ترجمة وتحرير نون بوست
محمد سلطان كان يدرك بأن الشيء الوحيد الذي كان من الممكن أن يدعمه عندما دقت الشرطة المصرية على بابه، يتمثل بكونه من مواطني الولايات المتحدة، فهو مولود في ولاية أوهايو الأمريكية، ولكن هذا الأمر لم يكن يعني الكثير حينما اقتحمت الشرطة المصرية منزله في مصر بحثًا عن والده، صلاح سلطان، العضو البارز في جماعة الإخوان المسلمين، وعندما لم يجد العناصر سوى محمد سلطان وثلاثة من أصدقائه، قاموا باعتقالهم بدلًا من اعتقال الأب، جنبًا إلى جنب مع عشرات الآلاف الآخرين الذي يُعتقد بأنهم من المعارضين الإسلاميين أو الليبراليين الذين تم اعتقالهم إبان الانقلاب العسكري الذي وقع في مصر قبل عامين.
جنسية محمد سلطان الأميركية شجعته عندما تم اعتقاله، وكان حينئذ يبلغ 25 ربيعًا، لتنفيذ إضراب مفتوح عن الطعام لمدة 16 شهرًا خلال الـ21 شهرًا التي قضاها في المعتقل، مما أدى إلى خسارته لأكثر من 70 كغ من وزنه الذي كان يبلغ حوالي 123 كغ قبل الاعتقال، مخاطرًا بذلك بوصوله إلى حالة فشل الأعضاء الكلي، حيث نفذ إضرابه إيمانًا منه بأن حكومة الولايات المتحدة ستهب لنجدته.
جلبت الجنسية الأمريكية لسلطان نوعًا خاصًا من العذاب الذي خصه به سجانوه، كالعذاب الذي قاساه عندما تم حبسه ليوم كامل في غرفة مع رجل يحتضر ويصرخ من الألم، ومن ثم تم تركه وحده مع الجثة خلال معظم اليوم التالي.
صورة ملتقطة لمحمد سلطان أمام منزله في أمريكا الأسبوع الماضي في منطقة فولز تيرتش
بالمحصلة، ضمنت له جنسيته الأمريكية ترحيلًا من السجون المصرية إلى منزله في الولايات المتحدة في يوم 30 مايو 2015، وذلك بفضل الضغوط التي مارسها البيت الأبيض على الحكومة المصرية، كما يوضح سلطان والدبلوماسيون الأميركيين.
اليوم يحاول سلطان استثمار محنته التي عاشها ليسخرها في دور جديد لمناصرة عشرات الآلاف من الإسلاميين واليساريين والليبراليين الذين لا يزالون يرزحون تحت وطأة العذابات في السجون المصرية؛ ففي الاجتماعات الأخيرة التي تم عقدها في البيت الأبيض ووزارة الخارجية الأمريكية، روى سلطان تجاربه الخاصة سواء أثناء عيشه كطفل ومراهق في الغرب الأوسط الأمريكي، أو أثناء احتجازه كسجين سياسي في سجون القاهرة، وانتهى إلى القول بأن ممارسات الاعتقالات الجماعية التعسفية المصرية تضر بمصالح واشنطن، كونها تعمد إلى بث التطرف والعنف في نفوس الشباب اللاعنفي سابقًا، لتحويلهم إلى مسلحين مناهضين للولايات المتحدة.
“لقد كنت محظوظًا لأنني اختبرت الحرية والديمقراطية هنا في الولايات المتحدة، لذلك كنت قادرًا على ترجمة غضبي إلى حملة إضراب عن الطعام”، قال لنا سلطان في مقابلة عبر الهاتف من واشنطن، وتابع موضحًا “لكن عشرات الآلاف من السجناء الشباب الآخرين سيكونون أكثر عرضة لتوجيه غضبهم نحو الاتجاه الآخر”.
“الجهاديون التابعون لفرع الدولة الإسلامية (داعش) في مصر، يجوبون السجن حاملين تبريراتهم التي تبرر حمل السلاح، حيث يقولون للسجناء الآخرين، هؤلاء المرتدون في الحكومة لا يحترمون شيئًا على الإطلاق سوى المقاومة العنيفة، هم لا يفهمون إلا لغة السلاح”، يقول سلطان، ويتابع سلطان موضحًا “الشيء الوحيد الذي يشترك فيه جميع من في السجن، رجال الدولة الإسلامية، رجال الإخوان المسلمين، الليبراليون، الحراس، والضباط، هو أنهم جميعهم يناصبون العداء لأمريكا، وفي بلد فتيّ مثل مصر، المصالح الأمريكية تتهدد، بسبب اطراد المشاعر المعادية للولايات المتحدة في جميع أنحاء الطيف الأيديولوجي في مصر، وهذا ليس أمرًا محمودًا بالنسبة لأي أحد”.
على الجانب الحكومي الأمريكي، يبدو أن المسؤولين يلقون آذانًا صاغية لما يقوله سلطان؛ فبعيد اللقاءات التي أُجريت مع سلطان، ردد وزير الخارجية الأمريكي جون كيري علنًا بعضًا من المخاوف التي أشار إليها سلطان، وذلك ضمن تصريحاته المرتجلة خلال زيارته إلى القاهرة، حيث قال كيري خلال لقائه مع الصحفيين بأنه نقل إلى نظرائه المصريين مخاوفه واسعة النطاق حول “التطرف الذي قد يتنامى من خلال الاعتقال ومن خلال الحبس، وهو نوع من دورة الإرهاب المتجددة”.
بلهجته الغربية الأمريكية، وابتسامته الواسعة التي تظهر جميع أسنانه، يبدو سلطان وكأنه وجه علني غير معتاد لضحايا القمع في مصر، والذين هم في معظمهم، كوالده، من الإسلاميين، وفي بعض الأحيان، يبدو كما لو أن سلطان يفضل أن يتحدث عن فريق ولاية أوهايو باك آيز، ويسترجع ذكريات مباريات كرة القدم، أكثر من رغبته بالتحدث عن السياسة والسجون.
بالنسبة لسلطان، فإنه لا يؤيد شخصيًا الرئيس المخلوع محمد مرسي التابع لجماعة الإخوان المسلمين، “أنا ليبرالي للغاية بالنسبة للإسلاميين، ومتديّن للغاية بالنسبة لليبراليين”، يقول سلطان، ولكنه من وجهة النظر الديمقراطية، انضم سلطان إلى الاحتجاج الإسلامي الرئيسي المعارض للإطاحة بمرسي لأنه يخالف المبادئ الديمقراطية، وعمل في مصر كمترجم للصحفيين الغربيين هناك، وشهد ممارسات قوات الأمن المصرية في 14 أغسطس 2013، عندما عمدت إلى قتل نحو ألف متظاهر في إطلاق نار شامل، فيما بات يعرف باسم مجزرة رابعة.
خلال تواجده في ميدان رابعة، اخترقت رصاصة إحدى ذراعي سلطان، واضطر الأطباء لادخال قضبان معدنية لدعم العظام، وألقت الشرطة القبض على سلطان أثناء تعافيه من الإصابة بعد بضعة أيام، وتم إلقاء القبض على والده بعد شهر من ذلك.
بدأ سلطان حياته بالسجن من خلال مروره أولًا بطقس قياسي معروف باسم “الترحيب”، حيث يتم إدخاله، عاريًا إلا من ملابسه الداخلية، ضمن صفين طويلين من الحراس الذين يقومون بضربه وضرب باقي السجناء الجدد لمدة ساعتين بالهراوات والأحزمة والسياط.
وعندما أصبح داخل السجن، قام أحد الأصدقاء بتغيير الضمادة الموضوعة على ذراعه بكرة من القطن المتسخ، وفي وقت لاحق، تعاون زملاؤه السجناء على الإمساك به أثناء قيام أحد الأطباء المسجونين باستخدام شفرة حادة لإزالة القضبان المعدنية المزروعة داخل ذراعه.
بعد وصوله إلى وجهة اعتقاله النهائية داخل مجمع سجون طرة في القاهرة، تم وضعه في زنزانة صغيرة مع حوالي 25 سجينًا سياسيًا، يتنوعون في معتقداتهم ومشاربهم، ويشكلون مزيجًا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، الجهاديين المتشددين، ذوي الميول اليسارية أو النشطاء العلمانيين، وهناك، بدأت فكرة الإضراب عن الطعام تراود فكر سلطان كبديل عن إلحاح الجهاديين لانضمامه إليهم.
“السجانون يجردونك من حريتك، يمسحون بكرامتك الأرض، ويحطمون ما تبقى لديك من إرادة” يقول سلطان، ويتابع “ولكن الإضراب عن الطعام يعكس هذه العملية”.
بعد قيام شقيقه باستشارة عائلات المواطنين الفلسطينيين الذين نفذوا إضرابًا عن الطعام في السجون الإسرائيلية، وبناء على نصائحهم، توقف سلطان تدريجيًا عن أكل اللحوم، ثم عن الكربوهيدرات، ومن ثم توقف عن تناول منتجات الألبان على مدى نحو ثلاثة أشهر، وأخيرًا بدأ إضرابه الشامل في 26 يناير 2014.
كان يشرب الماء فقط، وأحيانًا يقوم بإضافة الملح إليه، كما يتناول الفيتامينات التي تقدمها له عائلته، وبعد الـ15 يومًا الأولى، بدأ بفقدان وعيه في كثير من الأحيان، بما في ذلك حادثة فقدان وعي طويلة الأمد في 23 مارس، وكانت سلطات السجن في بعض الأحيان تعمد إلى وضعه في جناح بالمستشفى لإعطائه حقنًا بالوريد متضمنة الجلوكوز والمياه المالحة لانعاشه.
حاول عدد من السجناء المصريين ممارسة الإضراب عن الطعام في تلك السنة، ولكن سلطان استطاع الترويج إعلاميًا لحملته من خلال إرساله لرسائل مفتوحة يستذكر ضمنها حياته في ولاية أوهايو، تم نشرها في صحيفة نيويورك تايمز وغيرها من الصحف العالمية.
قامت سلطات السجن بوضعه في معتقل انفرادي ضمن غرفة بالمستشفى بدون نوافذ، وبعد أيام قليلة من الصمت المطبق، انهار سلطان تمامًا، وقام بضرب رأسه على باب معدني حتى نزف بما فيه الكفاية ليتطلب وضعه المعالجة الطبية، وعلى إثر ذلك، كما يقول سلطان، بدأت سلطات السجن بتشجيعه على قتل نفسه، حيث كان حراس السجن يرمون له بالشفرات الحادة من تحت باب المعتقل، أو يتركون الأسلاك الكهربائية مكشوفة داخل الغرفة، ويستذكر سلطان ما قاله له أحد كبار مسؤولي السجن، والذي يدعى محمد علي “أرحنا وأرح نفسك من وجع الرأس هذا”.
ثم حاولت سلطات السجن إكراه سلطان على إنهاء إضرابه عن الطعام من خلال سياسة الحرمان من النوم، ففي البداية أبقوه مستيقظًا جرّاء صرخات الألم التي يطلقها المعتقلون الذين يتم تعذيبهم أمام باب معتقله تمامًا، ومن ثم تم وضعه تحت الضوء بشكل مستمر على مدار 24 ساعة، وأخيرًا وضع الحراس في غرفته ضوءًا قويًا وامضًا أبقاه مستيقظًا لمدة ثلاثة أيام، وانتقامًا من ذلك، رفض سلطان السماح لأطباء السجن بقياس مؤشراته الحيوية، حتى قام حراس السجن بتكبيل يديه إلى كرسيه المتحرك وضربوه لإجباره على الخنوع.
في يناير، وبعد 11 شهرًا من بدء إضرابه عن الطعام، أقنعته شقيقته، هناء، بأن الدبلوماسيين الأمريكيين باشروا بالعمل في قضيته، وحينها تحول إلى الإضراب الرطب عن الطعام، حيث تناول الحليب واللبن الزبادي والمشروبات.
في أحد الأيام، وبعد بضعة أسابيع، أحضر أحد الحراس مع أحد الممرضين مريضًا معتقلًا إلى مستشفى السجن، يدعى رضا، ووضعاه في غرفة سلطان، وأوصيا الأخير برعايته، وأغلقا الباب ورائهما.
رضا كان يصرخ من أوجاعه وعذابه وآلامه، وحينها ضرب سلطان على الباب بقوة ولأكثر من مرة طلبًا للمساعدة، ولكن أحدًا لم يأتِ، وتوفي رضا أمام عيني سلطان، ولم يفتح الحراس الباب مرة أخرى حتى الساعة الثالثة من ظهر اليوم التالي، “لم تطرق الباب بقوة كافية” قال له الحراس والأطباء وكبار الضباط، وتابعوا “كيف لك أن تدع هذا الرجل يموت؟ كيف يمكنك أن تفعل هذا!”.
طبيب السجن أوضح لسلطان لاحقًا بأن رضا كان يعاني من مرض سرطان متقدم، وكان وضعه ميؤوسًا منه، ولكن مع ذلك يقول سلطان “ما زلت أعاني من كوابيس حول تلك الليلة”.
الأصدقاء الثلاثة الذين اعتقلوا مع سلطان ما زالوا يقضون أحكامًا بالسجن مدى الحياة، ووالده محكوم عليه بالإعدام.
“الإضراب عن الطعام لا يعد التصرف الأكثر منطقية الذي يمكنك القيام به” يقول سلطان، ويتابع “ولكن داخل السجن، أو بالأحرى في مصر بشكل عام، كل شيء محكوم بمنطق القوة، ويمكن للسلطة أن تفعل أي شيء تريده، وهذه الأشياء لا تحتاج إلى تبرير منطقي”.
المصدر: نيويورك تايمز