فرضت الأحداث الجارية في المنطقة العربية منذ الربيع العربي على الفاعليين الدوليين والإقليميين إعادة تقييم أولوياتهم وأهدافهم الإستراتيجية بما يخدم مصالحهم القومية، وقد كانت واحدة من أهم متطلبات المرحلة هي إعادة التموضع ضمن منظومة من التحالفات الجديدة التي تخدم هذه الأهداف، وتتخذ من الفاعلية وتقاطع المصالح مقومات أساسية لها.
وبالنظر إلى النفوذ الأمريكي الكبير في المنطقة (رغم الحديث المتواصل من قِبل الكثير من الخبراء والباحثين في الشؤون الشرق أوسطية عن تراجع هذا النفوذ) فإن محور التحالفات يدور حول السياسات العامة التي تعمل واشنطن على تحقيقها في المنطقة لخدمة إستراتيجيتها الكونية المتمثلة أساسًا في الاستمرار كقطب أوحد في العالم، وهو ما يتطلب بشكل ملح احتواء العملاق الصيني في منطقة شرق أسيا وبحر الصين الجنوبي، وهي المنطقة التي تفرض فيها الصين واقعًا جيوإستراتيجيًا غير تقليدي يتمثل ببناء ما يعرف بالجزر الصناعية الخاضعة لها على المستوى السيادي.
وقد درجت الدراسات بالحديث عن أن أولويات أمريكا في الشرق الأوسط تتمحور حول ضمان أمن إسرائيل، والحفاظ على تدفق آمن لمصادر الطاقة الطبيعية، غير أن هذه الأولويات لم تعد كافية لتفسير السلوك الأمريكي في المنطقة، فقد أفرزت الوقائع الجيوإستراتيجية الجديدة والتحولات في مجال الطاقة، معطيات جديدة سمحت بإدخال أولويات أخرى للسياسة الأمريكية، وستكون هذه الأولويات واحدة من أهم الأساسات التي تعتمد عليها خريطة التحالفات في المنطقة، ويأتي على رأس هذه الأولويات: أولاً، محاربة “تنظيم الدولة الإسلامية”، وثانيًا، التقليل من العبء الأمريكي في المنطقة لتحرير الطاقات والموارد اللازمة لتحقيق الهدف الإستراتيجي المتمثل باحتواء الصين من خلال التركيز على منطقة جنوب شرق أسيا.
عند النظر من الزاوية الأمريكية للمكونات التي يتشكل منها الشرق الأوسط، والنظر في أي من هذه المكونات يتقاسم مع واشنطن المصالح ذاتها وعلى رأسها محاربة “الإرهاب”، ويمتلك في ذات الوقت رصيدًا من الفاعلية يمكن المراهنة عليه يتبين أن أمريكا أمام:
أولاً: حلفاؤها العرب الذين لا يمكن المراهنة عليهم نظرًا للأزمات الداخلية الكبيرة التي يعانونها على المستوى القطري، بالإضافة لحالة العجز والهشاشة التي يعاني منها النظام العربي بشكل عام سواء على المستوى البنيوي أو السياسي، وقد كان الرئيس الأمريكي واضح في تشخيصه للأزمة العربية حينما قال إنها تكمن في الأزمات الداخلية الكامنة في انعدام الثقة بين الشعوب وحكوماتها، وإذا كانت الدول العربية الحليفة للولايات المتحدة تتقاسم معها أولوية محاربة تنظم الدولة إلا أن الأمر لا يتوقف على ذلك، فبالنظر إلى فاعلية هذه الدول مقارنة بغيرها من الفاعليين الإقليميين فإنها تعد متواضعة إلى حد، وهو ما يجعل التعويل الأمريكي على هؤلاء الحلفاء في حدوده الدنيا.
ثانيًا: تركيا وهي الدولة العضو في حلف شمال الأطلسي، وتملك على مستوى الفاعلية رصيدًا أكبر مقارنة بالدول العربية في التأثير على مجريات الأحداث خصوصًا محاربة تنظيم الدولة، فالدولة التركية تتميز باستقرار في نظامها السياسي رغم وجود أزمة في تشكيل الحكومة بعد الانتخابات الأخيرة، إلا أن هذه الصعوبات تأتي من باب تقاسم النفوذ داخل النظام السياسي ولا تأتي على حساب النظام السياسي ذاته، كما أنها تملك ثاني أقوى جيش في المنطقة وثاني أكبر جيش في حلف شمال الأطلسي، ولها أدواتها خصوصًا في شمال سوريا والعراق، وفي حال استخدام هذه الأدوات بطريقة ذكية فإنها قادرة على إحداث فارق ملحوظ.
غير أن الأتراك لا يتشاركون مع الأمريكيين بذات الأولويات؛ فعندما كانت أولوية واشنطن قتال تنظيم الدولة، كانت أولوية الأتراك محاربة نظام الأسد، وبناء على ذلك بقيت أنقرة خارج التحالف الدولي الذي قادته واشنطن لمحاربة تنظيم الدولة، إلى أن جاءت الانعطافة التركية المفاجئة في هذا الملف، ودخولها على خط محاربة التنظيم، واتفاقها مع واشنطن على فتح قواعدها الجوية لتسهيل المهمات القتالية، وإذا كانت هذه الانعطافة قد منحت زخمًا للدور التركي من وجهة نظر الإدارة الأمريكية إلا أن الأخيرة بقيت متشككة، ذلك أن دخول تركيا لم يأت عن قناعة تامة بضرورة قتال التنظيم، وإنما كغطاء لمحاربة حزب العمال الكردستاني، وبذلك تكون انعطافة أنقرة تكتيكية، وهو ما لم يساعد على تدفئة العلاقة بين أنقرة وواشنطن، ويمكن التدليل على ذلك من خلال القرار المفاجئ الذي اتخذه الجيش الأمريكي بسحب بطيارات “باتريوت” من الجنوب التركي بعيد توقيع الأتراك والأمريكان لاتفاقية القواعد الجوية التركية، وإذا صحت التقارير التي تشير إلى أن قرار سحب البطاريات قد اتخذ في البنتاغون منذ أشهر ولم يتم الإفصاح عنه رغبة في عدم التشويش على مفاوضات القواعد الجوية، وإنما تم الإعلان عنه بعد ذلك؛ فإنها بلا شك تظهر حجم الثقة المتواضعة بين الجانبين التركي والأمريكي.
وقد أثر الاختلاف على الأولويات بين الجانبين التركي والأمريكي على المكون الثالث، وهو المكون الكردي.
فقد أثبت الأكراد أهمية دورهم وفعاليته في قتال تنظيم الدولة في شمال سوريا، فلطالما احتاجت الولايات المتحدة إلى جنود على الأرض يمكن الاعتماد عليهم لدحر تنظيم الدولة، وهو ما وفرته قوات حماية الشعب الكردية، والتي حققت إنجازات عسكرية مهمة في عين العرب – كوباني، وتل أبيض، والحسكة، وترتبط هذه القوات بشكل كبير بحزب العمال الكردستاني، ومن هنا فإن ما تراه تركيا دعمًا للأكراد في شمال سوريا من قِبل أمريكا إنما يصب في مصلحة حزب العمال الكردستاني، فالأتراك لا يخفون خشيتهم العميقة من أن أي كيان كردي سيقوم في شمال سوريا كمنحة جراء خدماتهم التي يقدمونها في الحرب ضد تنظيم الدولة، سيشكل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومي التركي، وذلك من خلال تعزيز الروح الانفصالية لأكراد تركيا، ومن هناك كان التحرك التركي السريع لضرب حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي وفي جبال قنديل (مع العلم بأن حزب العمال الكردستاني هو الذي بادر بالقتال)، ورفع مستوى دعم المعارضة السورية في الشمال من أجل التمدد على حساب قوات حماية الشعب التركية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، ويبدو أن هذا لم يرق للجانب الأمريكي بشكل كبير، فقد عبرت واشنطن عن دعمها الفاتر لتركيا في عملياتها ضد “الكردستاني” وطالبتها بأن يكون ردها “متكافئًا” على هجماته، ولكن ورغم كل ذلك تبقى فاعلية الأكراد محل تساؤل طالما لم تقم لهم دولة مستقلة، وهو الأمر الذي لا يمكن حدوثه في المستقبل المنظور على أقل تقدير.
إذن وبالنظر إلى ضعف فاعلية العرب، واختلاف الأولويات مع تركيا، وصعوبة المراهنة على لاعبين بلا دولة كالأكراد، يبقى أمام الإدارة الأمريكية مكون واحد يتحقق فيه شرطي الفاعلية والتقاء المصالح وهو إيران.
ثالثًا: فإيران على مستوى الفاعلية تتوافر فيها الشروط المؤهلة لتمارس دورًا محوريًا، بدليل نفوذها الكبير في كل من العراق وسوريا وإلى حد ما في اليمن، كما يشكل تقاطع مصالحها مع الولايات المتحدة في أولوية محاربة “الإرهاب” وخصوصًا تنظيم الدولة، رافعة مهمة في التقارب بين الجانبين والتعاون فيما بينهما في هذه الملفات الشائكة، فإذا كانت إيران مستعدة للتعاون مع الولايات المتحدة في محاربة الإرهاب، وفي نفس الوقت تقدم ضمانات تجاه عدم استهداف إسرائيل، فإن إيران بلا شك ستكون الدجاجة التي تبيض ذهبًا، ويمكن وضع الاتفاق النووي مع إيران في هذا السياق، فلكي يحدث تقارب بين الولايات المتحدة وإيران وتفعيل شرطي الفاعلية وتقاطع المصالح فكان لا بد من تجاوز بعض الملفات العالقة والتي كان من أبرزها وأهمها المشروع النووي الإيراني، ومن المهم هنا التنويه أن دور إيران من وجهة نظر إدارة أوباما لن يقتصر على محاربة “الإرهاب” بل في الترتيبات الأمنية طويلة الأمد والتي ترغب أمريكا في ترسيخها لكي تتفرغ لمشروعها الكوني في احتواء الصين والبقاء كالقطب المتفرد بالهيمنة عالميًا، وبذلك فإن تهيئة إيران لا يخدم فقط الأجندات الإقليمية للولايات المتحدة في منطقة الشرق الأوسط بل ويخدم أجنداتها الكونية أيضًا.