أعلنت شركة إيني الإيطالية بالأمس اكتشاف حقل غاز عملاق يقع داخل مياه مصر الإقليمية في البحر المتوسط على عُمق 1450 متر كجزء من منطقة كانت الشركة قد فازت بها في مناقصة مطلع العام المنصرم، لتوقع عقدًا مع الحكومة المصرية على التنقيب فيها في يناير 2014، وطبقًا للبيان الرسمي الصادر من الشركة، تشير التقديرات الأولية إلى أن الاحتياطي في بئر زُهر قد يصل لحوالي 30 مليار قدم مكعب، مما يجعله أكبر اكتشاف للغاز في مصر والبحر المتوسط.
حتى الآن تبدو الأخبار القادمة من الشركة جدية رُغم عدم معرفتنا بتصنيف كميات الغاز المقدرة، حيث يتم عادة تصنيف أي اكتشاف نفطي أو غازي إما P1 باعتباره مؤكد استخراجه مستقبلًا بنسبة 90٪، أو P2 إذا ما كان محتملًا بنسبة 50٪، أو P3 إذا ما كانت هناك إمكانية لاستخراجه مستقبلًا بالفعل ولكن باحتمال ضعيف، وطبقًا لما صرحت به الشركة، فإن “زُهر” قد يكفي مصر من احتياجاتها لخمسة عقود مقبلة أو أقل قليلًا بالأخذ في الحسبان أي احتمالات نمو اقتصادي قوي في المستقبل.
“إنه يوم هام جدًا لشركة إيني والعاملين فيها، فالنتائج تكشف خبراتنا وقدراتنا التكنولوجية وقوة التعاون بين كافة وحدات الشركة، وهذا الاكتشاف هو ثمرة استراتيجية العمل بدأب في بلدان نمتلك فيها خبرة طويلة ومناطق ندرك جيدًا إمكانياتها في مجال الطاقة، وهو اكتشاف سيغيّر تمامًا من خارطة الطاقة في مصر التي نعمل بها منذ ستين عامًا،” هكذا قال المدير التنفيذي لشركة إيني، كلاوديو ديسكالزي، والذي التقى الرئيس المصري لمناقشة آخر تطورات ملف الغاز.
خريطة حقل زُهر قبالة السواحل المصرية
ماذا يعني حقل زُهر لمصر؟
على الرُغم من تصريحات شركة إيني بقدرة مصر على تحقيق الاكتفاء الذاتي، إلا أن روبين ميلز، الباحث المتخصص في شؤون الطاقة، يقول بأن إنتاج الشركة من الحقل فعليًا قد يسد جزءًا كبيرًا من عجز الطاقة في مصر ولكن ليس كله، كما أنه لن يضع مصر على خارطة التصدير ما لم يتسع نطاق التنقيب وتكتشف الشركة كميات أكبر من الغاز، بيد أنه يؤكد أن زُهر يجعل استيراد الغاز من إسرائيل، والذي كان مطروحًا على الطاولة منذ أشهر لحل أزمة الطاقة في مصر، خارج الحسابات تمامًا.
تمتلك شركة إيجاس المصرية 50٪ من الحقل وحقوق إنتاج الغاز فيه، في حين تمتلك شركة إيني 50٪، وهو ما يعني نظريًا قدرة مصر على تسيير دفة مشاريع استخراج الغاز وتقرير ما إذا كانت ستخصصه للأسواق المحلية لسد عجز الطاقة، أم تصديره للسوق العالمي مع الاستمرار في خطط الاعتماد على الغاز الإسرائيلي و/أو الخليجي، وهي مسألة تخضع بالطبع للاعتبارات المالية أولًا، بالنظر للسيناريو الذي سيحقق أرباحًا أكبر، والسياسية ثانيًا، فإذا كانت القاهرة راغبة في تحقيق استقلالية أكبر عن إسرائيل والخليج فإنها ستتجه بالفعل للاستفادة محليًا من زُهر.
يلفت النظر في وسط هذه الأخبار خبر قديم لم يلقى انتباهًا في الصُحُف المصرية يشير إلى أن مصر قد رفعت سعر شراء الغاز من شركة إيني أكثر من 100٪، ليصل لـ5.88 دولار لكل مليون وحدة حرارية بريطانية بعد أن كان 2.65 في السابق، وهو سعر تم الاتفاق عليه في مطلع يوليو الماضي وفقًا لما قاله مسؤول في الشركة المصرية القابضة للغازات الطبيعية “إيجاس،” وذلك بعد توقيع اتفاق سابق مع شركة إيني لتنفيذ مشروعات استكشافية بملياري دولار لمدة أربعة أعوام في يونيو (نص الخبر كاملًا من رويترز هنا).
من ناحية، يقول البعض أن تسلسل الأحداث يشير إلى ظهور الحقل في الحسابات منذ فترة بشكل أدى للصفقة الجديدة في يوليو الماضي، والتي ستؤدي على الأرجح لتصدير أغلب الكميات المكتشفة كما كان يحدث في حقول غاز أخرى في السابق، وأن الإعلان عن الكشف الآن يهدف إلى خلق صورة تفيد بقدرة مصر على التصدير ليس إلا لتمرير الصفقة، ومن ناحية أخرى، يقول آخرون أن شركة إيني، على العكس من غيرها من شركات النفط والغاز الأوروبية، لها تقليد عتيد في الاهتمام بالبلدان صاحبة الثروات البترولية واحترام ملكيتها لها مما يعني قدرة مصر على استغلال تلك الثورة للإيفاء باحتياجاتها، وهو أمر يفترض بالطبع وجود إرادة سياسة لتعزيز استفادة الداخل المصري من تلك الثروة.
أين يقع “زُهر” من أكبر حقول الغاز في العالم؟
إذا صحت التقديرات الأولية لشركة إيني، فإن حقل زُهر سيكون رقم 20 على قائمة أكبر حقول غاز في العالم، باحتياطي قابل للاستخراج يصل لحوالي 850 مليار متر مكعّب، لينقل مصر إلى المركز 15 عالميًا في قائمة البلدان صاحبة أكبر كميات من احتياطي الغاز في العالم، وهي القائمة التي تتربع على رأسها كل من إيران وروسيا وقطر، الثلاثي العملاق في عالم الغاز الطبيعي، كما أنه سيكون الأكبر في المتوسط وإن لم يكن الأكبر في أفريقيا، مما يعني أنه سيضاهي الحقول المُكتَشَفة مؤخرًا في إسرائيل وقبرص واليونان.
كانت بعض التقارير الإخبارية هنا وهناك قد أشارت إلى أن زُهر قد يكون الأكبر في العالم، وهي تقارير مبالغ فيها في الواقع إذا ما قورنت الأرقام الرسمية بالكميات المثبتة في حقول الغاز الأكبر في العالم، والتي يقع على رأسها حقل پارس الذي تتقاسمه إيران مع قطر في الخليج الفارسي، ويحتوي على احتياطي يبلغ 35 تريليون متر مكعب، وحقل أورينغوي الروسي الواقع في حوض غرب سيبيريا، والذي يحتوي على 6 تريليون متر مكعّب، ثم حقل بامبورغ في روسيا أيضًا بأقصى الشمال ناحية المحيط القطبي، والذي يحتوي على حوالي 4 تريليون متر مكعب، وحقل حاسي الرمل بالجزائر ويحتوي على 3.5 تريليون متر مكعب، وتلك هي الحقول الأربعة في العالم.
ماذا يعني “زُهر” للعبة الغاز في شرق المتوسط؟
خطوط الغاز الموجودة حاليًا بالأحمر، والمطروحة في مشاريع بالأزرق، والمُقترحة نظريًا بالنقاط الحمراء
في الفترة الأخيرة، تحدث الكثير من المحللين عن دخول منطقة شرق المتوسط إلى عالم الطاقة بعد اكتشافات عدة على سواحل اليونان وقبرص وقطاع غزة وإسرائيل ولبنان، وهي اكشتافات تُعرَف مجمّعة بحوض الشام، والذي يُقدّر الاحتياطي فيه بحوالي 3 تريليون متر مكعب، بيد أن استخراج الكثير منه يخضع للتوترات بين لبنان وإسرائيل في تحديد حدود المياه الإقليمية بين البلدين، وبين قبرص وتركيا أيضًا، حيث تهيمن الأخيرة على جمهورية شمال قبرص التركية وتتنازع مع جمهورية قبرص بعض حقول الغاز في المتوسط.
تباعًا، كانت حقول ليفياثان وتمار في إسرائيل وحقل أفروديت في قبرص هي الحقول الوحيدة التي بدأ العمل فيها على قدم وساق نتيجة عدم وجود خلافات عليها، وهي حقول لم يكن مُتاحًا لها التصدير إلا في صورة غاز مُسال يتم شحنه مثله مثل براميل النفط، أو في صورته كغاز طبيعي عبر خطوط الغاز المارة من تركيا، وهو ملف يخضع بالطبع للعلاقات مع تركيا والمتوتر مع الطرفين بالفعل، وبالنظر لصعوبة وتكلفة إنشاء خط تحت مياه البحر مباشرة لليونان وضآلة الكميات فيه مقارنة بما تملكه إيران، بدا مؤخرًا أن ملف الغاز في المتوسط سيقتصر على الدول القريبة مثل مصر والبلقان ولن يغيّر قواعد اللعبة في أوروبا، والتي تتجه الآن على ما يبدو ناحية عملاق الغاز الإيراني بعد رفع العقوبات.
من ناحيتها، وبالنظر لقُربها مؤخرًا من قبرص واليونان وإسرائيل وتوترها مع تركيا، قد تكون مصر حريصة على استغلال زُهر لتعزيز تحالف الغاز هذا، لا سيما وأنها تمتلك في دمياط منشأة لتحويل الغاز الطبيعي لغاز مُسال وبالتالي تصديره لأسواق جنوب أوروبا، أو ربما تدشين خط غاز يصلها بشبكة المغرب العربي المتجهة لأوروبا، وهي كلها خيارات تصب في إبعاد الغاز عن تركيا، والتي تحاول الهيمنة قدر الإمكان على خطوط نقل الطاقة من آسيا وإلى أوروبا، وإن كان انقشاع التوتر بين النظامين في القاهرة وأنقرة على المدى البعيد بالطبع يفتح احتمالية الاتصال بخطوط الغاز القادمة من آسيا والأكثر استقرارًا مقارنة بالخط الليبي.
بين تعزيز تحالف الغاز مع إسرائيل من ناحية، والإحباط الذي ستعانيه نتيجة خسارة صفقة تصدير الغاز لمصر، صدر بالأمس اول تصريح رسمي من تل أبيب على الاكتشاف المصري، إذ صرّح وزير الطاقة الإسرائيلي يوفال شتاينيتز أن زُهر “تذكرة مؤلمة لإسرائيل بألا تتلكأ في توقيع العقود بعد ذلك وهي تعلم أن خارطة الطاقة تتغير كل لحظة،” في إشارة إلى التأخير من الجانب الإسرائيلي في توقيع عقد تصدير إلى مصر خلال الأشهر الماضية، والذي كان في طريقه للاتمام في الحقيقة بينما استمرت الشركات الإسرائيلية في استخراج الغاز استعدادًا لتمريره إلى مصر في المستقبل القريب، وهي خطط أفسدها على ما يبدو ظهور زُهر على خريطة الطاقة العالمية، ما لم تكن هناك حسابات أخرى.