آخر عباقرة الآزوري
رغم تصنيفها كواحدةٍ من أهمّ المدارس الدفاعيّة في كرة القدم، وشهرتها بتخريج أهمّ نجوم الدفاع في تاريخ المستديرة، لم يعقم رحم الملاعب الإيطاليّة عن إنجاب عددٍ من عباقرة اللعب الأفذاذ الذين متّعوا الجمهور العاشق للكرة بلمساتهم الراقية ومواهبهم الخلاقة، من أمثال فالنتينو مازولا وجياني ريفيرا وروبيرتو باجيو، وأخيراً أندريا بيرلو، ذلك النابغة الذي أدخل البهجة إلى كلّ بيتٍ في إيطاليا، بقيادته كتيبة محاربي الآزوري إلى انتزاع لقب كأس العالم عام 2006 من أنياب أعتى المنتخبات العالميّة، بحنكة القائد الملهم وعقليّة المفكّر المتواضع الذي لا يجيد الكلام والصراخ، بل يدع قدميه تتحدثان عنه، بمهاراتٍ نادرةٍ ولمساتٍ بديعةٍ ورؤيةٍ ثاقبةٍ قلّما تخطئ، جعلته جديراً بحمل لقب آخر عباقرة الطليان، الذين لن تُنكّس راية أمجادهم الكرويّة وأمثاله بين ظهرانيهم!
فتى بريشيا الموهوب
ولد يوم التاسع عشر من شهر أيار عام 1979 في بلدة فليرو ضمن مقاطعة بريشيا شمال إيطاليا، وتنقّل بين صفوف فرق صغار بلدته، قبل أن يحطّ به الرحال في ناشئي نادي بريشيا، حيث لفت الأنظار إليه بموهبته الفطرية في التمرير وقدرته على التحكّم بالكرة والتسديد الدقيق، ليصبح قائداً لشبّان النادي، ويحظى بفرصةٍ مبكّرةٍ للظهور مع الفريق الأوّل لناديه في دوري الدرجة الأولى الإيطالي (السيري آ)، وذلك في مباراة ريجينا أواخر موسم 1994-1995، وهو ابن 16 عاماً لا غير، ليكون أصغر من مثّل بريشيا في الدوري عبر تاريخه، ولم تتح له فرصة الظهور مجدّداً في (السيري آ) الموسم التالي بسبب هبوط ناديه إلى الدرجة الثانية والمكوث في غياهبها موسمين، كان لناشئ بريشيا الموهوب في ثانيهما اليد الطولى في إعادة ناديه إلى أضواء السيري آ، ليخوض موسم 1997-1998 أساسياً منذ بدايته كلاعب وسطٍ هجوميٍّ، ويسجّل أوّل أهدافه في جنّة الأضواء يوم 19/10/1997 في مرمى فيشنزا، ويتابع تألّقه بتسجيل ثلاثة أهدافٍ أخرى وصناعة العديد منها خلال 29 مباراة خاضها مع فريقه، دون أن يكون ذلك كافياً لدعم صمود ناديه في الدرجة الأولى فهبط مجدّداً إلى السيري ب، وعلم بيرلو حينها أن مستقبله الرياضي لابدّ أن يكون في نادٍ أكبر من بريشيا المتواضع، فقبل بعرض الانتقال إلى إنتر ميلانو صيف العام 1998.
رياح الإنتر العاتية
لم يحظ فتى بريشيا بمكانٍ أساسيٍّ في تشكيلة النيرازوري الغنيّة بالنجوم، فاكتفى بلعب 18 مباراة طيلة موسمه الأوّل معه شارك في معظمها كبديل، قبل أن يقضي ثاني مواسمه 1999-2000 معاراً إلى نادي ريجينا حيث استعاد إيقاع المباريات، فشارك أساسياً في 28 مباراة مسجّلاً ستّة أهدافٍ، ليكافأ صيف العام 2000 بالاستدعاء إلى منتخب إيطاليا للشباب للمشاركة في بطولة أوروبا للشبّان (تحت 21 عاماً) في سلوفاكيا، حيث أبدع المايسترو الإيطالي وقاد فريقه إلى التتويج بلقب البطولة، مع إحرازه جائزتي أفضل لاعبٍ والهدّاف، ليقدّم أوراق اعتماده كنجمٍ قادمٍ للآزوري. وعاد بعدها إلى ناديه الإنتر محمّلاً بآمالٍ عريضةٍ وطموحاتٍ وثّابةٍ بالمضي قدماً في طريق النجوميّة، ولكنّ رياح النيرازوري جرت بما لا تشتهي سفن بيرلو، فأحبطت سعيه وعطّلت مسيرته بتهميش دوره وركنه على دكّة البدلاء طيلة مرحلة الذهاب موسم 2000-2001، قبل أن يجد في الإعارة إلى ناديه القديم بريشيا ملاذاً من ظلم وتعنّت ناديه الإنتر، فلبث هناك ستة أشهرٍ داوى فيها جراحاته مع أصدقاء طفولته، تحت قيادة المدرب القدير كارلو مازوني، الذي كان أوّل من نقله إلى مركز صانع الألعاب الخلفي الذي وجد فيه راحته، كما وجد نفسه قريباً من لاعبه المفضّل وقدوته روبرتو باجيو الذي كان يقضي آخر أيامه في الملاعب، فنهل من خبرته وتجربته، واستمع إلى نصيحته بتغيير الأجواء والانتقال بعيداً عن إنتر ميلانو.
ضلع الميلان الذهبي
في الثلاثين من شهر حزيران لعام 2001، أصبح أندريا بيرلو لاعباً في نادي إس ميلان بعد انتقاله إليه مقابل رسومٍ بلغت حوالي 17 مليون يورو، لم يجد مسؤولو الميلان في دفعها أيّة غضاضةٍ، فعين مدربهم الخبير كارلو أنشيلوتي -التي وجدت في هذا اللاعب الموهوب مشروع نجمٍ قادم- قلّما تخطئ، وطريقته الهادئة الأبويّة في إيصال خططه وأفكاره التكتيكيّة إلى نجوم فريقه، خلقت جوّاً مريحاً وبيئةً مناسبةً للعبقريّ الصغير كي ينثر إبداعاته، ففي موسمه الأول 2001-2002 تصاعدت دقائق مشاركته منذ مطلع الموسم حتى غدا أساسياً قبل نهايته التي لم تأتِ بألقابٍ تذكر، وكرّس نفسه قطعةً لا غنى عنها في جسد الفريق منذ مطلع موسمه الثاني، حيث ثبّته أنشيلوتي في مركز صانع الألعاب الخلفي إلى جانب المحارب غاتوزو والدينامو سيدورف، ليكوّن معهما مثلثاً ممتازاً في خط الوسط خلف النجمين روي كوستا وكاكا والهدّاف شيفشينكو، ويشكّل مع رباعي الدفاع المتين بقيادة الأسطورة باولو مالديني، نواة فريق الميلان الذهبي الذي تألّق محلياً وأوروبياً على مدى نصف عقدٍ من الزمن، أحرز خلاله العديد من الألقاب الكبرى، بدايةً بكأس إيطاليا عام 2003، ومن ثمّ لقب دوري أبطال أوروبا المجيد في نفس الموسم بعد الانتصار على الجار يوفنتوس بركلات الترجيح، ومن ثمّ كأس السوبر الأوروبي في ذات الصيف، بعد الفوز على بورتو بهدفٍ في الوقت الممدّد سجّله بيرلو من ركلة جزاء.
وازدادت أهميّة بطلنا في فريقه، فغدا مع مرور الوقت القائد الحقيقي لكوكبة النجوم الميلانيّة على أرض الملعب، حيث فاز معهم عام 2004 بأوّل ألقابه في الدوري الإيطالي، قبل أن يردفه بكأس السوبر الإيطالي في نفس العام، وليعود الموسم التالي عام 2005 للتأهل إلى نهائي كأس الأبطال حيث عاش بيرلو ورفاقه تجربةً قاسيةً بعدما فرطوا في تقدّمهم الثلاثي وخسروا اللقب أمام ليفربول، ولكنّ العام التالي حمل معه الفرح الأكبر للعبقريّ الإيطالي رغم خروجه خالي الوفاض مع ناديه، حين فاز بلقب كأس العالم مع منتخب الآزوري عام 2006، وتوّج شخصياً بلقب أفضل لاعبٍ في مباراتي نصف النهائي والنهائي، فضلاً عن اختياره عضواً في منتخب نجوم كأس العالم.
وتابع المايسترو المفكّر رحلة تألّقه، ففاز مجدّداً بلقب كأس الأبطال مع ناديه، بعد أن انتقموا من ليفربول بالذات، بالفوز عليهم بهدفين لهدف في نهائي أثينا عام 2007، وأردفه بلقبي كأس السوبر الأوروبي وكأس أندية العالم في نفس العام، الذي شهد ترشيحه لجائزة أفضل لاعبٍ في العالم، التي فاز بها زميله في الميلان البرازيلي كاكا، ليقضي بعدها الميلان موسمين صعبين بلا ألقابٍ، انتهيا بمغادرة المدرّب أنشيلوتي والنجم كاكا النادي صيف عام 2009.
ومع رحيل كارليتو، فقد بيرلو جزءاً من أهميّته في الفريق الذي خرج بلا ألقابٍ في موسم تدريب ليوناردو له، قبل أن يعود للفوز بلقب الدوري الإيطالي عام 2011 على يد المدرب ماسيمليانو أليجري، دون أن يكون لهذا الإنجاز أيّ طعمٍ أو لونٍ بالنسبة للنجم العبقري، الذي شعر وهو في عامه الثاني بعد الثلاثين بأنّ دوره لم يعد رئيسياً مع النادي الذي قضى فيه زهاء عشرة أعوامٍ، وأنّ من حوله صار ينظر إليه نظرة الهرِم الذي نضب عطاءه وأوشك على الاعتزال، وهو ما لم ترتضه روحه الوثّابة التي مازالت تنبض بحماس شابٍ لم يتجاوز العشرين.
عودة الشباب مع السيّدة العجوز
غادر أندريا ناديه الميلان من الباب الضيّق بعد أن رفض تجديد عقده، ووقّع لمنافسه وغريمه اليوفنتوس بالمجان صيف عام 2011، ليأخذ سريعاً مكانه في تشكيلة المدرب كونتي، الذي وجد في خبرة بيرلو وشخصيته القيادية ضالّته المفقودة، وحجر الأساس في مشروع إعادة شباب السيّدة العجوز، الذي نجح فيه أيما نجاح! فأحرز لقب الدوري الغائب عن خزائن البيانكونيري منذ تسع سنوات، في موسمٍ استعاد فيه العبقريّ المخضرم عنفوان شبابه، فصنع 13 هدفاً لزملائه وسجّل ثلاثةً أخرى، ليتوّج بلقب أفضل لاعبٍ في الكالتشيو لعام 2012، الذي شهد كذلك بلوغه نهائي اليورو مع منتخبه الآزوري، في البطولة التي اختاره المراقبون عضواً في منتخب نجومها.
وأعاد الكرّة في موسميه التاليين مع اليوفي، فحمل لقب الدوري فيهما وتُوّج بجائزة أفضل لاعب في الكالتشيو لعامي 2013 و2014، بفضل تمريراته الميليمتريّة العميقة التي لطالما قدّمت الأهداف لزملائه على طبقٍ من ذهب، فضلاً عن أهدافه الحاسمة التي سجّل معظمها من الركلات الحرّة المباشرة، التي أصبح في مصاف أفضل منفّذيها على مرّ العصور.
وفي الموسم المنصرم، لم يحد المايسترو العبقريُّ -تحت قيادة مدربه الجديد القديم أليجري- عن سكّة التألّق مع البيانكونيري في موسمه الرابع معهم، فقاد فريقه وهو ابن 36 إلى التتويج بثنائية الدوري والكأس الإيطاليتين، فضلاً عن بلوغه نهائي دوري أبطال أوروبا، الذي خسره فريقه أمام البارسا بعد مباراةٍ ملتهبةٍ، ذرف على إثرها صاحب الرقم 21 دموع الحسرة لضياع لقبٍ كان يمنّي النفس أن ينهي به مسيرته الحافلة مع الكرة الإيطاليّة والأوروبيّة، والتي كان قد اتخذّ قراره بوضع حدٍّ نهائيٍّ لها، مفضّلاً خوض تحدٍّ جديدٍ جديرٍ بالتجربة، عبر الانتقال إلى نادي نيويورك سيتي الأمريكي، ليودّع بذلك جنّة كرة القدم (الكالتشيو) تاركاً أحلى الذكريات، بعدما مكث في فيافيها قرابة عشرين عاماً، لعب خلالها 493 مباراة مع خمسة فرقٍ مختلفة، وأحرز ستة ألقابٍ في الدوري ولقبين في كأس إيطاليا، فضلاً عن لقبيه الأوروبيين المجيدين مع الميلان.
فلسفة العباقرة
كثيرٌ من لاعبي المستديرة استحقّوا لقب (النجوم)، ولكنّ قليلاً من هؤلاء النجوم استحقوا لقب (عباقرة الكرة)، وأندريا بيرلو كان واحداً منهم، شأنه شأن أساطير خالدة كيوهان كرويف وميشيل بلاتيني وزين الدين زيدان وتشافي، إضافةً إلى نجمنا العربي المصري الرائع محمد أبو تريكة الملقّب بـ(الفيلسوف)، أولئك جابوا الملاعب بفكرهم قبل أرجلهم، وداعبوا الكرة بشغاف أفئدتهم قبل أنامل أقدامهم، ففازوا بقلوب الملايين من عشّاق الفنّ الكرويّ الراقي، الذين استهوتهم فلسفة العباقرة، تلك التي جعلها بيرلو عنوناً لكتاب سيرته الذاتيّة: (أنا أفكّر إذاً أنا ألعب).