أحب رام الله، تشعر وكأنها مدينة أوروبيّة فيها التنوّع والاختلاف والأذواق الفريدة، لكنها أيضاً متناقضة، فمن ناحية لم تأخذ من الحياة الغربية سوى المظاهر، الملاهي الليلية والمطاعم الفاخرة والمقاهي، ومن ناحية أخرى تفتخر أنها أكثر المدن في العالم مباهاةً بالتقاليد وبأنها محافظة، لا أدري محافظة على ماذا بالضبط. كما تجد فيها الشركات والأبراج والسيارات الفارهة وكأنها انتزعت من كوكب آخر، الفروقات الطبقيّة في المدينة أصبحت واضحة، وخصوصاً بعد أن أصبحت العاصمة السياسيّة للسلطة، فانتقل إليها الاستثمار والاقتصاد ومشاريع القطاع الخاص.
استبدلت رام الله صور الشهداء بإعلانات المهرجانات الغنائية والعقارات، وأصبحت قبلة للفنانين الاستهلاكيين، حيث يستغل القائمون على هذه الاحتفالات حاجة الناس، وخاصة الشباب منهم إلى الفرح وتفريغ المكبوت والهروب من الواقع، فالغاية منها تجارية ربحية، بمسحة ” مكياج ” فنّي، إذ أن ثمن التذكرة خيالي وكأن دخل الفرد الفلسطيني أعلى من دخل الأمريكي. هذا الفرح البرجوازي والذي يتم تبريره بشعارات وطنية وفنيّة، مثل الفن فعل مقاوم، أو اهزم عدوّك بالرقص، فما دخل الوطن ليزجّ به في الترويج لمهرجان، يكسب الراعون له ملايين الدولارات؟
تجتاح رام الله حركة بناء واسعة على أراضيها الداخلية، فثمّة الأبراج السكنية والتجارية، ثعبان من عقارات الشقق والمكاتب والمحلات يلتهم المدينة، وتظل عشرات الآلاف من الشقق فارغة لغلاء أسعارها، يرفض المالكون تخفيض أسعارها، سياسة رأسماليّة تسعى للحفاظ على أسعار العقارات وعدم تخفيضها حتى لو ظلّت فارغة، في الوقت الذي يبحث فيه آلاف الشباب عن بيت بأسعار مقبولة، تمكّنهم من الزواج وتأمين حياة كريمة.
أسطح المجمّعات التجارية تتحول بعد العاشرة مساءً إلى ملاهي ليليّة، لرجال الترف وعشّاق الحياة البرجوازية، كما تستقبل الأثرياء من الشباب العرب الذين يأتون لتذوّق ليل رام الله الخاص، فيدفع الواحد منهم في ليلته أكثر مما يتقاضاه سنويّاً عامل النظافة أبو أحمد، الشّهير بعربته التي يزينها بورود بلاستيكيّة، وراديو ينشر الموسيقى في أزقّة المدينة، صاحب الابتسامات التي يوزّعها على العابرين دون أن ينتظر منهم أي مقابل.
أحب رام الله التي احتضنتني في أكثر الأوقات قسوة، ومنحتني مساحة شهيّة من التجارب والحرية، لكنني عاتبٌ عليها لما تفعله بمحبّيها، إذ تلبس وجهاً ليس وجهها، وتتكلّم بصوتٍ ليس صوتها، مستسلمة لجماعة من الرأسماليين والانتهازيين الذين يستميتون لتدمير كل قيمة جمالية في المدينة، وتحويلها إلى أداة نفعيّة وربحيّة، بحجة الانفتاح والحداثة، أنا فقط ضد سياسات البتر والتشويه للوجه التاريخي والحضاري لرام الله، واستبداله بقناع طبقي، ومادّي.
في النهاية، المدن مثل البشر، تتغيّر وتبدّل جلدها ولون بشرتها، وفق معطيات الواقع وضرورات المصلحة، لكنني أحب في رام الله رائحتها القديمة، وألوانها الدافئة التي تملأ قلوب الناس بالحب والأمان، وأريدها أن ترجع إلى أحلامها بالحرية والإبداع، بعيداً عن الأنماط الاستهلاكية الجديدة التي بدأت تستنزفها بلا رحمة.