يتزامن تراجع النمو الاقتصادي في تونس مع اطراد الفساد وازدياده، فعادات المحاباة، المحسوبية، والكسب غير المشروع أصبحت متأصلة بشكل متزايد ضمن أروقة المجتمع والدولة، حيث تعول ممارسة الأعمال التجارية، كبيرة كانت أم صغيرة، بشكل منتظم على الامتيازات الناشئة عن الرضوخ للقواعد الفاسدة.
وفي الوقت عينه، يعمل قصر النظر الذي يتميز به صنّاع السياسة ضمن القيادة السياسية الحالية، على جعل الوضع أكثر صعوبة؛ فالرئيس التونسي، الباجي قائد السبسي، اقترح مشروع قانون بشأن “المصالحة الاقتصادية والمالية” يهدف إلى تجنيب قائمة من رجال الأعمال الفاسدين والمسؤولين الحكوميين السابقين الذين مارسوا عادات الفساد سابقاً من المساءلة القانونية والقضائية.
في يوم 14 يوليو من العام الجاري، صادقت الحكومة على مشروع القانون، وتم نقله إلى البرلمان للتصويت للموافقة عليه، حيث جاء في اقتراحات مشروع القانون ثلاث مواد رئيسية هي:
1. إنهاء الإجراءات القانونية وإسقاط العقوبات بحق الموظفين العموميين بالجرائم المتعلقة بذوي الياقات البيضاء.
2. إنشاء “لجنة المصالحة” التابعة لرئاسة الوزراء لإسقاط التهم، ووقف الإجراءات والملاحقات ضد رجال الأعمال الذين تمت أو ستتم إدانتهم من قِبل النظام القضائي.
3. إلغاء أحكام قانون العدالة الانتقالية المتعلقة بجرائم ذوي الياقات البيضاء.
السبسي وفريقه الرئاسي يصفون مشروع القانون باعتباره وسيلة لـ”تعزيز العدالة الانتقالية، توفير البيئة المناسبة للاستثمار، تعزيز الاقتصاد، وزيادة الثقة في مؤسسات الدولة”، وهو زعم ينطوي، في أحسن الأحوال، على مفارقة تاريخية، ناهيك عن جوهره الملتوي بصراحة.
فأولاً، مشروع القانون لا يرسخ مفهوم “العدالة الانتقالية”، كون التدابير القضائية وغير القضائية التي تنفذها بعض البلدان، بما في ذلك تونس، وُجدت لمعالجة الإرث الصارخ من انتهاكات حقوق الإنسان؛ ولكن بدلاً من ذلك، يعمل هذا القانون على إعاقة هذه التدابير ووضع العصي بالعجلات أمام تطبيقها.
فضلاً عما تقدم، ما نص عليه مشروع القانون يحد من قدرة هيئة الحقيقة والكرامة، وهي المؤسسة المسؤولة عن تفعيل مسار عملية العدالة الانتقالية، للتحقيق بدقة حول جرائم إساءة استعمال السلطة التي ارتكبت في ظل الأنظمة الديكتاتورية للحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، بما في ذلك اختصاصها بالتحقيق حول انتهاكات حقوق الإنسان وملفات الفساد الاقتصادي، حيث يقيد مشروع القانون من صلاحية الهيئة بالتحقيق وبتحليل الممارسات الفاسدة التي طال أمدها في ظل الأنظمة السابقة، والأسوأ من ذلك، مخالفة القانون للمادة 148 من الدستور التونسي، والتي تنص على أن الدولة ملتزمة باحترام عملية العدالة الانتقالية في جميع جوانبها ومواعيدها النهائية، ومن هذا المنطلق تظهر المفارقة الماثلة يكون السبسي، باعتباره رئيساً للدولة، هو المسؤول الأول دستورياً على السهر والمحافظة على تطبيق وحماية الدستور.
ثانياً، مشروع القانون لا يوفر البيئة المناسبة للاستثمار، بل إنه يوهنها ويتعدى عليها، كون إفلات المسؤولين ورجال الأعمال من المساءلة والعقاب لن يساعد على تقليص النشاط الاقتصادي التحايلي المنتشر بشكل متزايد، بل بدلاً من ذلك، سيضفي على هذه الممارسات الصفة الشرعية القانونية والأخلاقية.
هذا القانون يضفي الشرعية على المعدلات المتزايدة للـ”المدفوعات غير الرسمية” التي تُنفق في سبيل إنجاز الأعمال، والتي بلغت في تونس عام 2013 حوالي 230 مليون دولار، وهو ما يشكل 2.7% من إجمالي الإيرادات السنوية للحكومة التونسية، متفوقة بذلك على روسيا، مصر، المغرب، آسيا الوسطى و دول جنوب شرق أوروبا.
ثالثاً، مشروع القانون من غير المرجح أن يعزز “المصالح الاقتصادية” بحد ذاتها، بقدر ما سيعمد إلى توفير الحماية للمصالح الفاسدة لتجمعات المقربين من النظام، ويشمل هؤلاء المقربون قائمة مؤلفة من 114 شخصاً من عائلة بن علي أو الطرابلسي، وهو لقب زوجة بن علي قبل الزواج، الذين جمعوا ثروات هائلة من خلال سيطرتهم على 21% من جميع أرباح القطاع الخاص.
كما تشمل القائمة الثانية 120 شخصاً من رجال الأعمال الذين جمعوا ثروتهم من خلال التعاون مع أعضاء القائمة الأولى.
ومن هذا المنطلق، فإن حظر التفتيش القضائي في أعمال وموارد هؤلاء المقربين سيضمن العودة المريحة لرؤوس أموالهم الفاسدة إلى دورة العمل، وسيرسخ مواقع شبكات الابتزاز المالية الخاصة بهم.
رابعاً، مشروع القانون لا يزيد الثقة في مؤسسات الدولة، بل إنه يضر بالغ الإضرار بها، كون وضع كبار المسؤولين السابقين في موضع يخولهم خرق الدستور، تعزيز سياسة الإفلات من العقاب، والتغاضي عن الجرائم واسعة النطاق، هي ممارسات لا يمكن بحال من الأحوال أن تولّد مشاعر الثقة، خاصة بين المستثمرين المحتملين الذين يتطلعون للقدوم إلى تونس، البلد التي سعت جاهدة لمدة أربع سنوات لجذبهم.
في جميع أنحاء العالم، الفساد الممارس على نطاق واسع يولّد المظالم الاجتماعية ويؤدي إلى تآكل الثقة في الدولة، ووفقاً لمسح عالمي جرى في عام 2013 من قِبل منظمة الشفافية الدولية حول الفساد فإن “الرشوة لا تتمخض فقط عن قيام الفرد بدفع النقود بداعي الفساد، بل إنها تقوض كفاءة التوزيع العادل للموارد، وتقوض احترام الناس لسيادة القانون والسلامة العامة للمجتمع”.
وفضلاً عما تقدم، تشير منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي إلى أن “الفساد يشكل تهديداً أساسياً للحكم الرشيد، التنمية الاقتصادية المستدامة، العملية الديمقراطية، والممارسات التجارية المنصفة”، فكما يقول أنخيل غوريا، الأمين العام للمنظمة “أثر الفساد يتجاوز مجرد الممارسات المالية السيئة الصادرة عن الجهات المعنية المعينة، فتداعياته تجتاح شعوب بأكملها، والرشوة التي تبلغ قيمتها مليون يورو على سبيل المثال، يمكن أن تؤدي بسرعة إلى فقدان 100 مليون يورو ضمن البلدان الفقيرة، جرّاء انحراف وخلل خطط التنمية وقرارات الاستثمار غير المتماسكة”.
مناصرو شبكات الابتزاز المالية في تونس يعمدون في كثير من الأحيان إلى التملص من المناقشات الهادفة التي تناقش الغرض من مشروع قانون المصالحة، وبمجرد حصرهم في زاوية صعبة ضمن هذا النقاش يميلون للتمسك بالعناوين النبيلة حول الحاجة “للتطلع إلى المستقبل”، واحترام “الدولة” أو “المصالح الاقتصادية”، ويلمحون بغموض إلى الموارد المالية التي ستثري خزينة الدولة جرّاء “المصالحة” المقترحة.
من جهته، يدعي السبسي بأنه “على ثقة من أن العديد من التونسيين المعنيين بالعفو، سواء من رجال الأعمال أو من غير رجال الأعمال، لديهم القدرة على المشاركة في الحياة التونسية”، ولكن في الواقع، وفيما خلا رغبتهم المحضة والطوعية لتطبيق دعوة السبسي، لا يوجد دليل ملموس يحض هؤلاء التونسيين “القادرين” لممارسة هذا النوع من المساهمة التي من شأنها تغيير الوضع الاقتصادي في تونس، حيث تبقى هذه الحجج محض تخمين لا أكثر.
إذن، طالما أن الأمر لا يتعلق بتعزيز “المصالح الاقتصادية” أو بتعزيز “عملية العدالة الانتقالية” ما الذي حث السبسي لاقتراح مشروع القانون هذا، وفي أول اجتماع له مع مجلس الوزراء؟
بالنسبة للعديد من التونسيين الجواب واضح، السبسي وحزبه، نداء تونس، مدينون لهؤلاء الممولين الذين دعموا طريقهم للوصول إلى طليعة الطيف السياسي في تونس، واليوم حان الوقت لرد الدين مرة أخرى، حيث تشير سهام بن سدرين، رئيس هيئة الحقيقة والكرامة، بالتحديد إلى “جماعات الضغط التي تسعى لتحرير الفاسدين من الخضوع لأي نوع من التحقيق”.
جزء من الإجابة أيضاً مُضمّن بتصريحات السبسي خلال اجتماع مجلس الوزراء، التي جعلت القانون المقترح يبدو أشبه بقرار لحل قضية شخصية يطرحه مسؤول يتمتع بفائض من الثقة في سلطاته التنفيذية، حيث يقول السبسي خلال الاجتماع “السجن! ما الذي سنستفيده من سجنهم؟ البلاد تحتاج للجميع، وفوق كل شيء، أولئك الذين يملكون المال”، وفي خضم ذلك لم يخض السبسي في تفاصيل الكيفية التي تم فيها كسب هذا المال، أو الطريقة المحتملة التي سيتم انفاقه بها، بل تابع قائلاً “أرى كبار المسؤولين الذين خدموا تونس يُجرّون إلى السجون، رغم أنهم لم يفعلوا شيئاً! ماذا فعلوا؟ كانوا يعيشون فقط في ظل نظام فاسد”.
وهنا كان السبسي يفترض بأن هؤلاء المسؤولين كانوا يعملون بشكل مستقل عما يُسمى بـ”النظام”، وربما خدم بعضهم الديمقراطية وازدهار تونس، ولكن بأي سبيل فعلوا ذلك بالضبط؟ لم يوضح السبسي!
ما زاد الطين بلة، قيام السبسي بالاستشهاد بقضية أحد المسؤولين الذين قد يستفيدون من مشروع القانون، حيث قال “لقد كان هناك شخص عمل معنا في رئاسة الوزراء، الرجل يبدو كملاك، ولكنهم طاردوه وأسندوا له حكماً بعامين مع وقف التنفيذ، وهنا أقول، نحن بحاجة إلى ترك هؤلاء الموظفين وشأنهم”.
على أرض الواقع، ما هو يطرحه السبسي على الساحة هنا، يتمثل بوضع الرغبات الخاصة لأرفع مسؤولي تونس في الميزان بمواجهة المصالح الاقتصادية الحقيقية، سيادة القانون، واستقلال القضاء، والتعليقات السابقة التي أطلقها السبسي، لا تظهر تردده بالالتزام بروح الديمقراطية المؤسساتية وسيادة القانون فحسب؛ وإنما تأكد على قدرته أيضاً على تمرير سياسات تشجع على انتشار الفساد.
سواء أكان ذلك عائداً لاعترافهم بفضل رأس المال الفاسد عليهم، أو ناجم عن نقص خطير في استشراف الأفق السياسي، فإن الوضع الحالي السيء لواضعي السياسات في تونس يعمل بالتأكيد على نهش آفاق التنمية في تونس وتقليصها، وبالمثل، فإنه يشير إلى أن رغبة النخب الحاكمة تتطلع صوب الهرب من الماضي أكثر من تطلعها إلى المستقبل، وهذا يمثل تحدياً وجودياً تواجهه الديمقراطية التونسية اليوم.
المصدر: ميدل إيست آي