من بين أكثر من عشرة آلاف شخص تدفقوا لحمل نعش علي ألكان، ضابط الجيش التركي الذي قتله مسلحو حزب العمال الكردستاني الأسبوع الماضي، لم يتمالك أخوه محمد ألكان نفسه وصرخ في حضور مندوبي حزب العدالة والتنمية، موجهًا كلامه ضمنيًا للرئيس التركي رجب طيب أردوغان، “لماذا يتكلم الآن عن الحرب من كان بالأمس يتغنى بعملية السلام؟ من يقول أنه يود الشهادة عليه بالتوجه لساحة القتال، لا الجلوس في قصر مدجج بالحرس والعربات المصفحة.”
ساعات قليلة وكانت كلمات ألكان قد أشعلت المواقع ووسائل التواصل الاجتماعي، بين معارضي أردوغان الذين اعتبروها دليلًا على وجود غضب ضد الرئيس داخل صفوف الجيش، وتراجع حقيقي لشعبية الحزب الحاكم إن لم يكن انقلاب شرائح واسعة ضده، ومؤيديه الذين شنوا هجومًا على ألكان باعتباره “يصطاد في الماء العكر،” متهمين إياه بالتحالف مع حركة كولن لتشويه صورة الحكومة مستغلًا في ذلك جنازة أخيه الضابط الشهيد.
محمد ألكان بجانب نعش أخيه
التوتر هو سيد المشهد في تركيا هذه الأيام إذن، بين انخفاض شعبية حزب العدالة والتنمية بشكل غير مسبوق قد يهدده في الحقيقة بعد أن قرر المغامرة والتوجه نحو الانتخابات المبكرة بدلًا من تشكيل ائتلاف مع العلمانيين، وهي مغامرة يُقال أن أردوغان هو الذي سيّر دفتها على عكس رغبة البعض داخل الحزب، والتي وصفها رئيس حزب الشعب الجمهوري العلماني كمال قلجدار أوغلو بـ”الانقلاب المدني” على الديمقراطية، إذ يُقال أن اتفاقًا كان موجودًا بالفعل بين حزب الشعب وحزب العدالة والتنمية بالفعل لمشاركة السلطة، تضمن حصول العلمانيين على الخارجية والتعليم، وهو ما رفضه أردوغان.
العلمانيون يريدون الخارجية بالطبع لإصلاح صورة تركيا قليلًا والعودة إلى تصفير المشاكل كسياسة رئيسية في المنطقة، وهو ما كان سيتضمن على الأرجح إعادة فتح القنوات الدبلوماسية مع مصر، أضف لذلك أن اهتمامهم بالتعليم كان لينطوي ربما على إعادة فتح مراكز حركة كولن التعليمية، والتي أغلقت في غمرة احتدام الصراع بين الحركة وأردوغان في 2013، بشكل لعله يعطي الحزب أصوات الحركة في الانتخابات المقبلة، والتي ذهبت هذه المرة إلى الحزب القومي كما يقول المقربون من الحركة.
لم تجري الرياح بما اشتهى كل من أراد التهدئة واستيعاب دروس الانتخابات على ما يبدو إذن، لتقرر تركيا الاتجاه نحو انتخابات مبكرة في نوفمبر المقبل، وتبدأ جهود تشكيل حكومة انتقالية بموجب الدستور تسيّر دفة البلاد خلال الأشهر الثلاثة المقبلة، وهي حكومة أعلن عنها رئيس الوزراء أحمد داوود أوغلو بالأمس، وضمت وزيرَين من حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، حصلا على وزارتي التنمية والاتحاد الأوروبي علاوة على كون أحدهما نائبًا لرئيس الوزراء، ووزيرًا واحدًا من حزب الحركة القومي هو طغرل توركَش، كنائب للرئيس أيضًا.
القوميون المحافظون والفرصة الذهبية
تجمّع أنصار الحركة القومية في مدينة أفيون
يلفت الانتباه هنا دخول شخص من القوميين للحكومة، وهي خطوة لا نعلم أهدافها بالضبط، بيد أن الخلافات التي اشتعلت داخل حزب الحركة نتيجة قبول توركش للوزارة تشي بأنها ربما محاولة من العدالة والتنمية لخلخلة صورة الحركة القومية التي ارتفعت أرصدتها بقوة في الانتخابات الماضية نتيجة تراجع شعبية العدالة والتنمية فيما يخص الملف الكردي، والذي يرى الأتراك المحافظون أن أردوغان قد تهاون فيه مع الأكراد أكثر من اللازم، فتوركش هو نجل زعيم الحزب السابق ألب أرسلان توركش، وقد خسر انتخابات رئاسة الحزب لصالح رئيسه الحالي دولت بغشلي عام 1997، ليقوم الأخير بتخفيف النبرة القومية العلمانية وتعزيز الرصيد المحافظ للحزب في قلب الأناضول.
شعبية القوميين في ارتفاع شديد هذه الأيام بالطبع، كما جرت العادة في الساحة السياسية التركية كلما اشتعلت أجواء الحرب مع حزب العمال الكردستاني، والفرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى للحزب لتعزيز أرصدته نظرًا لقدرته على منافسة العدالة والتنمية واكتساب الشرائح المحافظة في الأناضول، والتي لا يعجبها أداء الحكومة، وتجد في أجندة الحزب القريب من المحافظين منذ رئاسة بغشلي خلال العقد الماضي بديلًا جيدًا، وإن كان الحزب قد أكل بالفعل مليونين من رصيد العدالة والتنمية في الانتخابات الماضية، فإن نصيبه مرشح للازدياد أكثر من أي حزب آخر في الانتخابات المقبلة.
لم يكن غريبًا إذن أن يعلن حزب الحركة القومية في وقت مبكر عدم رغبته في خوض مفاوضات لتشكيل حكومة ائتلافية مع العدالة والتنمية، فهو يدرك جيدًا أن الانتخابات المبكرة تصب في صالحه تمامًا، في حين أن دخوله إلى حكومة ائتلافية هشة في ظل أوضاع متوترة بهذا الشكل قد يعرضه لخسارة أصوات كثيرة إذا لم يبلي بلاءً حسنًا في الحكومة، أضف لذلك أن ائتلافه مع العدالة والتنمية كان ليزيد الطين بلة فيما يخص الملف الكردي، إذ أن دخول القوميين في تحالف مع الحكومة المحافظة أصلًا كان ليكون بمثابة “إعلان حرب” على الأكراد في جنوبي شرقي البلاد، كما قال رئيس حزب الشعوب الديمقراطي الكردي صلاح الدين دميرطاش في تصريح سابق له.
الملف الكردي المأزوم
صلاح الدين دميرطاش رئيس حزب الشعوب الديمقراطي بين أنصاره من الأكراد
على الناحية الأخرى، تدور في الولايات الكردية رُحى الحرب مع حزب العمال الكردستاني، بينما يعيش الأكراد أجواءً لم يخطر ببالهم أن يعيشوها مجددًا منذ فتح باب عملية السلام وصعود العدالة والتنمية، فحالة الطورائ المُعلنة تعيق الجهات المحلية المنتخبة عن أداء واجباتها، في حين تشهد الولايات حضورًا قويًا لسلطان الدولة المركزية في أنقرة بشكل كبير نتيجة الحرب الجارية، وهو ما يقول مسؤولو حزب الشعوب أنه يهدد بتدهور الأوضاع، بل ويبدو أنه دفع بعض الراديكاليين في صفوف الحزب لإعلان الحكم الذاتي للفكاك من أنقرة، وهي خطوات أدت لاعتقال بعضهم.
“المسؤولون لم يعد لديهم سلطة حقيقية في دياربكر، وكل القرارات يتم اتخاذها من أنقرة فيما يبدو أنه جزء من فلسفة حرب، وضع كهذا قد ينزلق بسهولة من أيدينا، ويصل لنقطة قد لا يكون فيها حتى قرار بالتهدئة كافية لاحتواء الأجواء،” هكذا صرح فِرات أنلي نائب عُمدة دياربكر، وهي تحذيرات تبعتها انتقادات حادة من نائب آخر، هو كولتان كيشاناق، الذي قال بأن الحزب لم يعد يعرف على وجه التحديد عدد النواب والعُمَد الذين اعتُقلِوا في موجة الاعتقالات الأخيرة.
من ناحيته، قال رئيس الحزب صلاح الدين دميرطاش في تصعيد لخطابه الذي اتسم بالهدوء على مدار الأسابيع الماضية، أن الأكراد قد يصلوا لمرحلة لا يجدوا فيها خيارًا سوى إعلان الحكم الذاتي، لا سيما وأن النواب المنتخبين لم يعُد يُسمَح لهم حتى بدخول بعض المدن والقرى في جنوب شرق البلاد، والتي من المفترض أن يباشروا أعمالهم التي انتخبوا لأجلهم فيها، “لقد حصل نوابُنا على 90% من الأصوات في ولاية حقاري، ولكن حاكم الولاية المعيّن من قبل حزب العدالة والنتمية رفض دخولنا لعشر ساعات، وقام بإغلاق مداخل مدينة يوكسيكوفا بالعربات المدرعة، الآن دعوني أسأل ما هو الذي يملكه الأكراد في وضع كهذا سوى إعلان الحكم الذاتي؟”
معسكر أردوغان: مغامرة أخيرة
بين المطالب بتشديد قبضة الدولة على الأكراد بين المحافظين من الأتراك والحاجة إلى إيجاد مخرج من الأزمة الكردية يحفظ حقوق الأكراد ويعود بعملية السلام إلى الطاولة، يبدو وأن الفجوة المتزايدة بين الشرق الكردي والغرب التركي في اتساع بشكل غير مسبوق، وهي مُعضلة يحاول معها حزب العدالة والتنمية في الوقت الحالي أن يستعيد ثقته بين الأتراك المحافظين ضاربًا عرض الحائط ولو مرحليًا مطالب الأكراد وعملية السلام رغم أهميتها، لا سيما وأنها ترتبط الآن بأحداث في سوريا تضع حزب العمال في موقع يهدد الأمن القومي التركي.
من جانبه، يعتقد معسكر أردوغان كما يبدو لنا أن المشاركة بحزم في قصف داعش لدحض الروايات القائلة بأن الحزب دعم التنظيم سابقًا سيتيح له كسب أرضية بين الأتراك، علاوة على تشديد قبضة الدولة المركزية مع الأكراد، والذين يبدو أن التهاون معهم قد كلف الحزب أصواتًا كثيرة، وهي أصوات ينتوي الحزب استعادتها في الانتخابات المقبلة التي قرر الاتجاه لها في نوفمبر، بيد أن مغامرة الانتخابات المبكرة تلك قد لا تكون سهلة كما يتخيل الحزب، لا سيما وأن استطلاعات الرأي تشير لاستمرار رصيده الشعبي كما هو منذ الانتخابات الماضية، بل وربما خسارته أكثر نتيجة ما يدور حاليًا.
ما إذا كان الأتراك سيستعيدون ثقتهم في الحكومة أم لا هو ما سنعرفه من الصندوق في الانتخابات المقبلة، بيد أن قلب الطاولة فجأة على الأكراد والمشاركة جويًا ضد داعش وحزب العمال قد لا يقنعان بسهولة، لا سيما وأن الكثير يعرف جيدًا من التاريخ السياسي التركي أن الدولة طالما استخدمت حربها ضد حزب العمال لتعزيز رصيدها بشكل أصبح معه شن الحرب على الحزب حيلة مكشوفة نوعًا ما، علاوة على أن التطرف تجاه الأكراد أصلًا سيكلف الحزب المزيد من أصوات الأكراد التي خسرها أصلًا في الولايات الكردية في الانتخابات الماضية.
معسكر أردوغان، كما يُقال، صمم على المضي قدمًا في خططه، واعتبر أن ما جرى في انتخابات الصيف هو كبوة ليس إلا يمكن الإفاقة منها بتبني المواقف الحالية، لاستعادة الأغلبية البرلمانية في نوفمبر، بدلًا من الوقوف عند دروس ما جرى في يونيو وتشكيل ائتلاف هادئ مع العلمانيين، وهي مغامرة قد تكون ربما الفرصة الأخيرة لهذا المعسكر المستمر في هيمنته على الحزب، فإن فاز بها فسيكون بإمكانه غالبًا تشكيل الحكومة فقط وليس تمرير الدستور الذي يريد، أما إذا خسرها وعاد الحزب دون أغلبية كما جرى في يونيو، أو ربما برصيد أقل، فإن ذلك سيكون إيذانًا ربما بصعود أصوات بديلة داخل الحزب بشكل أكبر.
بالنظر لكل ما يجري، يمكن القول بأن فوز الحزب في نوفمبر لن يكون جيدًا في الحقيقة على المدى البعيد، فهو أولًا سيمدد الوضع الحالي الذي يهيمن فيه الرئيس بشكل غير رسمي دون الدستور الرئاسي الذي يريده، وهو دستور لن يحصل عليه حتى ولو عادت له الأغلبية البرلمانية، مما يعني على الأرجح أن يستمر الصراع بخصوص مستقبل النظام في تركيا، وثانيًا سيكون رسالة مفادها أن الأتراك وحدهم كافون كقاعدة شعبية للحزب، ما سيهدد بقدرة الدولة التركية على احتواء الملف الكردي في المستقبل، وفي المقابل، فإن خسارة الحزب مجددًا فقط، وللمفارقة، هي التي قد تنقذ الحزب نفسه ورؤيته تجاه الملف الكردي التي وضعها في ميثاق 2023، وتنقذ أيضًا شرعية الدولة التركية بين الأكراد على المدى البعيد.