قال دبشليم الملك لبيدبا الفيلسوف : اضرب لنا مثلا لملك عظُم مُلكه وتوسّع سُلطانه، في قصره كنوز عديدة ولا تقوى غُرفه على تخزين دراهمه، ملك ضعيف البصر لا يرى ما يجب أن يُرى، ومتى استنصره الضّعفاء جفل وانبرى غافلا عن لحظة يُوارى فيها الثّرى.
قال بيدبا : إذا ابتُلي الناس بقصير نظر عمت أبصارهم وكلّوا وملّوا، فلم يلبثوا في انتظار حتى يُصبح بالنسبة لهم انتظار الموت أو سعيهم إليه سيّان. ومن أمثال ذلك أنه كان بقرية “إبلا” شعب ابتلاه الله بملك أوتي من حُب المُلك ما أفقده عقله وما نزع عنه سجيّة الآدميين، ورث حكمه عن أبيه غصبا بلا شورة ولا مشورة، ومكّن لبنو عشيرته في الأرض فعاثوا فيها فسادا، فاغتصبوا الحقوق وظلموا الناس، وظلّوا على حالهم هذا ردها من الزّمن.
وفي يوم من الأيام، اتّفق النّاس على رفع الصّوت قليلا في المُدُن والقرى، فقصير البصر والبصيرة قد لا يرى لكنّه يسمع، فهو من جعل من للجدران آذان صاغية، وخرجوا يجوبون السّهول والرّوابي عُزّلا سوى من حناجرهم، يطلبون القسط وأساس العمران، يهتفون والقلوب ترتجف قبل الأوصال، وكل المنى أن يبلُغ للملك صدى الطّوفان.
تسابق العسس والحرس لإعلام قصير النّظر بالمُستجدّ في مملكته، وبات ليلته تلك مُتقلّبا على فراشه الوثير يُبارز النّوم علّه يُكحّل أجفانه لكن لا مُجيب. ومع صياح أنشط الدّيكة مُعلنا انبلاج الفجر، أصدر فرمانا يقضي بفرم كل من تُسوّل له نفسه الإحتجاج على الأوضاع، مُطالبا عسسه وحرسه بحرق أشجار المُدُن التي انتفضت، علّها تكون عبرة لباقي الأمصار.
وما هي إلا سُويعات حتّى تلوّنات السماء بلون الدّخان، وانقلب كلّ أخضر يانع إلى رُكام مُتفحّم، ووجدت العصافير البريئة نفسها بلا وطن ولا سكن، فقرّر كبير العصافير، ويُدعى مُهاجر، أن يعقد اجتماعا لتحديد المصير. وبعد التّداول انتهى النّقاش إلى خيارين اثنين لا ثالث لهما : إما السفر شمالا نحو بلاد الإفرنج مرورا بدولة اليونان، أو الإنعطاف جنوبا نحو الحجاز بلد أبناء العم.
ولأن ذوي القربى أولى بطلب المعروف وهو الذي بلغ كرمه حد إيواء خنزير إفريقية، قرّرالمجلس المُجتمع إرسال رسول لملك الحجاز، استنصارا وطلبا للجوء، وبعد مُضي أيام عاد المرسول راسما الخيبة على مُحيّاه، قائلا بأنه لم يُسمح له بملاقاة صاحب الحل والعقد، وبأنّ الرّسالة كانت الرّفض والإهمال.
ورغم خطورة السّفر نحو الشمال وطول الرّحلة، انتهى الجمع لتقرير شدّ الرّحال نحو بلاد الإفرنج وإن كان أمل النجاح في بلوغها ضئيلا، فترقّب الموت أشد ألما من المُضي نحوه. وفي طريق الهجرة، قضى من قضى غرقا في البحر، وقضى آخرون من تأثير البرد، وحتى من وصل لبلاد اليونان ظل عالقا أمام أسوار المدينة مُنتظر السماح له بالدّخول، وفي النّهاية أوت بعض مدن الإفرنج من بقي على قيد الحياة، ولازال إلى يوم النّاس هذا البعض منتظرا.
مع كلّ الإعتذار الذي يجب أن يُقدّم لابن المُقفّع على مُحاولة الإستيلاء على نمطه ومدرسته في القص، كان أهون على كاتب هذه الأسطر أن ينسب فعل الناس اليوم للعصافير علّه يُصدّق، فهل يقدر عقل سليم على تصديق أن سوريين أنهكتهم الحرب ركبوا بحر الموت نحو اليونان ثم مقدونيا فأوروبا الغربية لمن استطاع إليها سبيلا، والحال أنه بالنظر جنوبا يقبع أحد أعتى المُجرمين الذين عرفتهم البشرية مُعزّزا مُكرّما في مملكة ترعى بيت الله الحرام، ولم يُؤرق مضجع أصحاب السلطان فيها صور تلك الأشلاء التي كلّت منها حيتان البحر؟
لمّا ثار الشّعب التونسي على نظام بن علي وبلغ الحراك الشعبي نقطة اللاعودة، ركب الأخيرة طائرة بلا وجهة، توسّل لفرنسا ورئيسها فلُفظ، مرّ بإيطاليا فلم يجد ردّا أفضل وانتهى به الأمر في المملكة السعودية وكان رد السلطات وقتها على المُعاتبين أنها ليست ممن يرد السّائلين.
أشهر بعد، صار ماصار في سوريا، ورغم دعمها له بالقرار السياسي المنقوص وحتى بالسّلاح كما تفيد بعض التقارير، لنا أن نتسائل إلى أي حد كانت مضيافة مع المتشرّدين السوريين، وكم من مخيم نصبت لهم؟ ما الذي يدفع الآلاف لركوب بحر الموت؟ أليس الإهمال وانعدام؟
ﻛﻤﺎ استقبل ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﻮﻥ ﻣُﺠﺒَﺮﻳﻦ الرّصاص والبراميل المُتفجّرة،استقبلوا ضرورة ركوب قوارب الموت وأمواج البحر الباردة المالحة التيلا تُفرّق بين شاب وكهل أو امرأة وطفل، والنتيجة إما طُعم للأسماء أو محبوس في سجون الدول التي وصلوا إليها إلى حين ترحيلهم مرة أخرى.
ﻻ ﺗﻤﻠﻚ ﺃﻳﺔ ﺟﻬﺔ ﺭﻗﻤﺎً ﺩﻗﻴﻘﺎً ﻷﻋﺪﺍﺩ ﺍﻟﺴﻮﺭﻳﻴﻦ ﺍﻟﺬﻳﻦ ﻫﺎﺟﺮﻭﺍ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ ﻏﻴر ﺷﺮﻋﻴﺔ ﻋﺒﺮ ﺍﻟﺒﺤﺎﺭ ﺳﻮﺍﺀ ﻧﺠﺤﻮﺍ ﺃﻭ ﻓﺸﻠﻮﺍ ﺃﻭ ﻗُﺘﻠﻮﺍ، فسريتها تتعارض مع دقة الأرقام رغم أن راكبي الهجرة اليوم من السوريين باتوا مُجرّد أرقام في عصر ماتت فيها النخوة في قلوب أصحاب الحل والعقد، وبينما يكتفي البعض بإيواء من قتّل وشرّد، تُصارع بعض الشعوب الأخرى من أجل فرض إيواء المُهاجرين الغير شرعيين على حكوماتهم، لسان حالهم يقول، دعكم من أراضي إسلام لا إسلام فيها، فبيننا قد تجدون سلاما وإسلاما بلا مسلمين.