لطالما حرص النظام السوداني في الآونة الأخيرة على عدم استعداء النظام المصري علنًا خاصة وأن المصالح التي تربط البلدين أعمق وأشد ضرورة من أي خلافات أخرى بين الجانبين، فالنظام السوداني المحسوب على الإسلاميين اعترف بانقلاب الثالث من يوليو على رفاقه من الإسلاميين في مصر قسرًا تحت دعاوى عدم القدرة على الدخول في صراع مفتوح مع الطرف المصري.
كذلك النظام المصري عمل على تحسين علاقته بالنظام السوداني في الآونة الأخيرة بزيارات قياسية متتالية لم تحدث في تاريخ البلدين منذ زمن بعيد للرئيس المصري الحالي عبدالفتاح السيسي، نظرًا لحاجته إلى دعم السودان في ملف سد النهضة الإثيوبي، تلك الأزمة التي ساهمت السودان في تأجيلها مؤقتًا بتوقيع الاتفاقية الأخيرة بشأن السد في الخرطوم بين الدول الثلاث.
لكن هذا لا ينفي أن ثمة خلافات قائمة مكتومة في الغالب بين الأنظمة المصرية المتوالية والنظام السوداني القائم منذ عقود بسبب النزاعات الحدودية والأنشطة الاستخباراتية بين البلدين، لا سيما منذ حادثة محاولة اغتيال الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك التي اتهم النظام المصري فيها النظام السوداني بالتورط، ولكن مع مرور الوقت عادت العلاقات الشكلية بين البلدين لطبيعتها وبقية النزاعات طي الستر دائمًا.
اشتعلت مجددًا عدة أزمات بين الدولتين ظاهرها الخلاف بسبب تنافر السياسة الخارجية للدولتين، بالتحديد بعد إزاحة الرئيس الإسلامي محمد مرسي من قبل وزير دفاعه عبدالفتاح السيسي الذي وضع محاربة الإسلاميين في المنطقة بإثرها كأولى أولوياته الخارجية، بينما النظام السوداني المحسوب على تيار الإسلام السياسي بشكل أو بآخر متورط في دعم حركات إسلامية في المحيط الإقليمي خاصة في ليبيا منذ اندلاع الثورة على حكم القذافي وإسقاطه.
القاهرة بدعم إماراتي لم تخف نواياها في العزم على التدخل العسكري في ليبيا لمساندة قوات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود ما يسمى عملية “الكرامة” المساندة لحكومة طبرق وقد تم هذا بالفعل باعترافات دولية، فيما يدعم النظام السوداني الثوار في ليبيا منذ اندلاع الثورة على القذافي بسبب الخلافات المتوارثة بين نظام البشير والقذافي، واستمر دعم السودان للفصائل الإسلامية المقاتلة في ليبيا بعد سقوط القذافي من خلال الدعم غير المعلن لعملية “فجر ليبيا” تلك القوات التابعة للمؤتمر الوطني العام الليبي الذي تتشكل أغلبيته من خلفيات إسلامية على رأسها جماعة الإخوان المسلمين الليبية التي يناصبها السيسي العداء باعتبارها امتداد إقليمي للجماعة الأم في مصر التي تُشكل خطرًا على حكمه الوليد.
هذه هي نقطة الخلاف الأبرز بين النظام المصري ونظيره السوداني حاليًا، وهو الأمر الذي حاولت مصر والإمارات مرارًا الضغط على النظام السوداني فيه لإثنائه عن دعم الإسلاميين في ليبيا، بينما تُنكر الراوية السودانية هذا الأمر بشكل دائم مؤكدة التزامها الحياد في الأزمة الليبية.
ومع تزايد اتهامات القاهرة للسودان بدعم الجماعات الإرهابية في ليبيا على لسان حليف القاهرة خليفة حفتر دائمًا، اتهم مصدر سوداني مسؤول الحكومة المصرية بدعم مجموعة القائد العسكري الليبي خليفة حفتر بالسلاح والعتاد لمحاربة الجماعات الإسلامية في ليبيا، كما أكد المصدر أن الحكومة السودانية ليست لها أي صلة بالإسلاميين في ليبيا، مشيرًا إلى أن السودان تعترف بحكومة عبد الله الثني وتتعامل معها وليس من المنطق والعقل أن تتعاون مع جماعات مناوئة لها، فيما استنكر اتهام القائد العسكري الليبي خليفة حفتر للسودان بدعم جماعات إرهابية في ليبيا، وأشار إلى أنها ليست المرة الأولى التي يتهم فيها حفتر السودان.
هذا الإنكار السوداني يثير حفيظة القاهرة دائمًا التي علمت حقيقة الدعم السوداني للإسلاميين في ليبيا من خلال أنشطتها الاستخباراتية على الحدود بين البلدين، وهو السر وراء رفض السودان تأييد أي عمل عسكري في ليبيا مع تفضيل اللجوء إلى الحلول السياسية بحسب التصريحات الرسمية للرئاسة والخارجية السودانية، على عكس الرغبة المصرية التي تسعى الآن إلى تشكيل تحالف عربي لتوجيه ضربة عسكرية داخل ليبيا تحت زعم محاربة “داعش” بعد استنجاد حكومة طبرق بالجامعة العربية لمساعدتها في مواجهة داعش.
السودان يرى أن هذا مخططًا مصريًا إماراتيًا لتوجيه ضربات عسكرية إلى الإسلاميين عامة في ليبيا المتنازعين مع حكومة طبرق وليس لمحاربة داعش كما هو الهدف المعلن من تشكيل القوة العربية المنوط بها التدخل في ليبيا، لذلك أكدت مصادر من داخل الجامعة العربية أن مصر رفضت مشاركة السودان في هذه القوة إلا بالنذر اليسير، بينما تريد السعودية أن تنطلق هذه القوة العسكرية بالأساس من السودان لضمان التزامها بالأهداف التي ستقررها الجامعة العربية، ولقطع الطريق أيضًا على المخطط المصري الإماراتي في التحكم بهذه القوات وهو ما لاقى استحسان الجانب السوداني الذي وافق على هذا المقترح السعودي.
هذا الاتفاق السعودي والسوداني ربما يجمد مشروع السيسي في ليبيا إلى أجل غير مسمى، خاصة مع فشل السيسي في إقناع الجانب السعودي بضرورة خوض عملية عسكرية شبيهة باليمن وهو ما تراه السعودية في توقيت غير مناسب نظرًا لظروفها الإقليمية وتورطها في الصراع اليمني والسوري.
أسباب أخرى لتدهور العلاقة بين النظامين المصري والسوداني
ومما يزيد الجفاء بين نظام السيسي ونظام البشير في هذه الآونة هو علم السودان بوجود تدخل مصري في أزمة دارفور كنوع من الضغط والمساومة على النظام السوداني، مما يساهم في تعقيد الأزمة بين النظام السوداني والمتمردين هناك، ظهرت آثار هذا التدخل المصري مؤخرًا بعد أن كشف بعض النشطاء عن عثور الأمن السوداني على أسلحة مصرية من مصانع أبي قير الحربية في حوزة متمردي دارفور منذ عدة أيام.
مصادر سودانية أكدت أن حكومة بلادها سلمت الرئاسة المصرية احتجاجًا شديد اللهجة بخصوص السلاح المصري المتواجد بحوزة المتمردين وتساءلت عن مصدره، لكن حتى الآن لم ترد الحكومة المصرية على الرسالة السودانية وتجاهلت الأمر تمامًا، فيما تشير مصادر أخرى أن هذا الإجراء سيتبعه عدة إجراءات تصعيدية أخرى في اتجاه العلاقات بين الدولتين.
ومما يثير غضب النظام السوداني أيضًا هو قرار الحكومة المصرية الأخير باشتراط الموافقة الأمنية عند سفر المصريين إلى السودان، وهو ما تعتبره السودان إجراء به إشارة أن السودان تعد دولة معادية لمصر، وهو الأمر الذي قد تقوم الحكومة السودانية بالرد عليه بالتضييق على المصريين المتواجدين على أراضيها.
في حين تتهم وسائل إعلام مصرية النظام السوداني بفتح بلاده لإيواء عناصر من جماعة الإخوان المسلمين والسماح لهم باستخدام السودان كمحطة للخروج إلى دول أخرى، وقد طالبت مصر الحكومة السودانية مرارًا بضبط حدودها لمنع العناصر المطلوبة أمنيًا من الهروب إلى السودان عبر الحدود المشتركة، وهو ما يُقابل بالنفي دائمًا من الجانب السوداني.
النظام السوداني يتهم النظام المصري دائمًا بممارسة نشاط استخباراتي غير مرغوب فيه على الأراضي السودانية، ولطالما أعلن جهاز الأمن والمخابرات السوداني عن كشفه لشبكات تجسس لصالح النظام المصري في عدة مناطق، في حين يكون الرد المصري دائمًا إما بالتجاهل أو بالإنكار، آخرها حادثة الصيادين المصريين الأخيرة المحتجزين لدى السلطات السودانية التي اتهمتهم باختراق الحدود السودانية وممارسة نشاط استخباراتي على أراضيها، لكن هذه المرة الحكومة المصرية تدخلت وحاولت تسوية الأمر مع الجانب السوداني مقابل الإفراج عن بعض السجناء السودانيين في القاهرة.
وحين أفرجت السلطات السودانية عن الصيادين المصريين، تأخرت مصر في تنفيذ وعدها بالإفراج عن سجناء الجانب السوداني، وهو ما أشعل الغضب في نفوس الصحافة السودانية والحكومة التي طالبت مصر بسرعة الإفراج عن السجناء السودانيين.
هكذا خرجت التوترات في العلاقات بين النظامين المصري والسوداني إلى العلن بعد أن حاول كلا الطرفين عدم إظهار العداء إلى الآخر مطلقًا، لكن السياسة الخارجية المتنافرة أدت إلى تفجير المشاكل العالقة بين الدولتين، وهو ما يُشير إلى أن ثمة انفجار وشيك في العلاقات المصرية السودانية إذا ما استمرت الإجراءات التصعيدية من الجانبين، وما لم تتدخل قوى إقليمية لتهدئة الأوضاع واحتوائها بين الجارتين.