عند باب الجاهة يقف الروائي في الستين من عمره , مثل كل خريجي الثانويات العامة في العالم العربي انتظر عشرين عاماً لالتقاط فكرة تدخله الوعي , يرهن والده أكثر بساتينه خضرةً في سهل حوارة كي يرسله لبغداد , من يذهب لبغداد لايعود كما ذهب , بغداد لعنة على كل المستويات لمن يفهم معنى بغداد في كتب التاريخ والشعر وأسعار النفط حتى عيون الغزاة , يصاب بحرفة الأدب هناك , يارهناً ضاع في حوارة حين جاء والدَه الخبر , ينضم للحزب الشيوعي ولكن بخلفية اقطاعية , يعود لعمان , ينضم ويضم , يذهب للسجن كما يذهب الرفاق , يعالج أسنان المساجين نهاراً وفي الليل , آه من ليل الرفاق , يكتب المسرحيات والروايات لأن السجن لايعني عند الرجال التوقف عن النضال / الكتابة / الحياة .
بينما يقضي الروائي أيامه كي يحافظ على ذاكرة الوطن , يخذله الوطن مرتين , مرة بالسجن وأخرى حين يفتح له باب السجن ليكتشف أن المدينة صارت أكبر من آخر نص كتبه عنها , الناس لم يتغيروا في الخارج , سقط الجدار أيام سجنه , تم فك الارتباط , القدس صارت أبعد واللاجئون يضمنون بساتين الغور وحتى محاصيل سهل حوران , مات من مات في حوارة , سعر الأراضي زاد ولم تقسم كما كان يظن في منفاه , الأردن الصغير حجماً بالأساس يختزل اقتصادياً في عمان , وعمان الضيقة أصلاً تختزل في عمان الغربية فقط , وعمان الغربية يراد لها أن تمثل كل هذه الجهات المختلفة لكل عين تحسن التدقيق والتمحيص .
الأسعار تحدد من الحكومة والناس لاتعترض , الأسواق تلتهم بيوت الناس , الناس تقبل بالشقق الصغيرة مقابل أن تكون قريبة من أقرب مجمع تجاري , المهن تندثر , تنشط شركات الاستيراد و لا تصدير إلا في شهور الزيتون , بقي الزيتون وفياً بينما مات حس الثورة في الأكثرية , يقولها في نفسه ويقرر أن يفتح مختبراً للأسنان , الآن يفهم جيداً أن رهن والده لم يضع وأن بغداد لم تستمر كلعنة أبدية أصابته بلوثة حبها التي لاينجو منها أحد , أعطته شهادة جامعية كأمان من الفقر , وفكرة كلما توغل فيها وأخلص لها .. عادت به للسجن .
ينكر المدينة التي كتب عنها في منفاه طويلاً , لكن المختبر يدر مالاً جيداً , أهل نابلس جاؤوا بكنافة لأجلها رهن البدو أرضهم , مرض السكري مع ثقافة الاستهلاك الرأسمالية يغزو المدينة , تنشط تجارة مختبرات الأسنان , لكن المدينة تتجاهله , تخون ذاكرته الرملية , يقرر العودة لحوارة , يتزوج , ينجب , تضحك عليه الحياة التي لم تبقي له إلا ساعات الليل الأخيرة كي يستمر في الكتابة , يتذكر رفاق السجن فجأة .. يكتب لهم رسالة لايفهمها إلا سجين سابق , يعنونها ب : القط الذي علمني الطيران .
يضحك الناشر , تأتي مترجمة ألمانية لتفكك شفرة الفلاحين عن طريق أعمال هذا الكاتب الذي يرفض التوقف عن الحنين والكتابة , يأخذها في جولة لعمان , كيف تتنكر المدن , وتبقى القرى وفية , الأرض هي الأرض , لكن الناس ياصديقتي يتغيرون , يتسامران عن الجدار , كيف كنا نستمتع بعالم مختلف قبل أن يسقط الجدار وقبل أن أذهب للسجن , لقد سقط جدار في كل مدينة بعد أن أصبحنا نتقن الانجليزية جميعاً .
يكبر الأولاد شيئا فشيئاً , يصبح مشهوراً أكثر , يكرمه الله بزوجة تحفظ كل شيء ولاتنسى تفاصيل التفاصيل , طباخة ماهرة ومديرة مدرسة سابقة تجيد الانجليزية , يؤمن في وحدته أنها هدية من السماء كي تعوض بعض آلام السجن في الذاكرة , المرأة الصالحة رزق أطيب من كل رزق .
تسقط سوريا في الخلاف , ترتفع أسعار الأراضي في حوارة , لاورثة إلا شقيقاً يبادله حبا بحب , يقرر بيع نصيبه من أرض تركها الأب لينعم بال الأحفاد , كان الأباء في ذلك الوقت يودعون من يذهب إلى بغداد وداع العائدين للسجن , كانت حكمتهم من الأرض لا من نشرة الأخبار .
يصاب بالسكري الذي حذر منه المساجين طويلاً , يضحك من سخرية الأقدار وهو يطبع سناً في مختبره بعمان لنفسه , يا الله , لقد هزمتنا حلوى القوم , وتم استدخالنا , تشيئنا , وهأنذا أستغل وقت انتظاري لطباعة سني في مطعم عراقي ومن ثم أمر على بكداش في شارع المدينة متجاهلاً كنافة نبع القريون , السوريون يضعون يداً كبيرة الحجم في شارع الجوعانين وخوف عيونهم على حق العودة الذي ستتمخض عنه مؤتمرات جنيف ذات وطن جديد .
يمرض التاجر الفلسطيني لكنه لايموت , يتذكر هذه الأرض جيداً , وهذا المجمع بالذات مازال مالكوه في ماحص أو السلط , إنهم لاينزلون عمان إلا في المناسبات أو حين قبض الايجارات , قبل أن ينهي صحنه , يتحسس رأسه , لقد أصبح رأسمالياً صغيراً بالفعل , رأس المال يغتصب الأرض , لكن الأرض تأبى أن يموت , يقررالعودة بأسرع وقت لحوارة كي يكتب عن هذه الفكرة التي لم ينتبة إليها أحد .
الأولاد ملتمون حول مائدة العشاء , بال والدهم مشغول , تذكره الأم بجاهة جاسر , لقد كبر الأولاد وقد أحب ابنة عمه , لاتنس الرد على رسالة الناشر الألماني , سيطبعون المقامة الرملية قريباً بالانجليزية , يحب الشاهبندر لكنها لم توزع جيداً , تلك من الخيبات التي لايسرها حتى لنفسه .
خيبته الأعمق كانت قبل ضرب بغداد , اتفق مع الرفاق القدامى أن يجتمعوا التاسعة صباحاً نهار السبت للانطلاق من اربد إلى بغداد , كانوا متحمسين للغاية , عاد للبيت , رتب أغراضه القليلة كسجين سابق, سقى الحقل مبكراً قبل الفجر , تفقد آخر البتلات في ساحة البيت , لم يخبر أحداً , كان على الموعد في التاسعة , ساعة , ساعتان , ثلاث , لم يحضر أحد , استقل سيارته باتجاه بغداد ولكن لم يسمح له بالدخول , طلب منهم أن يوصلوه لأول جسر سيضرب , لأول العراق , كي يفدي بلاداً علمته حتى أصبح هذا الرجل , لم تطعه الحدود ولم يعد ينام جيداً بعد تلك الخيبة السرية .
تسأله ابنة أخيه : هل سيتعرفون على حوارة جيداً يا عماه حين أذهب في الفصل الصيفي هناك ؟
سيفهمون جنايتهم على هذه المنطقة , وعلى بلادنا والناس , لم نحاربهم وجهاً لوجه , لكني كنت أكتب لجيلكم , ستفهمون ذات يوم أنكم كنتم نتاج حرب الأفكار يا أبنائي , لقد سقط جدار برلين ورهنا أرض أبي كي أزوج جاسر وتذهبي لألمانيا صيفاً , لاتبيعوا الأرض مهما ارتفعت الأسعار , على القرية ألا تذهب للمدينة , وعلى المدينة ألا تغرينا أكثر مما فعلت , علينا أن نبقى هنا ونعمل هناك , كي لايسقط جدار آخر ويأتي آخرون لقطف زيتون حوارة الذي علمني وعلمكم , وتعلموا جيدا , لتكتبوا كما لاينبغي أن تكتبوا .
على مدخل جاهة ابنه في حوارة , كان الروائي الستيني يصافح القادمين من عمان , يحضن أصدقائه القدامى في السجن , جيران بنايته الشامخة في عمان , كتاباً مثله من بلاد بعيدة , مترجما وناشرين , بدا سعيداً تلك الليلة والناس تصل إلى البيت دون كثير عناء رغم مدة غيابه عن أرض والده , لقد وصف المنطقة جيداً , زوج ابنه فيها , وبنى له طابقاً في الأعلى , وقال للمترجمة بسخريته الهادئة وهو يناولها صحن كنافة ناعمة : على الأقل حاولت في كتاباتي ألا يسقط الجدار .. مبكراً .. في بلادي .