جلس المحقق سفيان زووف في أحد مكاتب وزارة الداخليّة … و جلس قبالته ” المدوّن سفيان بالحاج محمّد ” المعروف على الفضاء التدويني تحت اسم “حمادي كالوتشا”…. سفيان زووف يعرف المدوّن المعارض لبن علي جيدا و هو الّذي أمضى وقتا طويلا في ملاحقته و تتبعه حتى إذا تمكّن من كشف هوّيته قامت قوات الأمن التونسي بمداهمة منزله و اختطافه …بعد التحقيق معه جيئ بحمادي من زنزانة الإعتقال إلى هذا المكتب…فقط… ليراه سفيان …و حينئذ سأله…هل تعرفني ?
أجاب حمادي بالنفي…فقدم له سفيان نفسه…و قال له…أنا اللي طيحتك ! ( بالعامية التونسية ) …يعني أنا من أسقطك !
انتهى ذلك اللقاء سريعا… بعده بأيام أُطلق سراح “حمادي كالوتشا ” و عدد من المدونين المعتقلين ..و بعد ذلك بساعات فر بن علي في الرابع عشر من جانفي / كانون الثاني 2011 مغادرا تونس دون رجعة
يعيد حمادي كالوتشا ذكر وقائع اعتقاله و التحقيق معه و يرجّح أن يكون إسمه إلى جانب أسماء اخرىن قد قدموا للدّاخلية من طرف فراس قفراش القيادي بمنظمة طلبة التجمع الدستوري الديمقراطي (حزب الرئيس المخلوع بن علي الذي وقع حلّه) و الّذي كان مدافعا شرسا عن بن علي و عن نظامه
بعد أربع سنوات منذ تلك الحادثة، عُين فراس قفراش مستشارًا للباجي قائد السبسي الذي اُنتُخِب رئيسًا جديدًا لتونس في ديسمبر 2014 وكان ذلك التعيين أولى سقطات الرئيس الجديد إذ إن تعيين أحد أعضاد نظام بن علي المورطين بشكل واضح في ملاحقة وهرسلة النشطاء والمدوّنين المعارضين لبن علي أيام الثورة في منصب استشاري رفيع بعد ثورة قامت ضد نظام بن علي وأعضاده وعائلته كان طعنة في خاصرة الثورة وأحلامها ومعانيها، لكن الرئيس الجديد يبدو غير آبه بكل هذه الاعتبارات؛ فهذا التعيين المثير للجدل لم يكن الأول حيث عيّن السبسي في أول أيامه بقصر قرطاج المدير السابق لمكتب تونس في إسرائيل خميس الجهيناوي مستشارًا ديبلوماسيًا وعيّن سلمى اللومي الرقيق القيادية بالحزب الذي أسسه وسيدة الأعمال التي سبق وزارت إسرائيل، مستشارة اقتصادية كما عيّن مساعدًا مباشرًا ومرافقًا له، المدعو كريم بالضياف رئيس شعبة حزب التجمع المنحل بمنطقة الملاسين (إحدى الضواحي الشعبية للعاصمة تونس) ويكون الرئيس الجديد بهذه الطريقة قد أحاط نفسه بمجموعة لا بأس بها من المطبّعين وبأخرى من أعوان النظام السابق الذي كانوا العصا الغليظة التي استعملها لخنق أي نفس ديمقراطي ولضرب أي صوت حر.
سقطة اختيار المستشارين والمساعدين لم تكن الوحيدة؛ فالسبسي بنى خطابه الانتخابي على ما كان يعتبره فشلاً ذريعًا لحكومات الترويكا في الملف الاقتصادي وفي تشغيل الشباب، سانده في ذلك عدد من وسائل الإعلام ومن وكالات التواصل وسبر الأراء، إلا أن نسبة النمو الاقتصادي طوال فترة حكمه والحزب الذي أسسه لم تتجاوز الـ 1% وإذا وضعنا في ميزان المقارنة هذه النتيجة مع النتائج التي حققتها حكومات الترويكا والمستقلين التي جاءت تباعًا بعد انتخابات 2011 نستنتج فشلاً ذريعًا في إدارة مرحلة كان التونسيون ينتظرون منها الكثير.
قبل أن يصبح الباجي قايد السبسي رئيسًا سُئِل عن برنامج حزبه الاقتصادي فقال بلكنة تهكمية إن من سيطلع على برنامجه وبدائله وحلوله للاقتصاد سيغمى عليه إعجابًا، وبما أن النتيجة أبلغ من أي استنتاج أو تأويل فإن ما سجلناه طوال الأشهر السابقة يُعد سقطة إضافية تضاف لحساب الرئيس الجديد.
على مستوى مؤسسة رئاسة الجمهورية التونسية رفع رئيس تونس السابق المنصف المرزوقي المستوى عاليًا عندما أضفى تقاليد جديدة تمثلت في زيارة المؤسسات الجامعية وإلقاء محاضرات عن التجربة التونسية بعد الثورة، لن نقول إن الرئيس الجديد الباجي قايد السبسي أراد تقليد سابقه وإظهار أنه لا يفوته ثقافة ولا بلاغة ولا قدرة على الخطابة، لكن النتيجة إثر زيارة الباجي قايد السبسي للولايات المتحدة الأمريكية كانت مخيبة للآمال ومهينة لصورة تونس ولصورة رئيسها، فقد ظهر بالكاشف أن الهدف من زيارته عدد من الجامعات وإلقاء محاضرات لطلبتها كان مشهديًا بالأساس إلا أن المشهد نفسه خرج مشوِّها، إذ أبان السبسي عن ضعف كبير في اللغة الإنجليزية وعن ضعف مضاعف على مستوى الأفكار والمعاني؛ مما جعله يلجأ في العديد من الأحيان إلى أسلوب النكتة أو السخرية، أسلوب كان بدوره بعيدًا عن الذوق خاصة أن تورط السبسي في نقاش ما هو ليس متعمقًا في فهمه كان واضحًا.
هذا المشهد على علاّته شكّل نصف مصيبة، حيث إن المصيبة كلها بعد هذه الزيارة كانت في تبعات الاتفاق الذي وقعه مستشاره السياسي السابق وأمين عام حزبه محسن مرزوق مع الأمريكيين والذي كاد يعصف بعلاقات تونس بالجزائر، نص الاتفاق لا يتضمن أية إشارة لإنشاء أي موقع عسكري أمريكي في تونس وهو الأمر الذي تخشاه الجزائر والرئاسة التونسية تنفي وجود مثل هذا الاتفاق، لكن الجزائريين رصدوا بالفعل قيام خبراء أمريكيين وتونسيين بمعاينات ميدانية لإقامة لاقطات استشعار في جزيرة جالطة التي تبعد 40 كيلومترًا عن سواحل تونس، معلومة أكدتها مصادر صحفية تونسية وبالتزامن مع تواتر هذه المعطيات، نشرت الهياكل الرسمية المعنية في تونس منذ أيام بلاغًا يفيد بمنع الرحلات السياحية نحو الجزيرة المذكورة، معطيات تقاطعت لتؤكد كلها جدية القلق الجزائري الذي تحول إلى توتر ديبلوماسي وهجوم من الصحف والمواقع الجزائرية على السبسي وعلى مستشاره محسن مرزوق ولتشير دون استحياء إلى ارتكاب السبسي لسقطة إضافية أساء بها إلى العلاقة مع أهم دولة بالنسبة لتونس.
الجزائريون ذهبوا إلى اعتبار ما فعله السبسي ومستشاره مرزوق خيانة خالصة خاصة أنهم قد رفضوا بعد مفاوضات دامت أربع سنوات مع الأمريكين مقترحًا سابقًا بإقامة قاعدة عسكرية بمنطقة تمنراست بالجنوب الجزائري.
أخطاء الرئيس الجديد لا تتوقف هنا فالعملية الإرهابية التي جدت بمدينة سوسة السياحية جعلته يرتكب سقطات أخرى؛ حيث صرح السبسي بعد ساعات قليلة من الهجوم الذي راح ضحيته أكثر من 30 سائحًا أن الحملات الاحتجاجات وخاصة تلك التي تطالب بالشفافية في موضوع الثروات الطبيعية والمعروفة بحملة “وين البترول” تهدف إلى إضعاف الدولة مما يسهل مخططات المجموعات الإرهابية التي تستهدف تونس، وهو ما يربط وجوبًا أي شكل من أشكال الاحتجاج المدني في الشارع بالإرهاب وبالعنف، تصريح استنكرته المعارضة واعتبرته تمهيدًا لضرب حرية الاحتجاج عبر ربطها بالإرهاب، لكن السبسي أبى إلا أن يواصل هفواته التواصلية وقراراته المبهمة، فبعد أسبوع واحد من حادثة سوسة الإرهابية أعلن السبسي عن فرض حالة الطوارئ، قرار بدا لجزء واسع من النخبة في تونس غير مبرر كما حذّر في كلمته التي توجه بها إلى التونسيين بعد أسبوع من الحادثة من أن عملية مشابهة لعملية سوسة من الممكن أن تُسقِط الدولة، إشارة أثارت موجة استنكار وسخرية على فضاءات التواصل الاجتماعي، حيث اعتبرها كثيرون انتصارًا مجانيًا للإرهابيين ورسالة سلبية للسياح ووكالات الأسفار في قلب موسم سياحي لازال يعالج جراح عملية متحف باردو في مارس الماضي.
ولنا أن نسأل هنا كيف لأرفع مسؤول في الدولة أن يخوف مواطنيه وزواره من الأجانب من أن الدولة ستنهار لو قدر لعملية إرهابية أخرى أن تقع و لتفسير الوحيد لذلك – من وجهة نظري على الأقل – أن الكياسة التواصلية والسياسية قد خانت الرئيس السبسي مجددًا.
نفس هذا التفسير يبدو أنه ينطبق كذلك على قانون المصالحة الاقتصادية الذي اقترحه السبسي على مجلس النواب التونسي منذ أيام، قانون يعفو عمن تورطوا في جرائم مالية أو جرائم استغلال نفوذ في علاقة بالنظام السابق تحت مظلة دفع عجلة الاقتصاد التونسي الذي يعاني الركود والانكماش لكن باطن القانون يبدو مختلفًا جذريًا عن ظاهره؛ فرجال الأعمال المشمولين بهذا الاتفاق على علاقة متينة بالحزب الذي أسسه السبسي.
الرئيس التونسي إذ يقدم هذا القانون ويدعمه فهو يُسقِط من اعتباره منظومة العدالة الانتقالية القائمة على محاسبة كل من سرق أو أجرم في عهد الاستبداد كما يرسخ مبدأ الإفلات من العقاب والفكرة السائدة بأن رجال الأعمال هم فوق القانون مهما تغير الحكام وتبدّلت العهود وأن صغار اللصوص والمهربين هم من يُحاسبون وليس كبار المتهربين من الضرائب ومن سداد قروض البنوك وهو بإسقاطه مبادئ المحاسبة وعلوية القانون يدوّن في سجله كرئيس للجمهورية سقطة أخرى تضاف إلى رصيد سقطاته وإذا أضفنا إلى كل هذه السقطات عودة التعذيب بشكل متكرر داخل المقرات الأمنية ومراكز الإيقاف دون أي تدخل إجرائي أو سياسي حاسم وتحرشه وأمين عام حزبه محسن مرزوق المتواصل بأي تظاهرات في الشارع ملوحين بحالة الطوارئ التي أقرها السبسي منذ أسابيع، يتراءى لنا شبح الاستبداد من جديد، شبح لن يرضى التونسيون بعودته على الإطلاق