كيف تقوم بثورة في الوقت الذي لا يوجد فيه نظام لتثور ضده؟ أو بشكل أكثر تحديدًا، كيف تثور على الحكومة وتطالب بتنصيب هذه الحكومة لتدير البلاد مرة أخرى؟
هذه هي المعضلة الحالية التي يقاسيها اللبنانيون، الذين تجمعوا يوميًا في وسط مدينة بيروت خلال الأسبوعين الماضيين؛ فحملة “طلعت ريحتكم” التي نجحت في زعزعة الوضع السياسي الراهن في البلاد، وجذبت الآلاف من اللبنانيين الذين لم يشارك الكثير منهم في أي احتجاج لعدة سنوات خلت، فشلت في وضع وتقديم مطالب محددة ودقيقة لتستجيب لها الحكومة اللبنانية؛ ففي الوقت الذي طالب فيه المتظاهرون في بداية الاحتجاجات بإيجاد حل فوري ومستدام لأزمة القمامة الحالية، اعترف رئيس الوزراء بأن الغضب الشعبي وراء هذه الاحتجاجات يتجاوز موضوع القمامة في الشوارع، حيث صرح قائلًا “هناك صورة أكبر، الموضوع يتعلق بالقمامة السياسية في هذا البلد”.
هذا التصريح هو دليل على عبثية السياسة اللبنانية، بالنظر إلى أن رأس الحكومة، المتمثل بمنصب رئيس الوزراء، بحد ذاته يعلن على الملأ ويعترف بأن حكومته تمثل قمامة سياسية، وحينها رد المتظاهرون برفع لافتات تقول بأن “القمامة في البرلمان لا ينبغي إعادة تدويرها”، في تلميح وتذكير بالممارسة غير الشرعية التي قام بها البرلمان والحكومة اللبنانية بالتمديد لنفسيهما لفترة ولاية أخرى.
ولكن ماذا بعد انبلاج فجر هذه الحركة الشعبية؟ هل هي الدعوة لإسقاط النظام؟ هذا الشعار الشهير الذي تتميز به ثورات الربيع العربي، أصبح جزءًا من مجموعة الشعارات الثورية المتكررة في ساحة الشهداء، التي انطلقت على وقع دوي الطلقات النارية، الغاز المسيل للدموع، وخراطيم المياه، ولكن على أرض الواقع، الوضع أكثر تعقيدًا في السياق اللبناني مما كان عليه في البلدان العربية الأخرى؛ فكيف يمكن أن تطالب بإسقاط نظام توقف فعليًا عن ممارسة دوره بفعالية منذ سنوات خلت، وبقي قائمًا فقط بناءً على العناصر غير الرسمية وغير الحكومية المبهمة وغير الخاضعة للمساءلة؟ لذا في الوضع اللبناني الراهن، يصبح السؤال، لماذا تطالب بإسقاط الحكومة في الوقت الذي تتمثل فيه المشكلة الحقيقية بعدم وجود حكومة؟
ليس هنالك من شك في أن لبنان يعاني من خلل وتفكك وظيفي، فالأحزاب السياسية اللبنانية غير قادرة على الوصول لاتفاق حول أي موضوع على الإطلاق، ابتداءً من انتخاب رئيس وانتهاءً بمشكلة جمع القمامة، ويشمل ذلك جميع ما يدور فيما بين هاتين المشكلتين، الدين العام وصل إلى مستوى مذهل، والحكومة أعلنت بأنها لن تكون قادرة على دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية الشهر المقبل، غياب الخدمات العامة يتبدى بشكل صارخ، ويرجع ذلك جزئيًا إلى تقاعس الحكومة وإلى الفساد المستشري الذي ينهش جسد البلاد، وسائل النقل العام التي تمولها الدولة اختفت من المشهد اللبناني، وقطاع جمع القمامة تمت خصخصته بعد الحرب الأهلية، المدارس والمستشفيات العامة متخمة بالمرضى وتعاني من تدني ورداءة مستوى الخدمات المقدمة، البنية التحتية للبلاد، بما في ذلك الطرق ومحطات الطاقة وأنظمة الصرف الصحي، تعاني وتتداعى، وانقطاع التيار الكهربائي أصبح أمرًا متكررًا وشائعًا، لدرجة أصبح معها المواطنون يضطرون للتعويل على مولدات الديزل للحصول على الكهرباء، أما أولئك الذي لا يستطيعون تجشم عناء دفع قيمة الاشتراك بهذه المولدات فيضطرون لقضاء معظم وقتهم في الظلام.
السياسة الاجتماعية في لبنان تقترب من مستوى الصفر، حيث فشل النظام في فرض الضرائب بشكل فعال على الأغنياء لمساعدة الفقراء، سامحًا بذلك باتساع الهوة الاجتماعية المتضخمة أساسًا ما بين هاتين الفئتين بشكل مخيف، ومنذ عام 2011 تضاعف عدد اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر، ونظرًا لعدم كفاءة الإدارة، تكافح الشركات الصغيرة وتعاني في مواجهة القوانين والمتطلبات الإدارية التي عفا عليها الزمان، في حين تتمتع الشركات الكبيرة المملوكة أو التي يميزها الساسة اللبنانيون، مثل شركة سوليدير سيئة السمعة، بموقع يخولها تجاوز القانون.
الجيش غير قادر على السيطرة على الميليشيات المحلية، أو تأمين حدود الدولة اللبنانية، فضلًا عن عدم قدرته على صد أي هجوم إسرائيلي محتمل على البلاد جرّاء الضعف والهشاشة التي يعاني منها، وهذا الوضع هو ما سمح جزئيًا باستمرار الدعم الشعبي الكثيف لحزب الله اللبناني، كما فشلت الحكومة في وضع إستراتيجية للتعامل مع الأزمة الإنسانية المستمرة منذ 4 سنوات، والتي تنطوي على قدوم 1.3 مليون لاجئ من سورية، لا يزالون غير متمتعين بصفة اللجوء، ويعانون نتيجة لذلك من فراغ قانوني يساور أوضاعهم داخل البلاد، وهذا النمو المفاجئ للتعداد السكاني أدى إلى تفاقم المشاكل طويلة الأمد كالتدهور البيئي وغياب التخطيط العمراني الملائم؛ مما نجم عنه ضغط سكاني هائل، اختناق في الحركة المرورية ناجم عن الازدحام الشديد، واختفاء سريع للفضاء العام، وهي العناصر الأساسية التي تجمع على أرض الواقع كامل الشعب اللبناني، الذي لا يزال منقسمًا على نفسه جرّاء الحرب الأهلية التي امتد أمدها 15 عامًا.
مع تراكم المشاكل التي ترزح تحت وطأتها البلاد، جنبًا إلى جنب مع مشاكل تراكم القمامة، بدأت بوادر وقوع الاضطرابات المدنية تصبح أكثر وأكثر وضوحًا منذ فترة طويلة من الزمان، ولكن الآن، وبعد أن استطاعت الحركة الشعبية أن تشق طريقها لتبزغ، واستطاعت أن تحشد الجماهير من كافة الطوائف الدينية والطبقات الاقتصادية بنجاح، ما الذي ينبغي أن تطالب به هذه الحركة؟ وما هي المشاكل التي يجب أن تركز عليها؟ هل من الصحيح أن تيمم شطر وضع أهداف محددة، في الوقت الذي ترتبط وتتلازم فيه جميع المشاكل في لبنان ويستحيل عزل بعضها عن بعض؟
من الواضح تمامًا بأن لبنان يحتاج إلى تغيير جذري وجوهري في سياسته، يتمثل بإسقاط النظام الطائفي السام إلى الأبد، ولكن الخطوات الأولية لتحقيق هذه التغيير يجب أن يتم اختيارها بعناية؛ فالمطالبة بتنحي رئيس الوزراء سيدفع بالسلطة إلى أيدي القادة الطائفيين، الذين لا يخضعون للمساءلة والمحاسبة، والذين أثبتوا لمرات لا تعد ولا تحصى بأنهم يضعون مصالحهم الخاصة فوق مصالح البلاد، كما أن المطالبة بإجراء انتخابات مبكرة ستودي قدمًا إلى “إعادة تدوير القمامة في البرلمان”، نظرًا لعدم قدرة المرشحين المعادين لسياسات النظام القائم على تقديم أوراق ترشيحهم، كما سيعوزهم الوقت اللازم والكافي لبناء الدعم الانتخابي الذي يحتاجونه للنجاح.
يبدو أن أحد أكبر التحديات التي تواجه البلاد حاليًا تتمثل بتحديد مسار التغيير الواجب عليها انتهاجه، ولتجنب المصير المأساوي لسورية ومصر، يجب على الشعب اللبناني أن يفكر ببديل واقعي وصريح للـ”لا نظام” الحالي، كما يجب عليه أن يدرك بأن سقوط الحكومة حاليًا قد يخلق فراغًا سيعمل على استغلاله وشغره عناصر سياسية غير مرغوب بها ولا تلبي تطلعات وطموحات الشعب اللبناني.