استتباعًا لما كتبته سابقًا، فالإخوان بالفعل تمر باللحظة الأدق في تاريخها، وبالعودة إلى التاريخ فإن أزمات الجماعة في معظمها تأتي من أعلى وليس من أسفل، وإذا قرأت التاريخ تعلم جيدًا أن أزمات الهيئة التأسيسية للجماعة ومكتب الإرشاد كانت أساسًا في شق الصف، بدءًا من أحمد السكري إلى محمد حبيب، وبينهما عبدالرحمن السندي، صالح عشماوي، خميس حميدة، وعبدالمنعم أبو الفتوح، وانتهاءً “مؤقتًا” بالأزمة التي تعيشها الجماعة في ظل قمع عسكري غير مسبوق.
ويقع فهم الأزمة لدى الإخوان على عاتق التاريخ، فمثلًا عقب اغتيال مؤسس الجماعة الشهيد البنا، وحل الجماعة وخروج الإخوان من المعتقلات في أواسط عام 1949، بدأ سعيهم في البحث عن قائد جديد يخلف الزعيم والملهم “البنا”.
الإخوان حينها كانت كما هي عليه الآن “مجموعات”، كل مجموعة تمثل طرف وفكرة جزئية، فمثلًا الأزاهرة دعموا الشيخ الباقوري مرشدًا، والتنظيم الخاص دعم صالح عشماوي، ومحبو الشهيد البنا أيدوا أخاه عبدالرحمن شبيهه، والتنظيميون زكوا عبدالحكيم عابدين، ومنعًا للاختلاف رشح البعض مصطفي السباعي المراقب العام الأول للإخوان في سوريا ولكنه رفض، وبعد مداولات كان الحل باختيار المستشار حسن الهضيبي كحل خارج الصندوق، وكمحاولة لتهدئة الغاضبين من القضاة من قتل أحمد الخازندار.
وطبقًا لرواية مرشد الجماعة الرابع محمد حامد أبو النصر في مذكراته “حقيقة الخلاف بين الإخوان المسلمين وعبدالناصر” فإن مكتب الإرشاد الجديد برئاسة الهضيبي تشكل في ديسمبر 1950، أي بعد عام وأكثر من استشهاد البنا، أي أن الأزمة استمرت أكثر من عام.
تشكيل المكتب الجديد غيّر من موضع “صالح عشماوي”، من وكيل للجماعة إلى عضو بها، ومن الباقوري كنائب للمرشد إلى عضو، وبحسب أبو النصر فإن هذه التغييرات أثارت المرتبطين بالباقوري وعشماوي، وأحدث تعاطفًا معهما، وبدأت سلسلة من الخلافات، انتهت بفصل عشماوي والباقوري والسندي وآخرين من الجماعة.
القيادة نفسها، وفي ظل الأزمة مع عبدالناصر قبل حادثة المنشية، اختلفت فيما بينها، فمثلًا خميس حميدة وكيل الجماعة وعبدالرحمن البنا عضو مكتب الإرشاد، تواصلا سرًا مع الضابط صلاح سالم – دون علم مكتب الإرشاد – إبان أزمة اتفاقية الجلاء، وبمعاونة 3 من قيادات الجماعة قام حميدة بتوزيع عريضة تبارك الاتفاقية على خلاف إرادة قيادة الجماعة، وأنزلها إلى الصف بصفته وكيل الجماعة، أي أمين الجماعة، ثم قام محمد جودة والبهي الخولي وعبده قاسم، أعضاء الهيئة التأسيسية “مجلس الشورى” بنشر بيان إعلامي يعلنون فيه موافقة الجماعة على اتفاقية الجلاء بخلاف رأي التنظيم.
لم تنته الأزمة عند هذا الحد ولكن فرض وكيل الجماعة، خميس حميدة، ثلاثة من أعضاء الهيئة التأسيسية الموالين لعبدالناصر على مكتب الإرشاد هم، البهي الخولي، عبدالسلام فهمي، وحلمي نور الدين، وفي الاجتماع أرسل مسؤول الإخوان بشبين الكوم رسالة يشتكي فيها من ضغوط تمارسها مجموعة أمين الجماعة خميس حميدة لتمرير الموافقة على اتفاقية الجلاء.
ملحوظة: جميع ما فات ذكره عاليًا هو من مذكرات مرشد الجماعة الأسبق محمد حامد أبو النصر، وليس من مذكرات العسكر أو أعوانهم.
وعلى مدار تاريخ الجماعة فالخلافات كلها تأتي من الرأس لا من القاعدة المجاهدة، وما حدث في السابق من خميس حميدة ربما يتشابه تقريبًا مع الإجراءات التي يتخذها أمينا الجماعة السابق والأسبق، د. محمود عزت، ود. محمود حسين، مؤخرًا للاستحواذ على الجماعة، وهي الإجراءات التي ترتكز على معرفتهما التامة بشكل التنظيم قبيل الانقلاب العسكري لا بعده، والنزول إلى الجهات الإدارية من شعب ومناطق ومكاتب إدارية مباشرة بعيدًا عن الجهة الإدارية المنتخبة في حال أن هذه الجهة المنتخبة عارضتهم.
عقب مقال د. محمود غزلان عن السلمية أبريل الماضي، وظهور الأزمة بين قيادات الإخوان للإعلام، تشكلت لجان لرأب الصدع واتفقوا، بعد مشاورة أعضاء مكتب الإرشاد محمد كمال، طه وهدان، محمود عزت، ومحمد عبدالرحمن، على إجراء انتخابات جديدة لمسؤولي القطاعات الجغرافية، تكون مهمتها إعداد تصور عن تطوير الحراك الثوري، وإعداد لائحة منضبطة لعمل انتخابات مجلس الشورى ومكتب إرشاد جديد والمكاتب الإدارية في فترة لا تتجاوز 6 أشهر.
تمت الانتخابات، ولكن د. محمود عزت ومحمد عبدالرحمن، عضو مكتب الإرشاد، رفضا الاعتراف بها وقررا العمل على تقسيم المجموعة المنتخبة؛ فاستحوذا على قطاعي الشرقية والدقهلية ثم استمالا قطاعي الصعيد “شمال وجنوب”، ولكنهما لم يستطعا، لاعتبارات تاريخية وثورية، فعل ذلك مع قطاعات القاهرة والإسكندرية ووسط الدلتا رغم محاولاتهما المستميتة، ولمواجهة ذلك، قررا استدعاء مسؤولين سابقين بالجماعة تقاعدوا عقب ارتفاع وتيرة القتل في مجزرتي الفض والسادس من أكتوبر 2013، تكون مهمة هؤلاء جذب المجموعات التي لا تعمل في الثورة والحراك، تقريبًا 75% من صف الإخوان، وعليه فمجموعة عبدالرحمن – عزت لا يتعاملون مع الصف المنتظم داخل الحراك الثوري، بل إنهم يتعاملون مباشرة مع المجموعة التي تستطيع جذب الـ75% أو يزيد من الجماعة الذين قلّ حراكهم الثوري أو توقف تقريبًا.
وبالفعل بدأت المجموعة في تشكيل هيكل إداري جديد للجماعة بعيدًا عن المتفق عليه، والتي أُجريت على أساسه الانتخابات، وبدأت هذه المجموعة في منع أفرادها من التواصل مع اللجان المركزية في الوحدة الثورية بالجماعة، وقامت بإنزال أول بريد لها للصف الذي نجح في جذب قيادته الجغرافية وأهمها الآتي:
1- إرسال رسالة للصف بأن الأزمة انتهت وأن الخلاف تم حسمه، وهذا الحديث بالتأكيد ليس صحيحًا، بدليل أن قطاعات القاهرة والإسكندرية ووسط الدلتا رفضت إجراءات عزت ومحاولات تجاوز المسؤولين المنتخبين.
2- تبني توجيهات القائم بالأعمال، وتحديد إجراءات لتفعيلها والعرض دون تحديد من هو القائم بالأعمال، أو طريقة اختياره، أو اختصاصاته، أو ماهية هذه التوجهات ومدى توافقها مع نهج الجماعة الأصيل.
3- إيصال رسالة واضحة لممثلي القطاعات في الوحدات برسالة الصف، وأنهم يجب أن يسارعوا بالاستجابة لطلبات الإدارة وإلا أصبح المعوق مخالفًا،غم أنهم في بند أكدوا انتهاء الأزمة ولكن هنا يثبتوها، وبدلًا من مناقشة المخالف في وجهة نظره فسيُتخذ ضده إجراءات مباشرة.
4- تقييم ومراجعة وتشاور لتطوير الحراك الثوري، رغم أن معظم الإدارة التابعة لمحمود عزت لم تشارك في أي حراك، وليس لديها خبرة كافية لإدارته؛ مما يعرض أفراد الصف الثوار للخطر.
كما قام محمد عبدالرحمن بإنزال، ما أسماه توضيح رؤية، يؤكد فيه أن جميع الإجراءات التي تمت عقب جريمة الفض كانت ديكتاتورية من محمد كمال وطه وهدان، وكذّب ما قيل عن وجود هيئة شرعية بالجماعة – لجنة مكونة من 7 علماء يرأسها د. عبدالرحمن البر، عضو مكتب إرشاد الجماعة -، كما رفض أي شكل من أشكال المقاومة الثورية وأكد على تمسك الجماعة بالسلمية المطلقة.
لم تكتف مجموعة عزت – عبدالرحمن بهذا الأمر بل عقدوا لقاءً لمجموعة من مجلس شورى الجماعة غير مكتمل النصاب اللائحي يوم 6 يوليو 2015، وأقروا فيه تشكيل إدارة جديدة، أي بعد يومين فقط من اغتيال 9 من قيادات الصف الأول والثاني بالجماعة في مدينة أكتوبر، وهي الفترة التي صدرت تعليمات تنظيمية من لجنة الفعل الثوري لجميع وحداتها تعليق لقاءاتها لحين هدوء الأوضاع الأمنية، والكشف عن وجود اختراق أمني من عدمه.
أزمة “خميس حميدة” التي ذكرناها في البداية ربما تعيد نفسها، في ظل الحديث عن قيادتين تابعتين لمجموعة “عزت” إحدهما قيادي بقطاع الدقهلية يمارس حياته الطبيعية ومزاولة عمله وإقامته في محافظته، رغم أنه من مشاهير الإخوان، والثاني قيادي فشل في إدارة ملف إعلام الجماعة بالخارج فعاد بشكل طبيعي إلى القاهرة عبر المطار، رغم أن كان يحتل منصبًا في إحدى الوزارات، ومن مشاهير الجماعة أيضًا، وكلا القيادتان يتحركان ويتنقلان بشكل طبيعي.
بالعودة لبريد الصف الذي أصدرته مجموعة عزت، فإنه تلاقى مع ما صرح به القيادي إبراهيم منير في حوار صحفي، بنفيه إجراء انتخابات داخلية بالجماعة، رغم إعلانه في حوار تلفزيوني سابق إجراء هذه الانتخابات، وكذلك تشبيهه لشباب الجماعة المتبني للنهج الثوري بمجموعة “شباب محمد”، التي انشقت عن الجماعة قديمًا، وكذلك رفضه إجراء مراجعات ومحاسبة داخلية في الوقت الراهن.
وضف على هذا تأكيده أنه عين نائبًا للمرشد، دون أن يثبت كيف تم اختياره أو من قام باختياره، ومعه قام بإعلان محمود عزت قائمًا بأعمال المرشد كمحاولة إثبات حالة، بغض النظر عن تأثير ذلك على الصف وقيادته، كما أن تصريحه عن السلمية المطلقة يثبت أن هناك رغبة ما بالقضاء على الثورة والحراك، ومن ثم فتح باب، من خلال وسطاء، للوصول لحل ما “سيكون وبالًا على الجماعة”.
على كل، ففي كل مرة تنهي القيادة الخلاف بعيدًا عن الصف، ولكن هذا صعب في هذه المرة، وبات الصف طرفًا، وربما عامل مرجح، بالتأكيد هي أزمة صعبة، وتبقى الجماعة على شفا انهيار إذا تفاقم الخلاف، وسيكون المتضرر الأساسي هم الإخوان أنفسهم، ومن ثم الثورة والوطن.
“الحديث يُتبع”
نُشر الجزء الأول من هذا المقال على موقع الخليج أونلاين بعنوان انفجار.. ليس في “شبرا الخيمة” بل في “الإخوان”