من بين جميع اللقاءات الغريبة التي ولدها الصراع الفلسطيني، من المؤكد أن زعيم “حماس” خالد مشعل يعتبر أكثرها خروجا عن المألوف كانت تلك الاجتماعات الأربعة التي جمعته بطوني بلير.
فمن خلال هذه الاجتماعات أقدم مبعوث الرباعية إلى الشرق الأوسط على تجاوز القواعد التي وضعتها الرباعية ذاتها ومنعت بموجبها التحدث إلى “حماس”، طالما أنها ترفض الاعتراف بإسرائيل، وهي القواعد التي قام طوني بلير وجاك سترو بمهمة فرضها والتأكد من الالتزام بها عندما كان الأول رئيسا للوزراء وكان الثاني وزيرا لخارجيته، عبر حمل الاتحاد الأوروبي على تصنيف “حماس” كمنظمة إرهابية. ويذكر أن اثنين من الاجتماعات الأربعة (مع مشعل) انعقدت بينما كان بلير لا يزال مبعوثا للرباعية.
هنا تجد طوني بلير، ذلك الرجل الذي ارتبط ذهنيا وروحيا بالانقلاب العسكري في مصر (والذي قال إن الجيش ما تدخل إلا نزولاً عند رغبة الشعب ليعيد الديمقراطية إلى مصر)، يسعى للتوسط بين “حماس” من جهة وإسرائيل ومصر من جهة أخرى، ومعروف أن إسرائيل ومصر هما البلدان اللذان أطبقا معا على رقبة غزة لخنقها، مع التنويه إلى أن قائد الانقلاب في مصر تجاوز نتنياهو بمراحل في حماسته لإبقاء الحصار مفروضا على القطاع.
ضمن السياق البريطاني، كانت حوارات بلير مع “حماس” تجري بينما كان أنصاره يتهمون المرشح اليساري في التنافس على قيادة حزب العمال جيريمي كوربين بجعل الحزب غير قابل للفوز في الانتخابات إذا ما وقع عليه الاختيار زعيما للحزب. وذلك لأن كوربين طالب بفتح حوار مع كل من “حماس” وحزب الله – وهي الخطيئة التي ارتكبها مرارا وتكرارا الرجل الذي فاز بالسلطة ثلاث مرات متعاقبة (أي بلير).
يذكر أن بلير لم يكتف بالحديث مع مشعل، بل لقد وجه له دعوة لزيارة لندن، مقترحا عليه موعدا في شهر حزيران (يونيو) من المؤكد أن تحديده حظي بموافقة رئيس الوزراء الحالي دافيد كاميرون. وهذا هو نفس رئيس الوزراء الذي ناضل – ولكن فشل حتى الآن – في سبيل نشر تقرير يصف تواجد جماعة الإخوان المسلمين في بريطانيا بالتشدد والتطرف. إنه لأمر في غاية الغرابة.
رغم كل ذلك، فقد مضى بلير في مسعاه، وحتى بعد أن جرى الكشف من قبل ميدل إيست آي عن وجود محادثاته مع “حماس”. ولم يتوقف حتى الأيام الأخيرة عن بذل الجهد في سبيل إقناع النظام في القاهرة بالموافقة على الصفقة. ولكن لماذا؟
دوافعه الحقيقية غير واضحة للعيان. لكن من المؤكد أنها ليست انطلاقا من صحوة ضمير وشعور إنساني بالقلق تجاه ما يعاني منه ما يقرب من 1.8 مليون إنسان في قطاع غزة. فحينما كان رئيسا للوزراء وكذلك حينما عمل مبعوثا للسلام لم يتوان طوني بلير عن تزويد إسرائيل بغطاء دولي قيم لتشن الحروب على قطاع غزة حربا تلو أخرى. ولا يمكن أن يكون مندفعا من حبه لحركة حماس ولا لجماعة الإخوان المسلمين، وهو الذي اعتبر “الإسلاموية” عدوا أيديولوجيا. واقتباسا من كلمات لبيتر ميندلسون، يشعر بلير بالارتياح الشديد إزاء مساعدة الدكتاتوريين أصحاب السجلات الفظيعة في مجال حقوق الإنسان في الإمارات ومصر وقازخستان، نظرا لأنهم يشاطرونه الرأي بوجوب مسح الإسلاميين تماما من الخارطة السياسية.
لقد أخبر بلير حركة حماس بأنه تمكن من ضمان ثلاثة من بين خمسة من الشركاء المحتملين في صفقة فتح الحدود مع قطاع غزة مقابل وقف غير محدود لإطلاق النار – وقصد بالأطراف الثلاثة السعوديين والإماراتيين والأردنيين. ولكن، لا يمكن الادعاء بوجود أي صفقة ما لم تحز على موافقة إسرائيل ومصر.
بعد أربعة اجتماعات، ناقش بلير مع “حماس” إمكانية استمرار وقف إطلاق النار الساري حاليا مقابل فتح فوري لجميع المعابر الحدودية، وكذلك الدفع الفوري لرواتب كافة موظفي الحكومة في غزة، على أن تتبع هاتين الخطوتين محادثات حول الميناء البحري والمطار وإعادة إعمار القطاع. وكل ما عدا ذلك فهو غير مطروح للنقاش.
إلا أن “حماس” رفضت طلبا من طوني بلير التوقيع على أي صيغة تتضمن نصا على أن المفاوضات السياسية هي الطريق إلى الأمام، أو على أي شيء من شأنه أن يعيد الحياة إلى عملية أوسلو التي باتت الآن تعتبر في عداد الأموات. وأصرت “حماس” على أنها يمكن أن توافق فقط على استمرار وقف إطلاق النار، وليس على هدنة لفترة زمنية يتم النص عليها كحد أدنى، شريطة أن يتعلق وقف إطلاق النار بغزة فقط، ولا ينطبق على الضفة الغربية حيث تصر “حماس” على أن المقاومة ضد المستوطنين وضد الجيش الإسرائيلي ستستمر. أضف إلى ذلك أن الصفقة المقترحة لا تتضمن تبادلاً للأسرى.
أجلت “حماس” قبول الدعوة لزيارة لندن، وأخبر قادتها طوني بلير بأنهم يمكن أن يمضوا قدما في العملية فقط فيما لو تأكد دعم إسرائيل ومصر لها. إلا أن بلير فشل في الحصول على ذلك، وبذلك وصلت العملية إلى طريق مسدود حسبما علم موقع ميدل إيست آي من مصادر مطلعة يوم الثلاثاء.
في إسرائيل نفسها، هناك من يدعم هذه المحادثات، وبشكل خاص – وإن لم يكن حصريا – خارج إطار الحكومة الحالية. ولعل أبرز السياسيين الذين غيروا من مواقفهم وصاروا مناصرين لها نفتالي بينيت، زعيم حزب البيت اليهودي ووزير التعليم الحالي، والذي كان قد قال بعد أسبوع من اندلاع القتال في الصيف الماضي: “بإمكان الجيش أن يمسح حماس من الوجود. لدينا جمهور قوي يقول للقيادة افعلوا ما في وسعكم لتنهوا المهمة”.
أما الآن، فقد غير نفتالي بينيت من لهجته، حيث قال مؤخرا في مقابلة مع القناة التلفزيونية الثانية: “مصر والسلطة الفلسطينية تريدان للأمور أن تسوء داخل قطاع غزة حتى نستمر نحن في القتال، فهذا يخدمهم. ولكني في هذه المرحلة ضد ذلك. فالواقع الآن أن حماس موجودة هناك”.
وهناك آخرون غيره، ومنهم: الرئيس الإسرائيلي روفين ريفلين، ووزير النقل والاستخبارات يزرائيل كاتز، ورئيس الشين بيت السابق يوفال ديسكين، ووزير الدفاع السابق شاؤول موفاز، ونائب رئيس الأركان السابق يائير نافيه، والرئيس السابق للموساد إفراييم حاليفي. كل هؤلاء عبروا عن دعمهم لإجراء محادثات مع “حماس” سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
إلا أن نتنياهو والحكومة نفسها يعارضان ذلك بقوة. ربما كان السبب وراء ذلك أن نتنياهو لا يقبل بصفقة تبقي على “حماس” قوة مقاومة نشطة في الضفة الغربية أو ربما يكمن السبب الحقيقي في أنه لم يكن أبدا ينوي أصلاً التوصل إلى أي صفقة معها. ما من شك في أن “عملية” التوصل إلى صفقة مع حركة حماس كانت دوما أكثر إغراء له من النتائج التي كانت ستتمخض عنها. كان يتوقع من العملية أن توفر لدى “حماس” الحافز على الحفاظ على الهدوء، ويكون نتنياهو بذلك قد استجاب للضغوط التي يمارسها عليه مواطنو جنوب إسرائيل. أما النتيجة المتوقعة للعملية لو تمت فستكون التخلي عن سياسة عزل وإضعاف “حماس”، وهي السياسة التي مازال نتنياهو من أشد المتحمسين لإبقائها نافذة.
وبهذا الشأن لا يمكن اتهام نتنياهو بعدم الانسجام مع ذاته. فهو لا يميز بين نوع وآخر من القادة الفلسطينيين الذين يتعامل معهم، سواء منهم من يعترفون بإسرائيل ومن لا يعترفون بها. لم يعد سجل نتنياهو فيما يتعلق بالقضية القومية يخفى على أحد، فالمحادثات عنده لا تصل أبدا إلى نتيجة، بل لا تتجاوز كونها وسيلة لكسب مزيد من الوقت.
لكنه ليس وحيدا في ذلك. ففيما لو أبرمت صفقة يضمن بموجبها السماح بدفع رواتب ما يقرب من خمسين ألف موظف حكومة تابعين لـ”حماس”، فإن لسان حال محمود عباس سينطق ليقول “على جثتي”. وكما تؤكد مجموعة الأزمات الدولية في تقريرها الأخير، فإن لدى السلطة الفلسطينية الكثير مما تخسره والقليل مما يمكن أن تكسبه فيما لو رفع الحصار المفروض على قطاع غزة. فمنذ منتصف عام 2013 عندما أغلقت تقريبا جميع الأنفاق التي كانت تربط غزة بمصر تحت مدينة رفح، زاد باضطراد دخل السلطة الفلسطينية من الضرائب التي تجبيها إسرائيل نيابة عنها عن البضائع المتوجهة إلى قطاع غزة. وينقل تقرير مجموعة الأزمات عن وزير في حكومة الوفاق الوطني، عينته حركة فتح وكلفته بمتابعة موضوع إعادة الإعمار في غزة، أنه يحمل المسؤولية الأكبر عن الركود الحالي لمكتب الرئيس الفلسطيني، والذي يقول عنه “إنه لا ينوي إعادة إعمار غزة ولا تحمل المسؤولية تجاهها”.
لا تقل الإشارات القادمة من مصر قتامة عن ذلك. في حزيران (يونيو) ظهر رئيس المخابرات المصرية مبتهجاً لا تفارق ثغره الابتسامات وهو يستقبل وفدا من حركة حماس، وظل معبر رفح مفتوحا طوال ذلك الأسبوع. إلا أن ذلك كان قبل الهجوم الذي شنه جهاديون في سيناء، سارعت مصر على إثره بتحميل “حماس” المسؤولية عنه. وكانت آخر الإشارات هي اختطاف أربعة أعضاء في كتائب القسام بينما كانوا مسافرين عبر شمال سيناء، فما كان من “حماس” إلا أن اتهمت الجيش المصري وليس الدولة الإسلامية باختطافهم.
من يستفيد من هذا الفاصل القصير في المباحثات؟ لا ريب في أنه قد تم خرق شروط الرباعية التي تقصي “حماس” عن المفاوضات، ونفس الشيء ينطبق على إعلان الاتحاد الأوروبي الذي يصنف “حماس” منظمة إرهابية. وكان بلير قد أسخط السويسريين الذين طالما اعتبروا أنفسهم القناة الأساسية للتفاوض مع “حماس”، بل لقد تجاوز سخطهم سخط محمود عباس منه.
أيا كان الأسلوب الذي شنت به إسرائيل حربها على غزة في العام الماضي وأيا كان الدافع لها، فإن محادثات بلير تشير إلى أن إسرائيل لا ترغب في تكرار تلك التجربة تارة أخرى، على الأقل ليس في المدى المنظور. فـ”حماس” باتت هي العنوان الذي يقصد في غزة، وهي الجهة المفضلة على كل البدائل الأخرى، وبالتأكيد على حالة الفوضى التي تنجم عن تنافس بعض المتطرفين المسلحين فيما بينهم على إطلاق الصواريخ على إسرائيل، وكذلك على احتمال أن يأتي اليوم الذي ترث فيه الدولة الإسلامية جبهة “حماس”. من جهة أخرى، تأتي على حساب محمود عباس (وليس حركة حماس) تلك الجهود التي يبذلها محمد دحلان لإعادة الاعتبار لذاته وإيجاد موطئ قدم لنفسه داخل غزة من خلال تمويل حفلات الزفاف.
لربما كان بلير مفيدا لنتنياهو كوسيلة لجس النبض واختبار الأجواء، ولكن يبدو أنه قد استنفذ ولم يعد دوره كوسيط مطلوبا. وتعتبر مصر أن فتح معبر رفح الحدودي سيعني تسليم أهم ورقة لديها في مجال السياسة الخارجية، ولا يوجد ما يدل على أنها على استعداد لأن تقدم على ذلك.
وهذا يعيدنا تارة أخرى إلى طوني بلير. ما هي مصلحته في كل ذلك؟ لقد حار الكثيرون وهم يبحثون عن إجابة، ولكن بإمكاننا الآن الكشف عن بعض الدلائل.
في العام الماضي، في مؤتمر دولي كان ينعقد في إحدى الدول الأوروبية، وقبل أن تبدأ محادثات الدوحة بشهور، اقترب نفر من الإسرائيليين من أكاديمي يعرف عنه التواصل المباشر مع خالد مشعل وسألوه إن كان على استعداد لتوصيل استفسار إلى القيادة في حماس. كان السؤال مفاده “فيما لو قامت مؤسسة الغاز البريطاني (بريتيش غاز) بتطوير حقل الغاز في بحر غزة – الذي يبعد عن ساحلها ما بين 27 و 33 كيلومتراً – هل ستهاجمه حماس؟”. سألهم الأكاديمي: “من الذي يطرح السؤال – هل هي الحكومة الإسرائيلية؟”، قالوا “لا، بل هو طوني بلير”. أخبرهم الأكاديمي بأنه يرفض توصيل رسالة بالنيابة عن طوني بلير وإذا كان يرغب في طرح السؤال فليفعل ذلك بنفسه من خلال الاتصال بخالد مشعل شخصيا.
كم هو غريب. لقد ادعى طوني بلير في بعض لقاءاته الخاصة بأنه إنما انخرط في المحادثات مع “حماس” بناء على طلب منها – نتيجة لخطاب أرسلته حماس إلى مبعوث الأمم المتحدة إلى عملية السلام روبرت سيري. إلا أن اهتمامه بغاز بحر غزة يسبق ذلك بزمن. وليس من باب المصادفة أن تكون مؤسسة بريتيش غاز زبونا عند مؤسسة جيه بيه مورغان (وهي واحدة من كبرى المؤسسات المالية في بريطانيا) والتي يعمل لديها طوني بلير بوظيفة كبير مستشارين ويتلقى منها أتعابا على ذلك.
يعتبر هذا الحقل، كما تقول وزارة الخارجية البريطانية، المورد الطبيعي الفلسطيني الأهم والأكبر على الإطلاق من حيث القيمة. وفي عام 2007 قدرت الإيرادات المتوقعة منه بمبلغ 4 مليارات دولار أمريكي. كان رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق آرييل شارون يقف ضد تطويره، ثم بعد أن انسحب من قطاع غزة وقعت مؤسسة بريتيش غاز مذكرة مع شركة الغاز المصرية إيغاز لبيعه هناك في عام 2005.
ثم ألغيت الصفقة بعد ذلك بعام عندما تدخل طوني بلير نيابة عن رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك إيهود أولمرت. يقال إن ما كميته ثلاثين ضعفا من الغاز قد اكتشف مؤخرا أمام سواحل مصر. من يدري ما الذي يمكن أن تحتويه حقول غزة؟
المهم في الأمر أن هناك من يؤمن بأن مصالحه تتطلب وقف الصراع.
المصدر: هافنغتون بوست – ترجمة هافنغتون بوست عربي