تعتز لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية، المعروفة بـ”أيباك”، بكونها جماعة الضغط الأشهر والأكثر تأثيرًا في الولايات المتحدة، وكيف لا واجتماعها السنوي في واشنطن هو الحدث الذي يحضره أكبر عدد من أعضاء الكونجرس الأمريكي، إذا استثنينا بالطبع جلسات الكونجرس نفسه والخطابات الرئاسية، والذي يمكن الحصول فيه على دعم العشرات بجرة قلم لصالح أي قضية بسهولة، كما يقول أحد مسؤولي أيباك السابقين ستفين روزِن، والذي تفاخر ذات يوم بأنه يمكن حتى أن يخرج منديلًا في اجتماع أيباك ويحصل فيه على توقيع من يريد لصالح مشروع بعينه.
بأكثر من مائة ألف عضو وشبكة من 17 مكتبًا إقليميًا، تتربع أيباك على عرش جماعات الضغط اليهودية في واشنطن، وهي تملك المئات من المتبرعين ومليارات الدولارات بشكل لا يمكن معه بسهولة تتبع شبكاتها المالية، بيد أن تأثيرها واضح جدًا كما يقر كل من له صلة بالكونجرس، لا سيما في الانتخابات والاهتمام بقضايا بعينها، وأبرز دليل على ذلك هو ما حدث عام 2011، حين أعلنت السلطة الفلسطينية أنها ستتجه للأمم المتحدة لإعلان دولة فلسطين، فقامت أيباك بـ”إقناع” 446 عضوًا من الكونجرس بتبني مشروع قانون معارض لتلك الخطوة.
أسطورة هي أيباك إذن، ولكنها تواجه الكثير من الصعوبات مؤخرًا نتيجة تحولات القرن الجديد، والمخاض الذي سيؤدي لإعادة تعريف القوة الأمريكية باعتبارها قوة مرتكزة للمحيط الهادي أكثر من الأطلنطي، وأكثر اعتمادًا على ثرواتها النفطية وبالتالي أكثر استقلالًا عن معمعة الشرق الأوسط، كما أن البلاد تشهد تحولات على المستوى السياسي داخل الحزبين الديمقراطي والجمهوري، وعلى مستوى الشباب اليهودي نفسه المتجه أكثر نحو الأفكار الليبرالية، في مقابل اتجاه إسرائيل والرأي العام فيها نحو اليمين المتطرف.
تاريخ أيباك بين واشنطن وتل أبيب
لطالما كانت أيباك جماعة ضغط غير حزبية ومحايدة بين القطبين الجمهوري والديمقراطي، بل وكانت أصولها في الحقيقة حتى السبعينيات تميل للديمقراطيين باعتبار أغلب يهود الولايات المتحدة من أنصار الحزب الديمقراطي، وهي ربما اتجاهات حملوها معهم من أوروبا حيث مال اليسار دومًا لحقوق اليهود الذين قمعهم اليمين الفاشي حتى الحرب العالمية الثانية، بل ولا تزال بعض حركات أوروبا اليمينية معادية لليهود، بيد أن الساحة السياسية في الولايات المتحدة كانت مختلفة بالطبع، واتسمت بشبه إجماع على ضرورة حماية إسرائيل ككيان يحل أزمتهم الديمغرافية في أوروبا، حتى قبل أن يتبلور تحالف استراتيجي بين البلدين في الستينيات.
تباعًا، ورُغم ميولها الديمقراطية، تبلورت مواقف أيباك مع الوقت لتتسم بالحياد السياسي لتوسيع مكاسبها، بغض النظر عن الأغلبية الموجودة في الكونجرس أو الحزب الذي ينتمي له الرئيس، وهو ما أتاح لها مع الوقت أن تبني شبكة من الحلفاء والمقربين بين ساسة أمريكا يتجاوز أي نطاق حزبي أو ديني، بل إن صعود المسيحية الصهيونية بعد حادثة الحادي عشر من سبتمبر ورئاسة جورج بوش الابن قد عزز أيضًا من روابطها بين الجمهوريين بشكل لا يقل عن نظرائهم في الحزب الديمقراطي.
بدأ التغيّر يطال تلك المعادلة مع ظهور حزب الليكود على الساحة الإسرائيلية، وبالأخص مع صعود بينامين نتنياهو كرئيس للوزراء عام 1996، ورُغم أنه كان مقربًا من أيباك خلال فترة عمله بالسفارة الإسرائيلية بواشنطن في الثمانينيات، إلا أن وزارة الخارجية الأمريكية اعترضت على وجوده حين صرّح بأن السياسة الأمريكية مبنية على الكذب، وهي كلمات لا يبدو أنها كانت زلة لسان، إذ أن بيل كلينتون أثناء سنوات رئاسته في البيت الأبيض تعجّب كثيرًا بعد لقائه بنتنياهو كرئيس للوزراء، ووجد فيه شخصًا غير قابل للتفاوض وغير راغب في السلام ومبالغ في ثقته بنفسه، بل وقال لأحد أصدقائه في إسرائيل أنه خرج من اجتماعه مع نتنياهو غير متأكد “مَن منهما بالضبط هو زعيم القوة الأكبر في العالم.”
تكررت نفس المتاعب مع أوباما في فترته الرئاسية الأولى، بيد أن حضور أيباك ساعد على الفصل بين التوتر السياسي واستمرار الدعم العسكري والاستراتيجي الأمريكي لتل أبيب، حتى أعلن نتنياهو صراحة في انتخابات 2012 أنه يفضل فوز ميت رومني على أوباما، ثم تبع ذلك في مارس الماضي نجاح السفارة الإسرائيلية، دون علم البيت الأبيض، وبالتنسيق مع الحزب الجمهوري، ترتيب زيارة لنتنياهو إلى واشنطن تتضمن إلقاء خطاب بالكونجرس، وهو خطاب قاطعه أوباما في تجلٍ واضح للهوة المتزايدة بين الطرفين، والتي لم تعد أيباك قادرة على احتوائها دون أن تخسر أحدهما.
زاد الطين بلة ما جرى بالطبع بعد الاتفاق النووي مع إيران، والذي تحاول الآن إسرائيل عبر حلفائها الالتفاف عليه بتمرير مشاريع قوانين تشدد العقوبات على إيران رُغم مخالفة ذلك صراحة للإرادة السياسية في البيت الأبيض، وهو تحدٍ غير مسبوق في الحقيقة على مستوى السياسة الدولية التي طالما التزم أيباك فيها باحترام إرادة الرئيس الأمريكي، وهو ما وضع أيباك في صورة الجماعة المعارضة للديمقراطيين الذين اصطف معظمهم خلف أوباما، “الاختلاف على موقف أمريكا من عملية السلام أو تصريح هنا أو هناك بشأن القتلي من الفلسطينيين شيء، وإعاقة السياسة الخارجية الأمريكية شيء آخر، وما يفعله (أيباك) لإفشال المفاوضات أمر صادم،” هكذا قال أحد المسؤولين بالبيت الأبيض.
القرن الجديد والتباعد الأمريكي الإسرائيلي
شباب لوبي “جيه ستريت” المعارض لأيباك
لا يقتصر الأمر بالطبع على شخص أوباما ورغبته في التوصل لاتفاق مع إيران، إذ أن ما جرى يعكس رغبة أمريكية أوسع في تخفيف وجود الولايات المتحدة في الشرق الأوسط لاعتبارات استراتيجية كثيرة، أبرزها تضاؤل أهمية النفط الخليجي بالنسبة للسوق الأمريكي في مقابل النفط والغاز اللذين يتم استخراجهما محليًا، وبروز الحركات “المتطرفة”، وأغلبها سنية، في مواجهة النظامين اللذين دشنتهما أمريكا في أفغانستان والعراق بشكل يحتم على واشنطن الانفتاح على إيران ساسيًا والتنسيق معها في ملفات عدة، وهي حسابات تخلق تباعدًا حتميًا بين واشنطن وتل أبيب، التي لا تزال إيران غريمها الرئيسي.
التباعد ليس فقط على المستوى الاستراتيجي، بل وعلى مستوى الرأي العام أيضًا، فاليهود في الولايات المتحدة وفي إسرائيل لطالما كانت المسافة بينهما ضئيلة، فالأجيال الأولى كانت تتشارك الكثير من الذكريات الأليمة قادمة من أوروبا وإلى تل أبيب أو نيويورك، بينما كان التنسيق كبيرًا بينها لضمان وجود إسرائيل كدولة وليدة في المنطقة العربية، أما الآن فإن الأجيال الجديدة من اليهود الأمريكيين، كما يلاحظ شيمون بيريز، أصبحت أقل تديًنا، وأقل تمسكًا بفكرة دعم إسرائيل، وهو ما نراه في أيباك التي تعج باليهود الأكبر سنًا، بينما تُظهِر الاستطلاعات أن 80٪ من اليهود الأمريكيين يرون أهمية وقف المستوطنات، وأن 60٪ منهم يعتقدون أن الحكومة الإسرائيلية لا تتفاوض بنية السلام مع الفلسطينيين.
نائب الرئيس الأمريكي جو بايدن في مؤتمر لـ”جيه ستريت”
على الناحية الأخرى، يبدو وأن الرأي العام في إسرائيل، والمتخوف من تنامي الحركات الإسلامية من حوله، والفوضى المنتشرة جراء الثورات العربية، وصعود النفوذ الإيراني، يميل بقوة ناحية اليمين، لا سيما وأن هناك اعتقادًا سائدًا مفاده أن الفلسطينيين ضيعوا فرصة السلام بعد انسحاب إسرائيل من غزة، وطعنوا حل الدولتين بانتخابهم لحركة حماس “الإرهابية،” وأن الحل الفعلي هو الدولة الواحدة، كما تذهب لذلك تصريحات نتنياهو حاليًا دون مواربة، وكما تشير سياسات إسرائيل على الأرض، بل إن البعض الآن يروّج للسيطرة بالكامل على الضفة.
في هذا السياق، وبعد أن كان دعم إسرائيل سياسة متجاوزة للأحزاب في الولايات المتحدة، أصبح الدعم مرتكزًا بالأساس للحزب الجمهوري صاحب العلاقات الوطيدة مع حزب الليكود، باعتبارهما ينتميان لليمين السياسي، في حين توترت تمامًا علاقات الديمقراطيين مع إسرائيل بعد هيمنة اليمين، وهو ما وضع أيباك في موقف صعب، فأغلبية اليهود لا يزالون يصوتون للديمقراطيين مما يعني أهمية الارتباط بالحزب ليكون ادعاء أيباك بأنها تمثل اليهود ادعاءً صادقًا، كما أن الاقتراب من الجمهوريين حتمي هو الآخر نظرًا لحاجة أيباك إلى دعم إسرائيل كهدف أساسي، وهي مهمة الآن شبه مستحيلة.
إعلان يدافع عن الاتفاق النووي مع إيران برعاية جيه ستريت
أيهما أولى إذن، تمثيل اليهود أم تعزيز مصالح إسرائيل؟ تبدو أيباك مؤخرًا متجهة نحو الأخيرة لأسباب كثيرة تتعلق بمصالح رجال الأعمال من أعضائها وأصحاب العلاقات الراسخة مع إسرائيل، وهو ما أدى بالطبع لتراجع أسهمها بين اليهود خاصة الشباب، وظهور حركات لوبي يهودي بديلة قريبة للديمقراطيين ومعارضة لليكود، وأبرزها جماعة جيه ستريت J Street، والتي نجحت خلال فترة قصيرة في جذب الانتباه وحشد الدعم بشكل يهدد أيباك بوضوح، إذ أن اجتماعها السنوي يعج الآن بعشرات من أعضاء الكونجرس والكثير من المنظمات اليهودية بما فيها المعادي لإسرائيل ولسياسات نتنياهو، وهي تبلور الآن خطابًا أكثر تعبيرًا عن شرائح واسعة من المجتمع اليهودي الأمريكي، وأقل ارتباطًا بإسرائيل.
ما هو مستقبل أيباك إذن؟ هي جماعة الضغط اليهودية الأبرز حتى الآن، ولكنها تواجه التآكل البطئ مع اعتمادها على كبار السن من اليهود وميلها ناحية سياسات إسرائيل التي لا تتمتع بشعبية كبيرة الآن، وهو ما يعني تآكل هيمنتها على “تمثيل المجتمع اليهودي الأمريكي” كما تدعي، والمتجه كما نرى إلى الانفصال عن المشروع الإسرائيلي، وهو ما يعني على مستوى جماعات الضغط اليهودية تفسخ القوة التي تركزت في أيباك لوقت طويل بينها وبين غيرها مثل جيه ستريت، وربما عجزها عن تمرير ما تريد بسهولة كما في السابق بالنظر لقابلية تلك الجماعات اليهودية للاختلاف والصراع مع بعضها البعض، وهو أمر سيهدد بالطبع من مصالح إسرائيل التي تعتمد على حضورها القوي في واشنطن.