هؤلاء الرجال كان بعضهم رأس الحربة التي استخدمت في الحشد ليوم الثلاثين من يونيو 2013 الذي أعقبه انقلاب الجيش في الثالث من يوليو على الرئيس السابق محمد مرسي الذي لم يمض على انتخابه سوى عام واحد فقط، إنها شبكة المصالح المعقدة التي تولدت عن فساد نظام مبارك طوال ثلاثين عامًا حكمهم الرجل، هذه الشبكة هي التي دافعت عنه حين اندلعت انتفاضة شعبية ضد استبداده في الخامس والعشرين من يناير إلا أن الطوفان كان أقوى فأجبرهم على تخطي لحظة مبارك والرضوخ للأمر الواقع، وذلك بعدما تورط بعضهم في جرائم ضد الثوار فضلًا عن الجرائم المالية.
لم تُفلح انتفاضة يناير ولا أطيافها في محاسبة هذه الشبكة التي ضحت ببعض رموزها الذين مثلوا قمة الجبل الجليدي بالنسبة إليها، بينما قاعدة الجبل كما هي ضاربة في أعماق المجتمع المصري، وحين انتخب مرسي كأول رئيس مدني منتخب لجمهورية مصر العربية ناصبوه العداء رغم محاولته تحييدهم في صراعه مع الدولة العميقة، إلا أن طبيعة هذه الشبكة المعقدة لا يجدي معها التحييد بأي حال.
استغل الجيش ومخابراته رجال أعمال العصر المباركي وبالتحديد الصفوف المتأخرة منهم التي تربت على يد مبارك الابن “جمال” بعدما بدأ الجيش في تكوين جبهة الثلاثين من يونيو وتوزيع أدوارها، فقد حقق الجيش معهم ما يسمى بـ “وحدة الهدف” وهي إزاحة جماعة الإخوان المسلمين من الحكم، فقد لعب الساسة أدوارهم، ولعبت البيروقراطية المصرية دورها بكفاءة، أما هؤلاء كانوا يضخون أموالهم في أدق نقاط قرى ونجوع مصر بالفضائيات لحشد الرأي العام ضد الرئيس السابق وجماعته وتمويل الحملات المضادة لهم، كل ذلك على أمل استعادة إمبراطورياتهم الاقتصادية مكانتها في الدولة.
تم المراد وظهر ممثل الجيش عبدالفتاح السيسي ليعلن عزل الرئيس السابق، ومنذ هذه اللحظة وبدأت مكونات تحالف المصالح البحث عن الغنائم التي انتظروها عقب الإطاحة بالسيد مرسي، ولكن الجيش وممثله طالبوا الجميع بالصبر حتى تدين لهم الدولة بأكملها، وقد نجحوا في إسكات أي صوت معارض للقمع وذلك بتأييد ومباركة من فضائيات رجال الأعمال الذين تبنوا معه معركة “الإرهاب المحتمل” وهللوا لها.
لم يكن يتوقع أحد أن الصراع بين أجنحة الانقلاب سيبدأ مبكرًا هذه المرة، فقد استرد الجميع قوتهم الآن وبدوا جاهزين لمعاركهم الداخلية بعدما اختفى “الهدف المشترك”، فبعد تنصيب السيسي رئيسًا بمباركة تحالف المصالح مع رجال الأعمال فوجئ الجميع بأن دورهم لن يتوقف عند حد الدعاية الانتخابية والمباركات، ولكن السيسي باغتهم بطلب 100 مليار جنية لانقاذ الاقتصاد المصري، ومن هنا بدأ الصراع بين السيسي ورجال الأعمال.
توجهات السيسي الاقتصادية ظهرت بعد عملية تنصيه رئيسًا لأن الرجل رفض الصعود إلى الرئاسة ببرنامج، وما مس رجال الأعمال مباشرة هو ترك السيسي العنان لاقتصاد الجيش للتوغل أكثر فأكثر داخل الاقتصاد المصري رغم أن الجيش المصري يمتلك قرابة 40% من الاقتصاد المصري بالأساس، وهو الأمر الذي خلق حالة من الهلع بين رجال الأعمال.
وفي أول رد فعل على توجهات السيسي الاقتصادية خاصة فيما يتعلق برجال أعمال الحزب الوطني، سحب بعضهم استثماراته من البورصة المصرية وهو ما أدى إلى وجود نزيف حاد في البورصة منذ تولي السيسي الرئاسة، كما أطلق بعضهم قنواته الفضائية لتهاجم السيسي وحكومته مع تقليل الدعم الإعلامي المقدم له كبادرة اعتراض على تحيزاته الاقتصادية للمؤسسة العسكرية.
المؤسسة العسكرية انطلقت في الاقتصاد المصري دون القيود التي وضعها عليها الرئيس الأسبق حسني مبارك، فعلى سبيل المثال كان الصراع بين الجيش ورجال الأعمال على أشده في زمن مبارك على أراضي الدولة، فقد اشتكى رجال الأعمال إلى مبارك وضع القوات المسلحة يدها على كثير من أراضي الدولة، مؤكدين حاجتهم إلى تلك الأراضي بغرض الاستثمار، وعلي إثر ذلك قام مبارك باستثناء أعداد من رجال الأعمال المصريين والعرب، في مقدمتهم رجال الأعمال المنتمين لأمانة السياسات بالحزب الوطني للحصول على قطع أراضي سياحية في شرم الشيخ والغردقة ومرسي علم والساحل الشمالي دون موافقة القوات المسلحة عن طريق استثناء مخصص قام به مبارك.
أما الآن فقد كشف السيسي عن نيته صراحةً الاستعانة بالمؤسسة العسكرية فى مواجهة الأزمة الاقتصادية، فى ظل طبيعة السوق المصرية التى يحظى فيها القطاع الخاص بدور بارز في حين اختفى منها دور القطاعين العام والتعاونى لحساب أساطيل القطاع الخاص التجارية، وهو الأمر الذي يريد السيسي الاستغناء عنه لصالح الجيش، بحيث يحتكر الجيش خدمات بعينها بدلًا من رجال الأعمال الذين كونوا ثروات طائلة من الاحتكار خلال العقود الماضية، وبهذا نظر رجال الأعمال إلى المؤسسة العسكرية كونها منافسًا لهم يهدد عروشهم الاقتصادية.
“هتدفع يعني هتدفع”
بهذه الصورة عزف رجال الأعمال عن تقديم الدعم المطلوب للسيسي عن طريق صندوقه “تحيا مصر”، وهو الأمر الذي استثار غضب السيسي في أحد لقاءاته ودفعه للتصريح لهم بجملة “هتدفعوا يعني هتدفعوا”.
معركة أخرى في الصراع ظهرت مع إصدار وزارة المالية المصرية في 7 أبريل 2015، اللائحة التنفيذية لقانون فرض ضريبة 10% على أرباح البورصة للمضاربين، وحملة أسهم الشركات، وهو القانون الذى أقره السيسى في يوليو 2014؛ الأمر الذي لقي رفضًا قاطعًا من بعض رجال الأعمال.
وقد أرجع محللون اقتصاديون أن الخسائر التى مُنيت بها البورصة فى هذا السياق بسبب بعض رجال الأعمال الذين لا يبالون بخسارة بعض من قيمة أسهمهم فى البورصة لفترة من أجل الضغط على النظام؛ حيث تمثل هذه الخسائر بالنسبة لهم خسائر مؤقتة ستزول حينما يرتفع سعر الأسهم، وهو الضغط الذي أدى إلى تأجيل العمل بقرار تطبيق الضريبة على الأرباح في سوق البورصة لمدة عامين.
جولة أخرى خاض فيها السيسي صراعًا مع المستوردين من رجال الأعمال بعدما أصدر البنك المركزى في 4 فبراير 2015 قرارًا يُقيد إيداعات الأفراد والشركات في البنوك المصرية من الدولار بعشرة آلاف دولار كحد أقصى في اليوم، و50 ألف دولار كحد أقصى في الشهر، بغية تقليل الطلب على العملة الصعبة، لتخفبض سعرها، وهو ما قوبل برفض رجال الأعمال المستوردين الذين يرون أن القرار يشل حركة الاستيراد لديهم لصالح شركات الجيش التي تتمتع بحرية الاستيراد والتصدير دون قيود.
الصراع ظل مكتومًا بقرارات تصدر من جانب النظام ورفض من جانب رجال الأعمال المتذمرين لمدة طويلة، إلى أن خرج على صفحات الجرائد وبعض شاشات الإعلام الموالية للرئاسة التي تتحدث عن تآمر رجال الأعمال على السيسي لإفشاله، لكن ظل هذا الهجوم غير مؤيد بأي رد فعل رسمي سلبي من النظام تجاه رجال الأعمال واقتصادهم الخاص.
فقد اتهم إعلامي معروف بقربه من الأجهزة الأمنية رجل الأعمال نجيب ساويرس بقيادة جبهة مكونة من رجال الأعمال لمنعهم من التبرع لصندوق السيسي، وقد تم تسريب عدة مكالمات لنجيب ساويرس في برنامج إعلامي كنوع من الضغط عليه للتوقف عن معارضته لابتزاز النظام لرجال الأعمال، إلى أن تم الاتصال بين مالك القناة التي تذيع هذه التسريبات ورجل الأعمال نجيب ساويرس وتم الاتفاق على منع ظهور هذا البرنامج.
ظهرت بوادر رد فعل نظام السيسي على رجال الأعمال المتذمرين، فقد وافق مجلس إدارة جهاز حماية المنافسة ومنع الممارسات الاحتكارية على إحالة محمد فريد خميس رجل الأعمال البارز إلى النيابة العامة بتهمة الممارسات الاحتكارية، حيث تسيطر مجموعته “النساجون الشرقيون” على 90% من سوق السجاد الميكانيكي في مصر، ومن المنتظر في حالة صدور حكم على المجموعة، فرض غرامة مالية عليه تصل إلى 300 مليون جنيه.
خميس لم ينتظر كثيرًا واستقل طائرة متجهة إلى ألمانيا، وهو ما يعني معرفته بأن أمر الإحالة إلى النيابة جدي وصادر من جهة سيادية وتعد هذه أولى خطوات النظام في تقليم أظافر بعض رجال الأعمال.
إجراء آخر اتخذه النظام ضد بعض رجال الأعمال ولكنه آثر أن يأتي بصورة غير رسمية حيث أحال القائم بأعمال النائب العام المستشار علي عمران، بلاغ مقدم من أحد أعضاء تحالف “تحيا مصر” الداعم للسيسي، إلى المحامي العام الأول لنيابات شرق القاهرة الكلية للتحقيق فيه بعدما اتهم رجل الأعمال أحمد أبوهشيمة، ووزير النقل الأسبق محمد منصور، ورجل الأعمال فرج عامر صاحب شركات عامر جروب، ورئيس حزب مستقبل وطن، محمد بدران، بالتآمر على الرئيس من خلال البرلمان المقبل، ومن الغريب أن يتحرك البلاغ بهذه السرعة وهو ما يعني أن ثمة رضا لدى النظام عنه.
لا يمكن فصل هذا الخبر عن خبر آخر يتحدث عن قيام رجل الأعمال الشاب أحمد أبو هشيمة عقب لقائه إبراهيم محلب رئيس الوزراء بالتبرع بمبلغ 50 مليون جنيه لصندوق السيسي، بالإضافة إلى التنازل عن ٧٥ مليون جنيه فرق ارتفاع الأسعار بالحديد، بجانب إعادة إعمار ٢٠ قرية فى صعيد مصر تكلفة كل قرية ٢ مليون جنيه تم البدء فيها.
فسر هذا البعض أنها رشوة “مقنعة” للنظام واستجابة لابتزازه بعد تحريك بلاغ ضد أبوهشيمة في النيابة العامة، فبينما فضل فريد خميس الخروج من مصر آثر أبوهشيمة أن يُزعن لضغوط النظام على رجال الأعمال بإجبارهم على مثل هذه التبرعات الضخمة من أجل سد العجز الحكومي.
الصراع بين السيسي ورجال أعمال البرلمان القادم
هذا البلاغ ضد رجال الأعمال بهذه الصيغة يحمل تخوف النظام وفي مقدمتهم السيسي من البرلمان القادم وبالتحديد من تحالف رجال الأعمال ضد السيسي وتكتلهم في البرلمان المقبل الذي يحاول السيسي تأخير إجراء انتخاباته بكافة السبل الممكنة.
السيسي يسعى قبل إجراء انتخابات البرلمان إلى إنشاء قائمة موحدة يضمن بها عدم الاصطدام مع البرلمان لكن حتى الآن كل هذه المحاولات بآت بالفشل، في ظل إلقاء الاتهامات على رجال الأعمال من قبل رجال الجنرال بأنهم من يرفضون الدخول في قائمة موحدة، كما يتهمونهم بالسعي للسيطرة على البرلمان من خلال دعم المرشحين أصحاب النفوذ في دوائرهم عن طريق الأموال.
رجال الأعمال قرروا عدم الانخداع هذه المرة للنظام وقرروا إعلان أنهم رجال اقتصاد وسياسة أيضًا إذا ما اضطروا لذلك للحفاظ على مصالحهم، فضرورة الاحتفاظ بورقة البرلمان في يدهم ضرورة حتمية لبقائهم، حيث استخدام التشريعات في مواجهة الرئيس وفي الدفاع عن مصالحهم الاقتصادية باستخدام أجندة تشريعية تخدم القطاع الخاص وتمنع من تغول اقتصاد الجيش عليهم.
حيث يتهم البلاغ الأخير أحمد أبوهشيمة ورجال الأعمال الآخرين المذكورين في البلاغ بدفع 200 مليون جنيه لأحزاب مقابل دخول البرلمان على قائمة هذه الأحزاب لضمان ولاء النواب في البرلمان لهم، كما اتهمهم البلاغ بالتنسيق مع رجال الحزب الوطني المنحل بالاتفاق على ضرورة إفراز برلمان يدين لمصالحهم لمساعدتهم على التهرب الضريبي والوقوف من خلال تشكيل الحكومة أمام نفوذ الرئيس بحسب اتهامات البلاغ المقدم.
هذا الصراع حقيقي وغير متوهم ولكن مآلاته غير معروفة حتى الآن، فهو بين شد وجذب ولكن الاحتدام يظهر كلما اقتربت انتخابات البرلمان، كما أن السيسي يحاول أحيانًا اجتذاب بعض رجال الأعمال هؤلاء إلى صفه باصطحابه إياهم في رحلاته الخارجية وبدعوتهم لحضور احتفالات الدولة الرسمية، لكن كل هذا لا يوضح إلى ما ستنتهي هذه الصراعات بين نظام السيسي الذي قرر الاعتماد على امبراطورية الجيش الاقتصادية وبين رجال الأعمال الذين يرون أنهم يُستبدلون من معادلة التأثير في الاقتصاد لصالح الجيش بعدما قدموا كل الدعم الممكن لتمكين ممثل الجيش من السلطة، وهو مما يعده البعض جرس إنذار يشير إلى نهاية تحالف المصالح بين نظام السيسي ورجال أعمال العهد المباركي.