للمرة الثالثة خلال عام من توليه الرئاسة، وللمرة الرابعة منذ الانقلاب العسكري يذهب الجنرال عبدالفتاح السيسي إلى روسيا للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين؛ في محاولة لإظهار محاولات تعزيز العلاقات المستمرة بين القاهرة وموسكو منذ إطاحة الجيش، بقيادة قائده آنذاك عبدالفتاح السيسي، بالرئيس المنتخب السابق محمد مرسي في يوليو 2013.
إذ يذكر أن أول زيارة قام بها السيسي إلى روسيا كانت في فبراير من العام 2014 بعد إطاحته بمرسي حينما كان وزيرًا للدفاع، وفي وقت اعتبرت فيه العلاقات المصرية – الأمريكية متدهورة إلى حد ما، وبعد صعود السيسي إلى سدة الحكم يونيو 2014، قام بزيارة أولى كرئيس لمصر في أغسطس 2014، حيث التقى نظيره الروسي في منتجع سوتشي على البحر الأسود، ثم كانت له زيارة أخرى في مايو 2015، لحضور احتفالات النصر الروسية بالذكرى السبعين للحرب العالمية الثانية.
لا يمكن لهذه الزيارات المتعاقبة للسيسي في وقت قياسي أن تمر دون تفسير، خاصة وأن الزيارة الأخيرة تأتي في وقت إقبال منقطع النظير على زيارة العاصمة الروسية موسكو من قِبل القادة العرب، فتتزامن زيارة السيسي مع زيارة العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني، وولي عهد أبو ظبي، الأمير محمد بن زايد آل نهيان، كما بات متوقعًا ترتيب زيارة قريبة لملك السعودية سلمان بن عبدالعزيز، في حين تم ترتيب موعد الشهر المقبل لاستقبال أمير قطر، تميم بن حمد آل ثاني.
هذا الحضور العربي في موسكو يُفيد بأن ثمة ترتيبات للأوضاع الإقليمية بشكل ما يتم، ويريد السيسي بزيارته ألا يكون بعيدًا عن ذلك، والأقرب في التصور المشترك الذي يجمع كافة هذه الأطراف هي القضية السورية العالقة منذ أربع سنوات؛ بسبب الدعم الروسي الإيراني للرئيس السوري بشار الأسد ورفض الإطاحة به حتى الآن.
في الوقت الذي جاءت فيه تصريحات بشار الأسد تفيد بأنه على ثقة من استمرار دعم حلفائه الرئيسيين إيران وروسيا، إذ أكد أن الدولتين لن تتخليا عن أصدقائهما، وهو ما يشير بأنه سوف يكون لهذه اللقاءات دور ربما في تحديد مصير الأسد الفترة القادمة، وذلك بين الرغبة السعودية التركية القطرية، التي لا ترى للأسد أي دور في سوريا المستقبل، على عكس المحاولات الإماراتية المصرية بدعم روسي إيراني لإعادة تأهيل الأسد لدور مستقبلي، وبين هذا وذاك يتململ الغرب الذي لم يحسم موقفه نهائيًا حتى الآن من بقاء الأسد.
القضية السورية هي الأكثر إلحاحًا الآن في موسكو
بالرجوع إلى دور السيسي في المعضلة السورية، يظهره تصريح الرئيس السوري بشار الأسد أنه ثمة اتصالات غير معلنة تجري مع مصر حول تبادل الاستفادة من ما أسماه “جهود محاربة الإرهاب”.
الجدير بالذكر أن دعم الرئيس السابق محمد مرسي للثورة السورية والمعارضة في وجه نظام الأسد، وتصعيد اللهجة في مؤتمر دعم سوريا في القاهرة، اعتبرها البعض القشة التي قصمت ظهر بعير نظام مرسي، خاصة وأن تلك التحركات لم تكن تنال رضا الجيش وعجلت بالانقلاب عليه، ومنذ ذلك الحين والعلاقات مع دمشق عادت إلى دفئها وأُعيد فتح سفارة النظام السوري في القاهرة بعدما أُغلقت، وهو الموقف الذي يشير إلى تحول موقف القاهرة من دعم الثورة السورية إلى العودة إلى حضن نظام الأسد بالتعاون والتنسيق الأمني.
ليس هذا فحسب فقد كشف موقع “روتر” الإسرائيلي عن تقديم السيسي منذ ذلك الحين مساعدات عسكرية لبشار الأسد يستخدمها في قمع المعارضة المسلحة، وقد عرض نشطاء صورًا عدة قيل إنها لصواريخ مصرية الصنع تستخدم في قصف المناطق السورية.
السيسي دائمًا ما يُحذر من مغبة سقوط الأسد وهي أحدي نقاط الاتفاق المشتركة، وأهمها على الإطلاق في الحقيقة، بين الروس والإيرانيين من جانب وبين القاهرة من جانب آخر، وقد أكدت صحيفة هآرتس العبرية هذا المعنى بقولها إن “مصر السيسي” تعتبر بشار الأسد عنصرًا هامًا لوقف أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في سوريا.
وقد حاولت روسيا استخدام السيسي في التوسط لدى المملكة العربية السعودية لتعديل موقفها المتشدّد من نظام الأسد، مستغلة العلاقات المصرية السعودية الوطيدة منذ الانقلاب في 2013، لكن الأمر مازال نقطة خلاف بين القاهرة والرياض؛ حيث ترفض السعودية حتى الآن أي مبادرة تُبقي الأسد على رأس السلطة بينما يسعى السيسي لاقناعها بضرورة ذلك، ولو مؤقتًا.
كما حاول السيسي قبل ذلك التدخل في قضية السلاح الكيميائي السوري بإظهار الاستعداد لتتولى الدبلوماسية المصرية إجراء اتصالات تفاوضية مع الأمريكيين بهدف منع توجيه ضربة عسكرية إلى سوريا، وطرح مشروع اتفاق خاص لنزع السلاح الكيماوي السوري، لكن بشار الأسد فضل الاعتذار للسيسي عن مبادرته وكانت رسالته حرفيًا له “أن الموضوع يُفضل أن يبقى في يد الرئيس الروسي فلاديمير بوتين شخصيًا”.
فالسيسي يحاول استخدام الأزمة السورية لصالحه قدر المستطاع، وذلك بالتلويح دائمًا في مصر بمصير سوريا إذا ما تخلى الشعب عنه أو فقد الدعم الإقليمي والدولي في مواجهة الحرب المزعومة على الإرهاب، فهي حالة ابتزاز واضحة لكافة الأطراف في ظل تخوفات غربية من حالة فشل مجددة في مواجهة التنظيمات الجهادية في دولة أخرى غير سوريا.
وعلى صعيد آخر يحاول السيسي استغلال علاقته بموسكو في هذه الآونة، وتدخله في القضية السورية بفتح باب خلفي مع طهران بعد توقيع الاتفاق النووي مع قوى الغرب، مستغلًا نقطة اتفاق الرؤية بين البلدين حول القضية السورية، وذلك دون إحداث نوع من الحرج أمام داعمه الخليجي السعودي الذي يسعى لتكوين حلف سني ضد التوغل الإيراني في المنطقة بعد الاتفاق.
ليس هذا فحسب
بالتأكيد زيارات السيسي المتكررة لروسيا في هذا التوقيت ليست بسبب الأزمة السورية فحسب، ولكنها في هذه الأيام ربما على رأس أولوية أجندة اللقاءات بين السيسي وبوتين، في محاولة من السيسي لإيجاد دورًا إقليميًا يُساعده في حربه ضد تيارات الإسلام السياسي، بالتزامن مع رغبة بوتين لضم حلفاء إقليميين جدد إلى حلفه مع إيران لإعادة دمج الأسد في العملية السياسية بسوريا، ولا يوجد أفضل من القاهرة والإمارات للقيام بهذا الدور.
زيارات السيسي المتكررة إلى روسيا ربما يكون لها نصيب من الأبعاد الاقتصادية، لكن الاقتصاد الروسي، الذي فقدت عملته أكثر من 42% من قيمتها في الآونة الأخيرة، لا يمكن التعويل عليه في ظل تدهور اقتصادي مصري غير مسبوق، ولكنها ملجأ دولي للسيسي لمحاولة تصدير صورة الرجل المرغوب فيه دوليًا وإقليميًا.
وعلى الصعيد العسكري يحاول السيسي إعطاء نوعًا من الصورة الذهنية الشعبية عن تنويعه لمصادر التسليح بعيدًا عن الولايات المتحدة، حيث تشيع أذرعه الإعلامية بشكل شبه يومي عن صفقات سلاح روسية وهمية كنوع من المكايدة في الولايات المتحدة، التي تعترض على سجل حقوق الإنسان في مصر أحيانًا، لكن الحقيقة بعيدة عن بروباجندا الجنرال لأن العلاقات المصرية الأمريكية بدأت تعود إلى طبيعتها منذ مارس الماضي بإنهاء تجميد الولايات المتحدة الجزئي لمساعدتها العسكرية السنوية لمصر التي تبلغ 1.3 مليار دولار، كما سلمت الولايات المتحدة الجيش المصري ثماني طائرات من طراز F16 يوليو الماضي.
فقد دأب محللو السيسي الإستراتيجيين، الذين يجوبون أذرعه الإعلامية شرقًا وغربًا، على التأكيد أن هذه الزيارات فرصة قوية لاستعادة التوازن العسكري النوعي مع إسرائيل، عن طريق تسليح الجيش المصري بالسلاح الروسي، بدلاً من الاعتماد الكلي على السلاح الأمريكي الذي يفرض تفوقًا إسرائيليًا إجباريًا، لكن تمسك السيسي بالسلاح الأمريكي في الفترة الأخيرة يدحض كل هذه المحسنات العسكرية التي تظهر الجنرال السيسي رجلًا ممانعًا، رغم أن التنسيق بينه وبين الجانب الإسرائيلي في أعلى مستوياته منذ قيام دولة إسرائيل، باعتراف الإسرائيليين أنفسهم.
فهذه الزيارات بالأساس ذات طبيعة سياسية وإن وجد على هامشها بعض التعاون في مجالات الطاقة والتسليح، إلا أن هدف السيسي الرئيسي من هذه الزيارات المتعاقبة هو إيجاد متنفس دولي لنظامه عن طريق دولة كروسيا أحد الدول الكبار في مجلس الأمن، فليس لدى روسيا ما تقدمه لمصر على الصعيد الاقتصادي بل إن الاقتصاد الروسي في هذه الآوانة في حاجة ماسة إلى الدعم بعد هبوط أسعار النفط إلى مستوى متدني.
فقد أوضح متابعون أن زيارة السيسي الأخيرة هدفها الرئيسي التدخل في ترتيب الوضع الإقليمي مع قرب إعادة هندسة المنطقة، إذ تأتي زيارة السيسي إلى موسكو في الوقت الذي تواصل فيه القيادة الروسية المشاورات على المستويين العالمين والإقليمي حول تشكيل تحالف أوسع لمواجهة تنظيم الدولة الإسلامية ومواجهة التنظيمات الجهادية في المنطقة، وهي فرصة بالطبع متطابقة مع إرادة السيسي في إدماج نفسه بأي تحالف دولي يعزز من فرص الإبقاء عليه محليًا.