من اسطنبول، المدينة الساحرة الصاخبة، عدت للبيت أمارس -أو قل أحاول أن أفعل- دور الأب المبتسم المهتم بدقائق رغبات أبنائه الأربعة في الملاعبة والتقبيل والحمل والاحتضان، ولكنها برهة من الزمن سرعان ما انقضت وذهب كل إلى مخدعه. وكعادتي حاولت أن أسترق سويعات من الليل كي أكمل كتابة مقال أو قراءة كتاب، فقاطعتني –زوجتي- المولعة بالسياسة والأخبار وبادرتني بالقول يا ترى لماذا كان سيد الشهداء من رفع الكلمة في وجه سلطان جائر وليس من رفع السلاح؟! وعاجلتني بالرد مبتسمة، إياك أن تقول لأن “سليمتنا أقوى من الرصاص”. قفز إلى ذهني حينها تلك الليالي وذلك الميدان التي تربع على رابعة القلب، استحضرت وقتها صوراً من واقع أمتنا وحالها الذي يدمي الفؤاد، تذكرت مواييل حمص ودرعا بداية ربيع الشام، استذكرت خطب الجمعة في فيافي بنغازي وحضرموت وصنعاء، سمعت صدى تونس “بن علي هرب” و “هرمنا من أجل هاااااذه اللحظة التاريخية” ويا لها من ذاكرة سرعان ما زاحمتها صور الأشلاء والدماء وأصوات الأنات والآهات والتفجيرات ودماء القتلى والجرحى وأنين الأسرى والمعتقلين والمغتصبين والمفقودين والمشردين واللاجئين وقوارب الموت وملاجئ القهر وظلم القربى وقسوة الشتاء و….
أيقظتني بقولها ياليتها دامت مثلما بدأت، ولكنها مشيئة الله وقدره الذي كتب علينا ولابد أن يكون. قلت لها متسائلاً، ما الذي قد يهز أركان أنظمة فاسدة ومفسدة كتلك التي عششت في ربوع بلادنا؟ أأزيز البنادق والقنابل وزخات الرصاص، أم تظاهرات سلمية وحناجر بالحق صادعة وأياد ترفع شارات وشعارات؟!
أجابتني: لعل البصرة، أرض الأنهار والنخيل ونبع الفلسفة والشعر الأصيل، تجيبك بتظاهرات شبابها وتحركات تجمعاتها التي هزت عرش الفساد والفاسدين. عادت العراق بصورة مشرقة كانت قد غيبت، عادت بغداد تتصدر عناوين الأخبار بعد أن أربكت تحركات شبابها وشباتها مطالبين بالحرية والديمقراطية والقضاء على طغمة من النخبة الجاثمة على صدر العراق وأهله.
على رسلك يا سيدتي، ألم يصلك الخبر؟! لقد هددوهم بخلع خيامهم وتدمير شعاراتهم بل والدوس على رقابهم! بل وأزيدك من الشعر بيتاً، لقد انتهى الاعتصام…! أين تعيشين أنت؟ لقد فاتك القطار… فاتك القطار…. القوة لا تجابه إلا بقوة والحقوق تنتزع بالسلاح لا بالمظاهرات الفارغة التي لا تسمن ولا تغني من جوع وعلى رأي اللبنانيين “اللي بيجرب المجرب، عقله مخرب”.
انتظر وما تقول في وسم #طلعت_ريحتكم؟ ألا يدحض ما تقول، ألم تعد تظاهرات الشباب اللبناني ذكريات الربيع العربي؟ هل شاهدت رئيس الوزراء اللبناني وكيف خرج على الشاشات معتذراً للشباب الثائر وكيف ذكرك ذلك بمشاهد بدايات الثورات العربية، أو كما يطربني تسميتها بالربيع العربي؟!
جميلة هذه التسمية، ولكن هل للربيع أن يأتي دون شتاء هائج يغسل ما خلفه خريف عاصف هز أركان الأشجار وأسقط أوراقها الميتة. كيف لمجرد صرخات وتظاهرات أن تخلع فساداً تغلغل إلى عمق حياتنا وأفسد تفاصيل مجتمعاتنا؟ كيف لأنظمة تقتات من جهلنا وغفلتنا وتنمو وتزدهر على فقرنا وتخلفنا، كيف لها أن تتنازل عن تلك الثروة والعظمة القميئة التي جعلت منها دكتاتوريات وامبراطوريات عفنة على مدار عقود من الزمن؟ لا بد لها من ثورة عارمة تدكها من جذورها وتخلعها من أعماقها.
إذاً، هل لك أن تفسر لي المفارقة الغريبة العجيبة التي حصلت في اللاذقية قبيل أيام بعد أن اشتعل الساحل العلوي بمظاهرات مطالبة بالقبض على سليمان الأسد ابن عم بشار الأسد بعد اتهامه بقتل العقيد حسان الشيخ الذي دعم الأسد ونظامه طوال فترة الثورة السورية. هل لاحظت رعب النظام وسرعة ردات فعله ومعاجلته الإعلان عن القبض على القاتل؟ ماذا لو استمرت المظاهرات وانتشر الشعور بالعدمية بين أبناء الطائفة العلوية الذين كانوا ولا زالوا وقود النظام ويده الضاربة؟
رائع ولكن ماذا حدث؟ ألم يهددوا عائلته ويرهبوهم بالحديد والنار وطمست القضية وانتهى الأمر وخرج القاتل يسرح ويمرح في لبنان آمناً مطمئناً؟ ثم لماذا تذهبين بعيداً هل نسيت رابعة؟! هل نسيت الوجوه النيرة؟! هل نسيت صلاة القائمين ودعاء الساجدين؟! ما الذي حدث؟ هل أرعبت الهتافات والصيحات والتكبيرات عرش الفرعون؟ هل أعادت حقاً مسلوباً وشرعية سحقت تحت أحذية العسكر؟ هل انتقمت للمغتصبات والمعتقلين والمطاردين؟ هل كسرت شوكة قاتل الشهداء الساجدين؟ هل رفعت الحصار عن غزتنا؟ هل أمسكت الصواريخ العربية المصرية عن دك بيوت الآمنين في درعا والزبداني والشيخ زويد والعريش؟
كيف لي أن أقنعك؟
إنها “رابعة” سيدة الشهداء وعيننا التي قاومت المخرز؟ صدقني لن تذهب دماؤها هدراً. ولكنه قدر الله النافذ وحكمته البالغة وسترى كيف أن سهام الدعاء وآهات الأرامل واليتامى ستدك معاقل الظلام وعروش الطاغين وستعود الكنانة والشام وأرض الرافدين واليمن السعيد وليبيا المختار وتونس الخضراء وكل بلاد العرب والمسلمين واحة تغرد على أغصانها بلابل الغربة وطيور الوطن السليب.
لا تقنعيني أنا، فأنا أعلم يقيناً أننا سنرى ذلك اليوم ونعيشه مع أبنائنا وأحفادنا بإذن الله ولكني أدعو أن يكون قريباً ويا ليت قريباً جداً.