زاد مؤخرًا الحديث عن انتهاكات السجون التي أودت بحياة أكثر من 300 شخص منذ انقلاب الثالث من يوليو وحتى وقت قريب، بحسب منظمات حقوقية، وحاز سجن العقرب على أضواء خاصة بعد نشر تفاصيل مروعة لمعاملة المعتقلين بداخله، وظل هناك سجالًا بين المعتقلين الذين تقدموا بمئات الشكاوى والبلاغات عن الانتهاكات الممارسة بحقهم من خلال أسرهم ومحاميهم، وبين الدولة عامةً وإدارات السجون المختلفة التي تجاهلت أو أنكرت صحة تلك الشكاوى من الأساس، وظل هذا السجال حتى تفاجأ الجميع بزيارة من المجلس القومي لحقوق الإنسان لهذا السجن بالتحديد والذي يعتبر أشد السجون تنكيلًا، وذلك صباح الأربعاء 26 أغسطس 2015، ليخرج المجلس برواية مؤكدة ومجملة لروايات الدولة الكاذبة.
المجلس المدعوم ماديًا من الدولة والداعم لها في كثيرٍ من الأحيان بإصدار تقارير منقوصة لا تنقل الواقع بأي شكل من أشكال الحيادية فقط للوقوف في صف الدولة، أكد أن زيارته لسجن العقرب كانت مفاجئة بالنسبة لوزارة الداخلية، حيث قال ضابط المخابرات السابق ورئيس المجلس حاليًا محمد فائق، إن البعثة التي انتدبها المجلس كانت فى طريقها لزيارة سجن أبو زعبل وقررت تغيير وجهتها إلى سجن العقرب بعد وصول الموافقة الأمنية، وإن هذا الأمر لم تعترض عليه وزارة الداخلية قط، وبالتأكيد لم يلق الأمر اعتراضًا لأن السجن قد تأهب وتأنق لزيارة وفد حقوقي.
وبعد تلك الزيارة قال المسؤول عن الملف الأفريقي بالحقبة الناصرية، والرئيس الحالي للمجلس القومي إنه من خلال جولات المجلس في السجون، تأكد عدم وجود سياسات للتعذيب المنهجي في السجون، وإن هذا لا يمنع وجود تصرفات شخصية من بعض المنتمين للداخلية، مبررًا ذلك بأن كلنا بشر وكلنا نخطئ، وهذا التصريح يُدلل بشكلٍ أو بآخر على تستر المجلس على ممارسات الداخلية بل وتبريرها، ويؤكد أيضًا نظرية “الاستعداد للاستقبال” التي اتخذتها سجون مصر شعارًا لها مؤخرًا ومن ضمنها سجن طرة شديد الحراسة “ب”، (سجن 992)، المعروف بـ”العقرب”.
الحقوقي محمد عبدالقدوس وأحد من ترأسوا تلك الزيارة أكد أن المجلس القومي لحقوق الإنسان طالب مرات عديدة بزيارة سجن العقرب لكن مُنعت الزيارة لأسباب أمنية بسبب رفض وزارة الداخلية المتكرر، وأكد أن السجن بدا عليه الاستعداد والتزين للتفتيش وزيارة المسؤولين والوفود الحقوقية، بعد تفاجئه هو والوفد المكون من 6 أشخاص بتغيير وجهة الزيارة، فتحدث في بيان نشره بعد تلك الزيارة أن مطبخ السجن كان يحوي الكثير من أصناف الطعام الفاخر الذي لا يعقل أن يكون إلا في الفنادق الكبرى وليس السجون، فالرجل اعتقل سابقًا لأسباب سياسية وأكد أنه على دراية كاملة بمثل تلك الاستعدادات، وكان عبدالقدوس قد اعتذر عن حضور المؤتمر الصحفي الذي دعا إليه المجلس القومي لحقوق الإنسان لتقديم التقرير الخاص بزيارة سجن العقرب، مؤكدًا أن له وجهة نظر مغايرة لما عرضه تقرير المجلس.
المجلس القومي ومشادات داخلية
بعد يومين من الزيارة المعدة سلفًا، خرج المجلس القومي بتقرير معيوب ضعيف، يمكن أن نقول إنه برر الانتهاكات التي مورست بحق المعتقلين، أو ربما حسّن وجهًا قبيحًا لإدارة السجن سيء السمعة، وكذّب أيضًا كل روايات أسر المعتقلين الموجودين بالسجن والمنظمات الحقوقية المستقلة عن سوء الأوضاع بداخله، وخرج أيضًا عليه العديد من الردود من أحد أعضاء الوفد، وآخر من عضو بالمجلس، وثالث من رابطة أسر معتقلي سجن العقرب ليثبتوا جميعًا عدم صحة ما ورد بالتقرير.
حيث قال ناصر أمين مدير مكتب الشكاوى بالمجلس القومي لحقوق الإنسان في تدوينة له على موقع تويتر إن سجن العقرب سجن حقير منذ نشأته حتى هذه اللحظة، وأردف القول أن أماكن الاحتجاز غير إنسانية إذ يعامل فيها السجناء معاملة لا تحفظ عليهم كرامتهم أو إنسانيتهم، وهم ما لم يثبته تقرير المجلس الذي يعمل به الرجل ذاته.
سجن العقرب سجن حقير منذ نشاءته حتى هذة اللحظة واماكن الاحتجاز غير انسانية .والسجناء يعاملون معاملة لاتحفظ عليهم كرامتهم او انسانيتهم.
— NasserAmin (@NasserAmi) August 29, 2015
فيما خرج الحقوقي محمد عبدالقدوس عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان ببيان أدان فيه تقرير المجلس، وفند عدد من النقاط المتعلقة بالزيارة وأردف خلالها تعقيبه عليها، وشملت تلك النقاط رده على التقارير الطبية للمعتقلين التي أظهرت وضعًا مغايرًا لواقع تسبب في موت عدد من معتقلي السجن بينهم البرلماني السابق فريد إسماعيل، والقيادي بالجماعة الإسلامية عصام دربالة، وتعجب الرجل من إبلاغ الوفد الحقوقي بإجراء السجن للقيادي بجماعة الإخوان المسلمين خيرت الشاطر أشعة كلفت 35 ألف جنيه وهو رقم غير معقول بالمرة، ولفت النظر إلى كذب إدارة السجن في نفيها إغلاق “الكانتين” بقولها إن أحد السجناء سحب أشياء كلفت نحو 7 آلاف جنيه، مؤكدًا أن الرقم مبالغ فيه أن يصرفه معتقل بمفرده.
وفيما يتعلق بالزيارات أكد أن تقارير الزيارات تم التلاعب بها بشكل واضح، فالزيارات منعت طوال الأشهر الماضية خاصة بعد حادث اغتيال النائب العام، وأعيدت قبل أيام لكن لا تتجاوز دقائق معدومة خلف ساتر زجاجي يمنع خلالها زيارة الأطفال أو إدخال الأطعمة، وأوضح أن الأسر كانت تخرج تصاريح الزيارة ويتم إثباتها في دفاتر السجن وبعد ذلك يتم منع العائلة من الزيارة المثبتة في الأوراق الرسمية وكأنها تمت، وأوضح أن المحاكمات الظالمة وفبركة الاتهامات وإجراءات التقاضي المعيوبة هي مصيبة أعظم من معاملة السجون، مستشهدًا بحديث القيادي بجماعة الإخوان المسلمين أحمد أبو بركة المحكوم عليه في قضية غرفة عمليات رابعة للوفد الحقوقي، كما أبدى عبدالقدوس اندهاشه من عبارة مدير مصلحة السجون التي قالها بحضور الوفد: “عندما يشكو هؤلاء السجناء فهذا معناه أنني ناجح في عملي”.
بين تلميع المجلس القومي وشهادات أسر المعتقلين
رابطة أسر معتقلي سجن العقرب من جهتها أصدرت هي الأخرى تقرير يرد ويُكذب تقرير المجلس فيما عرضه، فالمجلس تحدث أن زيارته التي شملت جناح H2 دونًا عن باقي عنابر السجن الثلاثة جاءت بعد وصوله شكاوى من ستة معتقلين بالسجن، لكن الأسر أكدت أن المجلس وصله شكاوى من جميع المعتقلين، كان آخرها شكوى جماعية برقم (3595) بتاريخ 6 يوليو2015، ووقع عليها حينئذ قرابة السبعين من أهالي معتقلي العقرب، مؤكدةً أن السجن ليس لقادة جماعة الإخوان المسلمين فقط كما يدعي المجلس، إذ إن سجن العقرب ينقسم الى أربعة عنابر (H1, H2, H3, H4)، كل منها مقسم لأربعة أجنحة، بإجمالي 320 زنزانة، بمتوسط 3 أفراد لكل زنزانة باستثناء عنابره ذات الزنازين الانفرادية، بإجمالي يقارب الألف معتقل من كافة التيارات والانتماءات، وحتى غير المنتمين أيدولويجيًا لأي فئة أو فريق سياسي.
وعن الزيارة أكدت أسر المعتقلين حديث عبدالقدوس مطالبين الاستعانة بكاميرات السجن لإثبات عدم دخولهم رغم إثبات تصاريحهم في دفاتر السجن، وكان السجن يستعين بقوات فض الشغب لترهيب الأهالي وإجبارهم على المغادرة بعد استلام التصاريح منهم، كما أوضحت الأسر أن الزيارة منعت بداية من مارس 2015، واستمرت لمايو، ثم فُتحت الزيارات لقرابة الثلاثة أسابيع، لتغلق مرة أخرى مع يونيو حتى بدايات أغسطس ليسمح للأسرة بزيارة مدتها دقائق كل ثلاثة أسابيع، وأكدت كذلك عدم تطرق المجلس إلى منع الزيارة العادية منذ فبراير التي استُبدلت بزيارة استثنائية بتصريح من أمن الدولة العليا كل ثلاثة أسابيع أو شهر، وأوضحت أيضًا أن معتقلي السجن المتهمين في قضايا غير مسجلة أمام نيابة أمن الدولة العليا يُرفض استخراج التصريح لهم بهذه الحجة.
وأوضحت أيضًا أن المجلس تجاهل منع إدخال المستلزمات الخاصة والأطعمة، أو شكل الزيارة من خلف حائل زجاجي، أو تجريد السجن للمعتقلين من كافة المستلزمات، وكذبوا أيضًا رواية المجلس أن الكانتين لم يغلق وأن الطعام المقدم جيد، مؤكدين أن المعتقلين والمحامين شهدوا مرات عديدة أمام النيابات بحرمانهم منها، كما أن فقدان المعتقلين لجزء كبير من وزنهم خير دليل على صحة حديثهم وكذب حديث المجلس، وأوضحت أن الطعام الفاخر الذي رآه أعضاء الوفد الحقوقي ليس ما يقدم للمعتقلين حقيقةً، مؤكدين أن لكل معتقل عينة صغيرة من طعام ردئ الصنع وبدون ملح أغلب الأحيان، كما أكدت الأسر غلو المنتجات المقدمة في الكانتين الذي كان يفتح بتذبذب حسب هوى إدارة السجن حيث تباع بأضعاف سعرها الحقيقي المتعارف عليه؛ ما يصعب على بعض المعتقلين شرائها، كما أن المواد الأساسية من الصابون والمياه والعصائر لا توفر مطلقًا بالكانتين كما يمنع على الأسر إدخالها في الزيارات.
الرعاية الصحية التي أثبت المجلس القومي توافرها بالسجن من خلال إطلاعه على ملفات 6 معتقلين فقط من أصل عشرات، كما تجاهل تقرير المجلس حالات الوفاة الخمس التي وقعت بالسجن خلال الفترة الماضية أو تفسيرها، بالإضافة إلى أن التقرير لم يوضح عدة نقاط في هذا الصدد مثلًا تقدم معتقلين بطلبات لإجراء عمليات جراحية تمنعها إدارة السجن وتمنع نقل المعتقلين المرضى للمشافي، وذكرت أسر المعتقلين مثال الشيخ محمد السيد حجازي الذى يعاني من تورم بالبطن ناتج عن فتق وتم الحصول على إذن من النيابة بإجراء عملية بدون استجابة من إدارة السجن، وكذلك فقدان المعتقلين وزنهم فعلى سبيل المثال القيادي بالإخوان خيرت الشاطر الذي فقد نحو 30 كجم من وزنه، وأيضًا الأمراض الجلدية والجرب الذي أصاب عدد من المعتقلين نتيجة منع الصابون والمستحضرات الصحية، أو منع الدواء عن المرضى منهم.
أوضحت الرابطة في تقريرها أن إدارة السجن تعمدت زيارة الوفد لعبر h2 بالتحديد لأنه يمكن القول إنه الأقل وطأة في التنكيل، حيث إن معتقلي العنبر الثالث والرابع أغلبهم يتعرض للتعذيب والصعق بالكهرباء والضرب المبرح بصفة دورية، وكذلك عنبر الإعدام أو عنابر التأديب التي يسوء الحال فيهما أكثر، وأوضحوا أن الجرائد والكتب الدراسية والكتب الثقافية وحتى أوراق القضايا الخاصة بالمعتقلين يتم منعها ومصادرتها، وليس كما أدعى المجلس في تقريره توفرها لدى المعتقلين، وقامت رابطة أسر المعتقلين بالاستعانة بشهادات بعض المحامين والأسر للحديث عن الانتهاكات التي تابعوها بأنفسهم وعن الانتهاكات التي تتم معهم أثناء الزيارات، كما زيل أهالي المعتقلين بيانهم ببعض المطالبات لتحسين مستوى السجن والزيارة.
تجميل المجلس القومي للصورة الرسمية ليست الأولى بتقرير العقرب
بالطبع، الصورة الذهنية التي حاول المجلس القومي لحقوق الإنسان ترسيخها من خلال تقريره المنقوص عن سجن العقرب بأن الدولة تقدم أفضل معاملة للمعتقلين وهم من يختلقون ما يدينها، لم تكن الأولى بهذا التقرير الرقيق للغاية عن السجن سيء السمعة، فقبل يوم كان وفد حقوقي آخر يزور ليمان ١ في سجن وادي النطرون، حيث تكررت نفس المشاهد في مقابلة الوفد لضباط السجن، وإجراء مقابلات مع عدد محدود من المعتقلين في السجن بحضور مأمور وضباط السجن، وتجاهل الأماكن التي ترد منها الشكاوى باستمرار كليمان الملحق، وعدم متابعة صحة المرضى المعتقلين أو الذين تعرضوا للتعذيب، حيث إن المجلس لا يقابلهم بالأساس فهو يقوم بزيارة أفضل السيء في كل سجن بعد تهيأته للزيارة، كما أن الوفد الحقوقي الذي تم إيقاف الزيارات خصيصًا له لم يهتم لمعرفة الصعوبات التي تواجهها أسر المعتقلين الذين ظلوا ساعات تحت أشعة الشمس منتظرين إنهاء الوفد زيارته علهم يدخلون لرؤية ذويهم.
المشهد هذا تكرر في سجون وأماكن احتجاز أخرى زارها المجلس القومي، فمثلًا تبرير الوفد الحقوقي للوضع الصعب الذي تعيشه الناشطة السياسية ماهينور المصري، في سجن دمنهور، أثناء زيارته للسجن بأن صاحبة الشكاوى المتكررة لم تكن موجودة بالسجن وقت زيارة المجلس، متوقعًا أنها ربما خرجت لجلسة محاكمة ولم يتحر الوفد حتى من صحة توقعه، وقبل أكثر من عام أيضًا خرج مجلس حقوق الإنسان القومي ببيانٍ معسول يشيد فيه بوضع سجن القناطر “النموذجي” الذي لم يُرصد فيه سلبيات بل كانت أماني المجلس أن تكون كل السجون مثله، وكأن الزيارة التي خرجوا بها من الأساس لم تكن للإطلاع على وضع المعتقلات اللاتي تعرضن للضرب المبرح والتعذيب على يد السجانات “الملائكيات” – كما وصفتها إحدى أعضاء الوفد – وذلك قبل أسبوعين فقط من الزيارة تلك، التي لم تقابَل خلالها أيًا من المعتقلات صاحبات الشكوى التي جاءت بالوفد أساسًا، وغيرها الكثير من الروايات التي حرفها المجلس وجعل البرئ مجرمًا والمجرم ملاكًا، هذا طبعًا غير الكثير من الانتهاكات والشكاوى التي غُض الطرف عنها وعن متابعتها.
لكن كل هذ الحديث غير الهام لا يجب أن ينسينا أن المجلس القومي وفي بحق ولا ينسى فضل أهل الفضل عليه، فالمجلس المتحلي بأخلاق أوفى الحيوانات لم يعب أو يتحدث بسوء عن الداعم المادي له، الذي يسمح له بممارسة عمله ويوفر له كل الإمكانات المادية التي يحتاجها ألا وهي تلك الدولة الفاضلة الملائكية التي لا تخطئ أبدًا.