أثارت مُصادقة الحكومة التونسية على قانون للرفع في سن التقاعد بـ 5 سنوات في انتظار المصادقة عليه من طرف مجلس نواب الشعب جدلا واسعا في الأوساط السياسية والمدنية في تونس، قانون سيُتيح لموظفي الدولة بصفة اختيارية أن يمدّدوا فترة عملهم 5 سنوات إضافية، تحت وطأة عجز الصناديق الإجتماعية كالصندوق لوطني للضمان الإجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الإجتماعية إضافة للصندوق الوطني للتأمين على المرض.
إجراء ضروري لتفادي انهيار الصناديق الإجتماعية
وفي هذا الصدد، قال وزير الشؤون الاجتماعية، أحمدعمار الينباعي، أن مشروع الرفع في السن القانونية للتقاعد سيتم اعتماده بداية من غرة جانفي 2016 في حال تمت المصادقة عليه من قبل مجلس نواب الشعب، مُبيّنا أن الاختيار يجب أن يتم سنتين قبل بلوغ سن التقاعد وهو “خيار نهائي لا رجعة فيه” مشيرا الى أن مشروع القانون ينص كذلك على الابقاء على طريقة احتساب جراية التقاعد (المعاش).
وتم التنصيص ضمن مشروع القانون الذي تمت المصادقة عليه من قبل مجلس الوزارء على مجموعة من الأحكام المتعلقة خاصة بالتأكيد على الطابع الاختياري لهذا الإجراء وتحديد الشرائح المعنية بالترفيع الإختياري وهم الأعوان العموميون المنتمون للقطاع العمومي الخاضعين لأحكام القانون عدد 12 لسنة 1985 المؤرخ في 5 مارس 1985 الذين تفصلهم 5 سنوات عن بلوغهم السن القانونية الجاري بها العمل وقت صدور القانون.
يشار في هذا الصدد إلى أن الدراسات المنجزة في هذا الإطار تبين أن الإجراء المتعلق بالرفع في السن القانونية للتقاعد سيساهم في الحد من العجز المرتقب والمتراكم لأنظمة التقاعد في القطاع العمومي والمقدر بحوالي 2084 مليون دينار خلال السنوات 2016 و 2017 و2018 ليتقلص إلى 774 مليون دينار في انتظار المراجعة الشاملة لكامل منظومة الضمان الاجتماعي تجسيما لبنود العقد الاجتماعي المُمضى بين الحكومة واتحاد الشغل واتحاد الأعراف.
ودعا الوزير إلى الإسراع بالمصادقة على القانون للدخول حيز التنفيذ بداية العام الجديد، خاصة مع تواصل ضعف مُؤشرات التنمية التي لن تتجاوز 0.7 بالمائة بحسب أغلب الإستشرافات، وهو ما من شأنه أن ينعكس سلبا على الموازنات الإقتصادية العامة للدولة.
موضوع جديد قديم
وفي الحقيقة، لا يُعدّ الحديث عن الرفع في سن التقاعد من بين المُستجدّات في تونس،حيث اقترحت الدراسة التي أعدها مكتب العمل الدولي لإصلاح أنظمة التقاعد في تونس التمديد في سن التقاعد على مرحلتين إلى 62 سنة في المرحلة الأولى التي ينطلق تطبيقها بداية من 2011 و65 سنة ينطلق تطبيقها في 2016 منذ شهر سبتمبر/أيلول 2010.
كما اقترحت الدراسة، أياما قبل اندلاع شرارة الربيع العربي في تونس، الزيادة في نسبة المساهمات المالية للأجراء والمؤجرين في القطاعين الخاص والعام وذلك على مرحلتين لتجاوز العجز المُتفاقم في الصناديق الإجتماعية التونسية، وهو ما سبب جدلا شبيها بالذي نعيشه اليوم وقتها.
تفاصيل العجز في الصناديق الإجتماعية
ويعتبر تفاقم العجز المالي الذي تمرّ به الصناديق الاجتماعية الثلاثة في تونس من الملفات الحارقة التي عجزت أمامها حكومات ما بعد 11 جانفي 2011 ومن أبرز التحديات التي سوف تواجهها الحكومة الحالية، فبحسب آخر الدراسات التي اهتمت بالملف، دخلت هذه الصناديق في مرحلة عجز هيكلي ناتج عن أسباب تنموية من أهمها تحسّن معدل الحياة وشيخوخة السكان وتهرّم الأنظمة وتأخر الاندماج في سوق الشغل الى غير ذلك من الأسباب.
وتشير دراسات أخرى إلى أن عجز الصناديق كان متوقعا منذ سنة 1985 لكن الحكومات المتتالية لم تواجه الصعوبات بجدية مما أدى الى انخرام الوضعية، ورغم بعض الإجراءات التي انطلقت سنة 1995 من خلال رفع نسب المساهمات وإعادة النظر في شروط التقاعد المبكر وإتاحة الترفيع في سنّ التقاعد لأسباب شخصية من 50 الى 55 بعد قضاء 30 سنة عمل، ظلّت هذه الاجراءات محدودة وتقتصر فقط على تضخيم موارد الصناديق لمدة قصيرة دون التوصل الى حلول جذرية تضمن ديمومة نظم الضمان الاجتماعي.
ومن بين أبرز الاصلاحات التي تتكرر بصفة آلية إلى حدّ الان تتمثل في الرفع في سنّ التقاعد والترفيع في نسبة المساهمات وهي مقترحات تتماشى مع رؤية المكتب الدولي للعمل حسب نتائج الدراسة التي أنجزتها وزارة الشؤون الاجتماعية والتي تقترح الترفيع في سنّ التقاعد في مرحلة اولى الى 62 سنة والى 65 سنة في مرحلة ثانية وهو ما قد يساهم في اعزيز موارد هذه الصناديق لكنه سيخلق خللا اجتماعيا يتعلق بتشغيل مئات الآلاف من الشباب أصحاب الشهائد العليا الذين ينتظرون توظيفهم.
وقد لعبت العديد من العوامل دورا هاما في التفكير في الرفع في سن التقاعد بتونس لعل أهمها العجز المالي لصناديق الدولة الذي تفاقم كثيرا خاصة صندوق التقاعد والحيطة الاجتماعية الذي وصل عجزه إلى حدود 400 مليون دينار خلال هذه السنة بعد أن بلغ 280 مليون دينار سنة 2013 وبانتظار أن يصل إلى 700 مليون دينار مع موفى سنة 2015 بالإضافة إلى انخفاض مداخيل الصندوق بسبب تراجع عدد الناشطين، و ارتفاع أمل الحياة إلى حدود 75 سنة مما اضطر الصندوق إلى توفير منحة التقاعد إلى ما يفوق 15 سنة بعد نشاط المنخرط.
ووفق آخر الأرقام الرسمية، تعاني صناديق التقاعد مجتمعة من عجز كبير بلغ 1.1 مليار دينار خلال سنة 2013/2014 مُرشّح لبلوغ 2 مليار دينار خلال الحمس سنوات القادمة إذا لم يتم إيجاد حلول عاجلة وجذرية، كما تأمل الوزارة أن يتم التخفيف في هذا العجز المُتوقّع خلال الثلاث سنوات المُقبلة بنسبة 50 بالمائة، إذا تم تبني مقترحها في ترفيع سن التقاعد.
صدام مُرتقب مع الإتحاد العام التونسي للشغل
وأشارت بعض التقارير الإعلامية إلى استغراب قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل من تصريحات وزير الشؤون الاجتماعية حول الرفع في سن التقاعد بـ5 سنوات ابتداء من جانفي القادم في صورة مصادقة مجلس نواب الشعب على مشروع القانون المصادق عليه من قبل مجلس وزراء، باعتبار أن ملف الصناديق الاجتماعية والترفيع في سن التقاعد لم يقع الاتفاق بشأنها ولم يبرم أي اتفاق في الغرض بين الحكومة والأطراف الاجتماعية وباعتبار أن الترفيع في سن التقاعد مازال محل تفاوض.
وقد سبق للمنظمة الشغيلة أن رفضت الرفع في سن التقاعد الاختياري على اعتبار انه لن يكون حلا لإنقاذ الصناديق الاجتماعية، خلال آخر اجتماع للجنة الفرعية للحماية الاجتماعية المنبثقة عن لجنة العقد الاجتماعي، وهي لجنة تجمع بين الحكومة واتحاد الشغل واتحاد الأعراف، خلال شهر يونيو الماضي.
ومن جهة أخرى، يعتبر الاتحاد أن المشروع المُقدّم متضارب مع ما تم الاتفاق حوله صلب اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية مُعتبرا إياه ضربا لمصداقية الحوار الاجتماعي.
وفي نفس السياق، أشار عبد الكريم جراد، أحد قيادات الإتحاد العام التونسي للشغل، إلى ان مشروع قانون الرفع الاختياري في سن التقاعد وإن كان في ظاهره يتحدث عن الترفيع الاختياري في سن التقاعد إلا أنه في مضمونه هو “ترفيع إجباري مُقنّع”، موضحا أن “مشروع القانون ينص على أن اختيار التمديد او المغادرة في السن القانوني قبل مدة 5 سنوات من بلوغ سن التقاعد غير منطقي باعتبار أنه مبكر لحسم المضمون الاجتماعي موقفه في الغرض”.
وقال ان اتحاد الشغل يرفض قطعيا مبدأ عدم طلب المغادرة في السن القانوني للتقاعد يُرفّع في سن التقاعد آليا إلى 65 سنة ، مشيرا إلى أن الاتحاد أعلم رئاسة الحكومة ووزارة الشؤون الاجتماعية بموقفه وبأن التمديد الاختياري في سن التقاعد لن يكون الحل ولن يلقى إقبالا في صيغته الحالية، معتبرا أن رئاسة الحكومة تؤكّد بمُقترحها هذا “سطوها على اللجنة الفرعية للحماية الاجتماعية وضربها في العمق للعقد الاجتماعي”.
تداعيات هذا القانون في حال تمريره
وبالنظر إلى تركيبة مجلس نواب الشعب الحالي، والتوافق المُسجّل بين أكبر كتلتين، كتلة نداء تونس وكتلة حركة النهضة، لن يُواجه هذا القانون صعوبة تُذكر لتمريره واعتماده. ورغم انعكاساته الإيجابية على الصناديق موضوع الجدل، وفق الدراسات التي أعلنتها وزارة الشؤون الإجتماعية التونسية، ستكون له انعكاسات سلبية خاصة على شريحة الشباب المُعطّل عن العمل من أصحاب الشّهائد العُليا، الذي ينتظر من الدّولة توظيفه، وهي التي تُعاني من فائض في عدد المُوظّفين مُقارنة بحاجياتها.
فوفق ما إحصائيات المعهد التونسي للإحصاء، بلغت نسبة البطالة في البلاد خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية 15 بالمائة في، ويقدر عدد العاطلين عن العمل ب 601,4 ألف شخص إلى موفى مارس 2015 ، من بينهم 222,9 ألفا حاملين لشهادات التعليم الجامعي وتقدر بذلك البطالة لدى هاته الشريحة بنسبة 30 بالمائة.وحين ينضاف لهؤلاء ما يُقارب من 80 ألف مُتخرج سنويا من الجامعة التونسية، مع الإجراء المُنتظر اتّخاذه بتمديد سنوات الشغل للموظفين الحاليين، لا يصعُب توقّع ارتفاع نسب البطالة لدى فئة الشباب وهو ما من شأنه أن يُعرّض البلاد لهزات اجتماعية أخرى.