوب العربية والمسلمة، أما العلم والاهتمام به في واقع المسلمين اليوم فهو في انحسار.
لا مناص للعرب والمسلمين، وهم يحيون تحت سقف العولمة، سوى التخلص من عوالق عصور الانحطاط، ثم وصل ذواتهم بالتراث من جهة، بحثًا عن روح الإبداع فيه، لا من أجل تكرار إبداعات السلف أو اجترارها؛ ووصل ذواتهم من جهة أخرى بالعصر، بحثًا عن سبل الاستفادة مما يتيحه من أدوات مسعفة في ترميم الذات وتجديدها، ويقتضي هذا الأمر، من جملة ما يقتضيه، مراجعة معاني “الخصوصية” كما تقررت في الوعي العربي والإسلامي الجمعي؛ إذ ليست الخصوصية مجرد ملجأ نفزع إليه حين تداهمنا القيم والمفاهيم الجديدة، أو فضاء نؤصل فيه مبتكرات الآخرين؛ بل الخصوصية هي في أبهى تجلياتها ما به نساهم في إثراء الثقافة العالمية وإغنائها، عملًا بمقتضى مبدأ “تتميم مكارم الأخلاق”، وليعلم رواد الخطاب الثقافي في العالم العربي والإسلامي أن البشرية في زمن العولمة لن تقبل منا العودة إلى القيم الخاصة إلا بشرط أن يكون في هذه العودة ما يزكي ويدفع بالقيم الجديدة المقررة باتجاه الأفضل والأحسن.
إن التحدي الذي يواجه العرب والمسلمين اليوم يكمن في إيجاد نوع جديد من التأصيل لا يخرجهم من التاريخ، تأصيل يروم نفث الأخلاق في الممارسة الحية للعدل والحكم والسلطة والتربية والتعليم والكسب الاقتصادي والصناعة العلمية، عوض الاكتفاء بتجميد هذه الممارسة في منظومة كلامية نصية.
لم يعد الانتساب قولًا إلى الأخلاق الإسلامية كافيًا؛ فما كل من قال قولًا وفى، كما قال الشاعر، إنما صار لزامًا على المنتسبين إلى هذه الأخلاق الاجتهاد من أجل توطينها في الواقع العملي، ذلك أن الله لم يخلق الناس ليبلوهم أيهم أحسن قولًا، بل أيهم أحسن عملًا، وإن من العجائب أن ترى العرب المسلمين من أكثر الناس تقاعسًا حين يتعلق الأمر بتنزيل القول إلى مضمار الفعل، وأسرعهم إلى تأصيل الفعل في مضمار القول.
نُشر هذا المقال لأول مرة في هافنغتون بوست عربي