مطار أمستردام شيبول، صالة وصول شديدة الازدحام، مكاتب للجوازات مكتوب عليها: “الركاب من غير سكان الاتحاد الأوروبي ومنطقة التعاون الاقتصادي الأوروبي”، يتراكم الركاب ممن وصلوا في طوابير طويلة للغاية، ربما يكون السبب في طولها تفحص الضباط في أوراق أغلب المسافرين بشكل دقيق، وربما أيضًا بسبب إجراءات مطابقة بصمات المسافر.
على اليمين من هذه المكاتب والطوابير بوابات إلكترونية؛ أشبه ما تكون ببوابات مترو الأنفاق، لا طوابير أمام البوابات هذه المرة، فقط أفراد ينهون معاملاتهم في أقل من دقيقة، بخط واضح أعلى هذه البوابات مكتوب: “سكان الاتحاد الأوروبي ومنطقة التعاون”، يستطيع المسافر أن يمر بمجرد أن يضع جوازه أمام الماسح الضوئي ويبتسم للكاميرا.
هذا المقال ليس عن إجراءات الجوازات في دول أوروبا، هذا المقال هو بالأساس مجموعة من التساؤلات فيما يخص الحق في السفر والحركة، انتقال الأفكار والثروات، فيما يخص أثمن الموارد البشرية وهي المساحة، المساحة بمعناها الإنساني كمكان للمعيشة وإمكانية للإبداع والابتكار، المساحة كمجموعة من الإمكانيات والفرص.
يزعم بعض المؤرخين أن طريق الحرير كان العامل الأكثر أهمية على الإطلاق في تطور الحضارة البشرية كما نعرفها اليوم، شريان يصل الحضارات العتيقة بداية من جنوب الصين مرورًا بالهند وبلاد فارس ونهاية بالشام والإمبراطورية البيزنطية على الحدود الشرقية لأوروبا، من الصعب جدًا محاولة حصر ما نقله طريق الحرير من معارف وتكنولوجيا على طول عمره، والمؤكد أن هذه المعارف هي بلا شك أساس كل أشكال النمو والتطور التي حققها الجنس البشري كوحدة، ويعدو الأمر مجرد انتقال أسس علم الرياضيات أو تكنولوجيا النسيج وصناعة الورق، الأهم من ذلك هو دور الطرق المكونة لطريق الحرير في ربط البشر من كافة أنحاء العالم ببعضهم البعض، بهذا الشكل كان سفر هؤلاء البشر بمثابة استكشاف مستمر للظاهرة البشرية في حد ذاتها، خبرات وقصص وحكايات انتقلت عبر الحدود؛ لتثير تطلعات البشر نحو أراض بعيدة تمطر فيها السماء بلا توقف، أو تزهر فيها الأشجار أوراقًا وردية اللون، وإذ نبع التوق إلى أماكن لم يرها الإنسان؛ بدأت الرحلة في رسم الواقع عبر كلمات وتأملات وحتى اختراعات هدفها تدوين أو تسهيل الرحلة، وفي الطريق رسمت الخرائط واللوحات لنعرف العالم كما هو اليوم.
مع بداية القرن السادس عشر بدأ ما يعرف الآن في أوروبا بعصر الاكتشاف، انطلقت سفن إسبانيا والبرتغال هادفة سواحل الأمريكتين والساحل الغربي لأفريقيا، ووصلت حتى سواحل الهند وجنوب شرق أسيا، سمي هذا الزمن بعصر الكشوفات، وفيه بدأت سلطة غرب أوروبا على باقي العالم في الترسخ، تراجعت أهمية الطرق البرية لصالح الطرق البحرية الأكثر توفيرًا للوقت والمال، بدأت المستعمرات الأوروبية في الظهور على طول سواحل العالم، سيطرت البحريات الأوروبية على حركة السفن باحتلال المضائق واحتكار التجارة، وفي هذا العصر تحديدًا أصبحت الوجهة الطبيعية لأي شاب أوروبي هي أعالي البحار.
من الممكن القول إن مساحة الأرض بعد هذه الأرض أصبحت تحت تصرف جماعة من الناس دون غيرهم، هذه الجماعة هي جمع من المستعمرين وحكوماتهم لهم القدرة على التحكم في الوصول إلى مساحات دون غيرها، طرق ملاحية تحكمها السفن العسكرية، سكك حديدية يبنيها المستعمر ويديرها، وبعد ذلك مطارات ذات صالات وصول وشرطة جوازات.
أصبحت المساحة بكل ما تحمله من ممكنات وموارد حكرًا لمن يستطيع الوصول إليها دون قيود، وبدأت الثروات في التحرك عكس اتجاه حركة البشر، يصل الخبراء الأوروبيون إلى مواقع الثروات في أفريقيا وأسيا، وتبدأ الثروات في التدفق من هناك إلى قلب أوروبا، وترتب على ذلك أن ارتفعت مستويات المعيشة في دول مثل الولايات المتحدة وأوروبا الغربية إلى مستويات لم يكن يمكن تخيلها فيما سبق.
إذن، لا بد أن بقاء الوضع بهذا الشكل مع تقييد حركة سكان المستعمرات الأصليين يصب في مصلحة البلاد الغربية، إذ تعمل مصانعها مستخدمة خامات المستعمرات، وتبقى المستعمرات (السابقة غالبًا بحلول القرن الحادي والعشرين) أسواقًا واعدة لمنتجات هذه المصانع، وفي حالة كانت هناك وفرة في الأيدي العاملة داخل القارة العجوز؛ فمن الممكن دائمًا إرسالهم كخبراء أجانب إلى المستعمرات السابقة، ويسمح النقد الناتج من هذا النشاط الاقتصادي ببناء مدن جميلة وإنشاء أنظمة تكافل اجتماعي وتعليم جيدة للغاية يشير إليها العالم أجمع.
لكن السؤال الواقعي هنا، ماذا إذا طمح سكان المستعمرات السابقة إلى مشاركة هذه المعيشة الرغدة، ماذا لو أراد شاب سوري أن يرتدي حذاء ماركة أديداس، أو أراد شاب أفغاني أن يقضي وقت فراغه في مكتبة أو مركز تسوق؟ دع جانبًا الهرب من ويلات الحروب أو التمييز العنصري أو القهر السياسي.
في الغالب يتم الرد على مثل هذه الأحلام في صورتين:
1- الخطر الذي يمثله هؤلاء على سوق العمل والحالة الاقتصادية، أو المقولة الشهيرة أن المهاجرون يسرقون فرص عمل أهل البلد، أو أنهم عالة على التكافل الاجتماعي للبلد.
2- الهجرة المستمرة تمثل خطر على الهوية الأوروبية والثقافة الغربية.
وعليه يتم الإشارة وبشكل يومي للاجئين الهاربين من فظائع الحروب والقمع السياسي على أنهم “مهاجرون”.
ينص الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على حق الشخص في مغادرة موطنه والعودة إليه، وفي حالة وطن تأكله الحرب كسوريا، لا يحق واقعيًا لمواطن سوري مغادرة موطنه دون تأشيرة؛ وغالبًا لا يحق له العودة لأن بيته سيكون قد دمر.
في مقال لها في الجارديان، تتساءل الكاتبة النيجيرية شيبوندو أونوزو “ما المخيف في أن المهاجرين يريدون نفس ما يريده الأوروبيون” قاصدة المعيشة الكريمة والنجاح الاقتصادي والمهني، إلا أنني أتساءل “ما المخيف في أن اللاجئين يريدون نفس ما ننعم به جميعًا: الحق في الحياة”.
لنفترض أنهم مهاجرون، بالرغم من أن التخاذل الغربي المبهر في غوث اللاجئين هو في حد ذاته فضيحة إنسانية، لنفترض أنهم مهاجرون، إذن يتطلب الاعتراف بالوضع على ما هو عليه من تقييد لحركة البشر في الأرض، الاعتراف أيضًا أنه نتاج الحقبة الاستعمارية بكل ما تحمله من بشاعات وظلم مركب، عند وضع قيم الحرية والعدالة التي يفاخر بها النظام السياسي الدولي الحالي قبالة واقع يسمح فيه بدخول المواطن الأمريكي أو البريطاني إلى 174 دولة دون الحاجة إلى تأشيرة بينما لا يسمح للمواطن السوري بدخول أي بلد دون تأشيرة.
يمتلئ الإنترنت بقصص عن أفراد تركوا حياتهم العملية وقرروا السفر حول العالم لاستكشافه أو استكشاف ذواتهم، وغالبًا ما يتم التعامل مع هذه القصص بشكل من المسيحانية المفرطة التي تشير إلى شجاعة هؤلاء الأفراد وانطلاقهم إلى المجهول، إلا أن الغريب في الأمر هو كون هؤلاء الأفراد دائمًا من حملة جوازات السفر التي لا تتطلب الكثير من التأشيرات في رحلة حول العالم، لا أقلل للحظة من أهمية مثل هذه الرحلات، ليس هناك أفضل من التفاعل الإنساني الناتج عنها ومعرفة الإنسان بذاته وبالعالم من حوله، إلا أنه لا يمكن رؤية إلا حالة انعدام العدالة الأصيلة في حقيقة الحدود المغلقة في وجه ملايين البشر دونًا عن غيرهم حول العالم.