تكاد تكون تونس الدولة العربية الوحيدة من دول الربيع التي نجحت في إرساء منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية ويعود ذلك إلى عدد من العوامل منها دور المجتمع المدني النشيط الذي اعتبر العدالة الانتقالية أحد أهم الاستحقاقات الوطنية التي لا يجب التهاون في وضع آليات تضمن تحقيقها، أيضًا وعي الرأي العام بكل المسائل المتعلقة بهذا الموضوع بدءًا من كشف الحقيقة وجبر الضرر وصولاً إلى المساءلة وإصلاح المؤسسات ووضع حزمة قوانين تكون إطارًا جامعًا يضمن التعامل مع ماضي الانتهاكات للنظام السابق، وقد توجت هذه الجهود بالفعل إلى إدراج فقرة في الفصل 148 من دستور 2014 الجديد تضمن الاهتمام بموضوع العدالة الانتقالية واعتباره أحد أهم الأولويات الحكومية، كما تم سن قانون متعلق بعد جولات تشاور موسعة شملت كل مكونات المجتمع المدني والأحزاب السياسية؛ مما يعد إنجازًا حقيقيًا في هذا المجال استقبلها الشارع التونسي والنخب بترحيب وتفاؤل.
لكن المسائل كانت مختلفة بعد الإعلان عن مشروع للمصالحة في المجال الاقتصادي والمالي، إذ أثار زوبعة من الانتقادات من قِبل الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني واعتبرته تراجعًا وانتكاسة للعدالة الانتقالية في تونس، أخطر ما جاء في مشروع القانون هو إيقاف المتابعة القانونية للموظفين العموميين في أعمال تتعلق بالفساد المالي والاعتداء على المال العام، وتم استثناء جرائم الرشوة والاستيلاء على الأموال العمومية، كما نص على إمكانية إبرام صلح يؤدي إلى توقيف المحاكمة أو إيقاف تنفيذ العقوبة، وهو ما يعني عفوًا عن أعمال وانتهاكات يجرمها القانون التونسي، هذا ما أدى إلى إثارة الجدل حول المشروع إضافة إلى أسباب أخرى أهمها أن نتائج الحوار الوطني الذي سبق صياغة مشروع العدالة الانتقالية تطرقت لموضوع المصالحة، وقد تضمنت التقارير الأولية أن هناك استعدادًا لإجراء مصالحة مشروطة تتم بعد استنفاذ الإجراءات القضائية وليس إلغائها؛ مما يوضح أن المزاج العام التونسي حاليًا يفضل تعزيز القوانين لمنع الإفلات من العقاب وتحقيق قصاص عادل للضحايا عبر المؤسسات وليس تجاهل الماضي، ومن ثم فإن المصالحة المتخيلة في هذا الإطار ستكون عبارة عن تحصيل حاصل بعد سنوات من إنجاز العدالة.
يبدو أن الحكومة التونسية قد استعجلت الأمور عما كان متوقعًا خصوصًا وأن تونس في الفترة السابقة لم تظهر أي تسامح يُذكر مع الانتهاكات في المجال الاقتصادي والاعتداء على المال العام، فقد تم إنشاء عدد من اللجان التي تهدف إلى كشف الفساد ومكافحته لدرجة أن تونس عرفت حالة تضخم مؤسساتي في هذا المجال، هذا إضافة إلى القضايا التي تم إحالتها إلى المحاكم المختصة والتي كان من أبرز المتهمين فيها عائلة بن علي إضافة إلى بعض رموز النظام السابق، ومن ثم فإن التراجع المفاجئ عن النظر في هذه الانتهاكات والتغاضي عنها أو إصدار عفو تشريعي للمتهمين بها يُعد انعطافة لم يكن ينتظر أحد أن تحدث بهذا الشكل.
هذا إضافة إلى الطريقة التي تم بها صياغة مشروع القانون، إذ لم يتم استشارة الهياكل القائمة المتخصصة بموضوع العدالة الانتقالية مثل هيئة الحقيقة والكرامة التي أنشأها القانون 53 الذي يتعلق بإرساء العدالة الانتقالية وتنظيمها، ولم يتم إشراك المجتمع المدني والأحزاب السياسية، إذ تم صياغة المشروع بالطريقة التقليدية القديمة فالسلطة التنفيذية هي التي اقترحت وصممت المشروع وستطرحه على المجلس التأسيسي.
كما أنه يتعارض مع حزمة القوانين التي تنشئ هيئات مكافحة الفساد وخرقه للدستور، ربما قد لا تكون هذه المرة الأولى التي يتم فيها خرق القوانين في هذا المجال؛ فقد حدث ذلك سابقًا مع الكتاب الأسود الذي خرق القوانين المتعلقة بحماية المعطيات الشخصية وحماية الأرشيف السياسي، لكن الاختلاف بين الحالتين أن الرئاسة – في عهد المنصف المرزوقي – تنصلت من الكتاب والبيانات الواردة فيه واعتبرتها تسريبًا وإجراء غير رسمي، لكن الحال مع مشروع القانون الذي سيعرض على البرلمان مختلف جدًا خصوصا وأن الاختلالات المضمونية تزامنت مع اختلالات شكلية أيضًا.
الأمر الآخر يتعلق بأن مشروع المصالحة الاقتصادية لا يحقق فائدة تذكر للشعب ماعدا الفائدة الاقتصادية التي تروج لها الحكومة والتي قد تظهر آثارها الاجتماعية بشكل مباشر أو بالتدريج، وهو على عكس ما هو شائع في قوانين المصالحة، فمثلاً المصالحة في الجزائر أدت مباشرة إلى تحسين الوضع الأمني بشكل محسوس بالنسبة لرجل الشارع العادي وحقق له هدفًا وهو ما أدى إلى تقبلها كفكرة رغم وجود منغصات من حين إلى آخر تدعو إلى إعادة فتح الملفات وتحقيق القصاص للضحايا والرد على مطالب أهالي المفقودين التي تعد أعقد جزئية إلى الآن.
لا شيء يفسر اندفاع الحكومة التونسية الحالية وتحمسها لهذا القانون رغم البلية التي أحدثها سوى أنها واثقة من أن جهود التعبئة التي اتخذتها بعض الأحزاب داخل البرلمان من المعارضة على عاتقها ستفشل خصوصًا مع عدم ممانعة حزب النهضة المتحالف مع حزب نداء تونس حاليًا وهو ما سيكفل للمشروع أغلبية مريحة تضمن تمريره، وهذا ما قد تؤكده الأيام القليلة القادمة، إضافة إلى عدم وجود أي حساسية لدى النخبة الحاكمة الحالية من إصدار عفو أو السماح بإعادة بعض وجوه الحرس القديم إلى الواجهة السياسية.