داريا مدينة سورية في غوطة العاصمة دمشق الغربية محاصرة من قبل قوات النظام السوري، بعد أن كانت إحدى الشرارات التي أطلقت الثورة السورية في العام 2011، بتجمع عدد كبير من المتظاهرين الرافضين لنظام بشار الأسد بها، وهو ما جعل النظام الأسدي يستبيح المدينة ردًا على هذه المعارضة.
حينما بدأت العمليات العسكرية للمعارضة السورية ردًا على عنف النظام في مواجهة تظاهراتهم، كانت مدينة داريا إحدى معاقل الثوار المسلحين، الأمر الذي جعل المدينة هدفًا في مرمى البراميل المتفجرة والموت اليومي على يد الجيش النظامي السوري الذي أطلق قناصته على المدينة، ولم يكتفي بهذه فحسب بل قام الطيران الحربي التابع للأسد بقصف مدينة داريا بقنابل النابلم الحارقة، مما تسببب في إشعال حرائق مختلفة في مناطق بالمدينة، رغم أن النابلم الحارق يعد من الأسلحة المحرمة دوليًا.
ترافق القصف بقنابل النابلم على المدينة مع قصف مكثف من قبل طيران النظام بمختلف الأسلحة المتوسطة والثقيلة، حيث تم توثيق في أول أغسطس سقوط قرابة 30 اسطوانة تحمل مادة النابالم الحارقة، و22 برميل متفجر، و8 صواريخ أرض-أرض، و40 إسطوانة متفجرة وقذائف مدفعية.
إلى أن وصل الأمر إلى عدم تمكن كوادر الدفاع المدني من إطفاء بعض الحرائق في المدينة، نتيجة لاتساع نطاقها نتيجة القصف بالنابلم، مع ضعف إمكانيات هذه الطواقم بالمقارنة بشدة هذه الحرائق الناتجة عن قنابل النابلم الحارقة.
هذه المشاهد قد تعطيك تصورًا عن حجم الدمار الذي لحق بالمدينة المحاصرة لقرابة أربع سنوات تحت وطأة القصف القاتل، ولكن رغم كل هذا الركام الإنساني الحادث تخرج مشاهد من هذه المدينة تعلن عن ملاحم صمود لأبناء داريا الذين صمموا على مواصلة الحياة رغم أنف النظام الأسدي، بل سعوا إلى بث الأمل في نفوس من تبقى من سكان المدينة عبر إنشاء المراكز التعليمية والتثقيفية التي تعمل على نغمات زخات الرصاص والقذائف المتطايرة.
“مدينة الأولياء” كما يُطلق عليها سكانها البالغ عددهم نحو عشرة آلاف مواطن، رغم ارتفاع وتيرة القصف آثرت الاستمرار في جمع محاصيل العنب معتمدين على مواردهم الداخلية في عملية انقاذ أنفسهم كبديل عن المعونات الإنسانية التي يمنعها النظام عنهم بحصاره، فبحسب سكان المدينة فإنهم يستغلون مواردهم الذاتية أجدى من انتظار ممرات إنسانية قد لا تفتح.
تكيف أهل المدينة مع واقعها المحاصر، وظهرت طاقات إبداعية لدى شبابها الذين قرروا الاستفادة من كل شئ داخل مدينتهم، فالركام يمكن استخدامه لبناء التحصينات والمواد المشتعلة لتكرير الوقود، والأعشاب يمكن تُستخدم في العلاج، كما يمكن استخدام بعضها لصنع أدوية لمكافحة اليرقان.
هذا على الصعيد المعيشي، أما على الصعيد الثقافي لأبناء المدينة، فلم يمنعهم الحصار والقصف من استخدام حقهم في التعلم والتثقف، مما أنتج إطلاق عدد من شباب المدينة حركة باسم “فجر الأمة الإسلامية” التي تُشرف على عدة مشاريع ثقافية تنموية في المدينة، مثل إنشاء مراكز تعليمية تستهدف الطلاب المنقطعين عن الدراسة، ودورات لغوية وثقافية وشرعية لأبناء داريا.
مكتبة من تحت الأنقاض
انتبهت الحركة إلى أن ثمة كتب كثيرة ومتنوعة تعود ملكيتها إلى أهالي داريا الذين اضطروا لترك بيوتهم ونزحوا إلى مناطق مختلفة بسبب اشتداد القصف على المدينة، فقررت الحركة إطلاق مبادرة لجمع هذه الكتب التي اعتبروها ثروة مملوكة لأهالي داريا.
انطلقت بعد ذلك المجموعات الشبابية لجمع الكتب الموجودة تحت ركام البيوت المهدمة في المدينة جراء القصف، رغم أن عملية التعامل البدائية مع الركام تهدد حياتهم، وعلى صعيد آخر تمكنت مجموعة أخرى من التواصل مع أهالي المنازل المهجورة لجمع الكتب منها خشية تعرضها للقصف، وقد تم حفظ حق كل صاحب منزل في كتبه حتى يتمكن من استرجاعها عند عودته.
ومن خلال عمليات الجمع تولدت فكرة إنشاء مكتبة لأهالي المدينة، تم تجهيز مكان مخصص لجمع الكتب في أرفف مع فهرستها من قبل متخصصين في الشأن المكتبي، بالإضافة إلى قسم خاص بترميم الكتب المستخرجة من تحت الأنقاض، هذا الأمر جعل المكتبة مؤهلة لاستقبال زوراها من شباب المدينة الذين وضعت لهم الحركة نظامًا مخصصًا لاستعارة الكتب بعد وضع مشرف على المكتبة لمساعدة روادها.
أحد عشر ألف كتاب هي حصيلة هذه المبادرة، متنوعة في شتى المجالات موجودة في خدمة أهالي داريا على مدار اليوم، الذين يتناوبون على المكتبة إما للجلوس بها بغرض القراءة، أو لاستعارة الكتب من أمين المكتبة، إلى أن مثلت المكتبة بارقة أمل في وسط كل هذا الدمار بإيمان شباب داريا أن مواجهة النظام لن تأتي فقط عبر التصدي له عسكريًا ولكن ثمة جانب الوعي يجب طرق أبوابه في هذه المعركة مع النظام.
وينظر أهل المدينة إلى هذه المبادرات الشبابية الناجحة على أنها الأمل الوحيد للنهوض بسوريا المستقبل بعد حلول خراب الحرب عليها، حيث فتحت هذه المشاريع مجالًا لمحاربة الجهل وتوعية الكثير من الشباب وتقديم أكبر قدرمن الثقافة لهم والأدوات المعرفية التي تنمي قدراتهم الشخصية بأبسط الإمكانيات، مما يجعلنا أمام نموذج فريد من الإرادة السورية التي قررت أن تحيا أمام نظام أراد لها الموت.