حين بدأت فكرة مشروع مرمراي في مدينة إسطنبول، وهو النفق الواصل بين الجانبين الأوروبي والآسيوي، تحيّر القائمون على المشروع طويلًا في أمر اختيار موقع الحفر ليتفادوا قدر الإمكان المواقع الغنية أركيولوجيًا، أي تلك التي تعج بالآثار القديمة البيزنطية والرومانية وربما ما قبل تلك العصور، لا سيما وأن النفق كان مخططًا له أن يكون جزءًا من شبكة المترو، مما يعني عبور قطار سريع فيه كل عشر دقائق (وهو ما يحدث بالفعل منذ افتتاحه في 2013).
اختيار المحطة الرئيسية للنفق على الناحية الأوروبية كانت هي الهاجس الرئيسي نتيجة وقوع القسطنطينية القديمة في الجزء الأوروبي المُطِل على البوسفور، والذي أعلنت اليونيسكو تقريبًا عن كل المناطق فيه كجزء من التراث العالمي، مما يعني خضوع أي أعمال إنشائية عليه لرقابة متحف إسطنبول للحفريات، وهو ما دفع الجميع في النهاية نحو اختيار مدينة يَني قاپي Yenikapı، والتي غطتها المياة طوال العصور القديمة، وتحوّلت ميناء في العصر البيزنطي.
ظن الجميع أن “ميناء” يَني قاپي الخالي من الآثار سيعطيهم حرية أكثر في تنفيذ المشروع سريعًا، ولكن الموقع سرعان ما أفصح عن كمّ هائل من بقايا السُفُن البيزنطية فور بدء الحفر عام 2004، وهي سُفُن تعود كلها للفترة ما بين القرنين الخامس والحادي عشر ميلاديًا، وتعرضت للغرق آنذاك على الأرجح كما تقول المقتنيات الكثيرة والقيّمة التي كشف عنها علماء الحفريات داخل تلك السُفُن، وهو ما استتبع انتقال موقع يَني كاپي لإشراف متحف الحفريات، وتأخير أعمال الحفر.
حين وصل علماء الحفريات إلى قاع البحر، وكانوا قد اكتشفوا أنقاض 37 سفينة، أعلنوا أنهم سيفسحون المجال للمهندسين أخيرًا ليستكملوا أعمال الحفر، حتى تبينت لهم في القاع آثار من العصر الحجري الجديد تعود لحوالي 6000 سنة قبل الميلاد، وهي أول مرة ثبُت فيها وجود بشر في إسطنبول في هذا الوقت المبكر، ليبدأ التنقيب في تلك الطبقة الجديدة من تاريخ المدينة، والتي كشفت عن وجود مساحات مزروعة، وأدوات خشبية، وأكواخ للمعيشة، ومقابر، وحوالي ألفين من آثار الأقدام البشرية، وهو ما يعني أن مستوى مياه البوسفور حينئذ كان منخفضًا جدًا عما هو عليه الآن، بل ولربما كان يمكن لأصحاب هذه البصمات أن ينتقلوا إلى أوروبا مباشرة مشيًا من الأناضول.
حكاية السفينة YK12
يروي أوفوك قوجاباش، عالم الحفريات البحرية بجامعة إسطنبول، والذي عمل على دراسة السفن منذ عام 2005، لمجلة نيويوركر الأمريكية قصة السفينة YK12 التي جذبت الأنظار، والتي وجد على متنها المئات من الأمفورات (إناء أشبه بالفخار ولكن أكبر قليلًا يستخدم للنقل) ومتعلقات شخصية لقبطان السفينة مثل ملابسه العسكرية وسلة كبيرة من نوى فاكهة الكرز التي كان يأكلها في الغالب، وهو ما يقول قوجاباش أنه يشير لغرق السفينة في فصل زراعة الكرز القصير أثناء الصيف.
تقول لنا السفينة YK12 الكثير عن تاريخ بناء السُفن وليس فقط عن إسطنبول ومن سكنوها، ففي العصور القديمة كان البناء يتم من الهيكل الخارجي وإلى الداخل، وكان يعتمد على قوة الهيكل الخارجي، أما في العصور الوسطى فكان النموذج الأكثر كفاءة، والمعتمد على الهيكل الداخلي، والذي يبدأ بناؤه من الداخل للخارج، وهو تحوّل يقدر علماء الحفريات أنه بدأ عام ألف ميلادية، ولكن حفريات يني قاپي الآن تشير إلى أنه بدأ قبل ذلك، في حدود القرن السابع، وقبل اختفاء السفن القديمة، مما يعني أن البشر خاضوا تجارب طويلة مع النموذج الجديد لحوالي ثلاثة قرون بالتزامن مع استخدام السفن القديمة.
في المُجمَل، وجد العاملون في موقع يَني قاپي نوعين من السُفُن، واحدة طويلة وخفيفة، غالبًا للاستطلاع، وأخرى قصيرة وثقيلة لحمل البضائع، وهي سُفُن احتفظت بعضها بكامل حمولتها مما يشي بتعرضها لكارثة طبيعية كعاصفة أو فيضان، وغرقها في الحال قبل أن ينجح أي ممن كانوا على متنها في استعادة ما كان موجودًا عليها، كما أن طبيعة تلك الكوراث، للمفارقة، غطت الكثير من هذه الحفريات بالرمال والطين لتحافظ عليها وعلى هيئتها لآلاف السنين، حتى وجدها العمال، وهو ما يقول قوجاباش أنه لحسن حظنا نظرًا لوجود فصيلة معيّنة من كائن الرخويات Mollusk يتغذى في الحقيقة على بقايا السفن الغارقة.
علاوة على تلك السفن، وجد العلماء عشرات الآلاف من التُحَف التي سيخصّص لها متحف جديد في يني قاپي أو ربما أكثر، ومنها تمثال من الرخام للإله اليوناني أبوللو، إله الموسيقى والشعر والفن والمعرفة، ونقش على العاج للسيدة مريم، وعقد يعود للقرن التاسع عشر ميلاديًا سقط من إحداهن على ما يبدو في العصر العثماني، كما تم العثور على ما يشبه الدفتر الخشبي بصفحات من الشمع يمكن الكتابة عليها ومسحها مجددًا، وهو ما يصفه قوجاباش بـ”التابلِت البيزنطي.”
التابلت البيزنطي أو مُعجزة يني قاپي كما سماها علماء الحفريات
خيول بيزنطة المعذّبة
البشر ليسوا فقط من تركوا آثارهم في البوسفور، فهناك مركز بحثي خاص في جامعة إسطنبول بكلية الطب البيطري مخصص لبقايا الحيوانات التي تم استخراجها من الموقع، وهو يمتلئ بعظام أنواع شتى من الحيوانات، ودونًا عن أي حيوان آخر يعج المركز بجماجم الخيول، كما يقول ويدان أونار عالم الحفريات الحيوانية المسؤول عن المركز، والذي يشير إلى نجاح عملية استخراج هيكل حصان كامل عدة مرات، وهو أمر نادر.
عُرِفَت بيزنطة باستكمال تقاليد روما في تربية وتهجين الخيول للحصول على أنواع أكثر طولًا وقوة، وهي خيول بدأوا في وضع الحمولات الثقيلة على كاهلها ببلوغها عامين من العُمر، وكانت الحمولات تُجَر عن طريق قِطَع حديدية مربوطة في أفواهها، وهو ما يفسر التآكل الشديد في الجزء العلوى من فمها، والذي يبدو أنه تآكل لدرجة جعلت العظام مكشوفة كما يقول العلماء، بل وأحدثت ثقبًا كبيرًا يصل بين الفم وتجويف الأنف.
الجزء العلوي من فك حصان بيزنطي كما تظهر في تلك الصورة لجمجمته
لم يقتصر الضغط على أفواه الخيول بالطبع بل امتدت آثاره للجسد كله، كما يقول أونار، فكُل الخيول المستخرجة ماتت قبل أن تبلغ عشر سنوات، وكان معظمها يعاني من أمراضٍ شتى تتراوح من مشاكل في الأقدام وتشوهات في العامود الفقري حتى أن بعضها لم يكن ليتمكن من الالتفات يمينًا ويسارًا، كما أنها حين ماتت تحصّل البيزنطيون على لحومها وجلودها بل وشعرها، قبل أن يلقوا بالعظام إلى البحر.
لطالما ذكرت لنا المصادر البيزنطية أن أصحابها كان يأكلون الدببة والحمير، بيد أن أحدًا لم يجد دليلًا كافيًا لإثبات تلك الرواية، وهو ما وُجِد على الأرجح في يني قاپي حيث تم استخراج عظام كثيرة للحمير والدببة بعلامات واضحة لأعمال الجزارة البشرية، علاوة على العظام الخلفية للنعام، والتي كانت من آثار الوجبات الدسمة للبيزنطيين حيث تُعرَف أرجل النعام الخلفية بغناها باللحم، وعظام الفيلة التي يرجح أونار أن تكون من السيرك البيزنطي المعروف بـ”هيپودروم.”
أركيولوجيا إسطنبول
رسم لمشروع نفق ومترو مرمراي
حين اكتشف العمال طبقة العصر الحجري الحديث تلك في الموقع، رأي المسؤولون عن مشروع مرمراي أن يمضوا قدمًا في المشروع وألا يكترثوا بها، لا سيما وأنهم توقعوا أن تكون بعد تلك القرون الطويلة في البوسفور قد اختلطت تمامًا بشكل يجعلها عديمة القائدة للبحث والدراسة، بيد أن العلماء ما إن بدأو في استخراج كنوز العصور القديمة تلك حتى تراجع المسؤولون، وبدأت ملحمة كشف تاريخي جديد على حساب تأخّر في تنفيذ مشروع القرن، كما سماه آنذاك رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان.
أول ما ظهر للنور كان الآثار الخفيفة نسبيًا مثل الأواني والحلي وآثار الأقدام، والتي كان بعضها لأقدام أطفال يرتدون نعالًا صغيرة، وبعضها لأقدام الكبار العارية، أو أقدام الكبار الذين ارتدوا نعالًا خشبية، وهي نعال تتطابق في الحقيقة مع تلك التي لا يزال يرتديها الإسطنبوليون وغيرهم وتُعرَف في المصرية بالـ”قبقاب،” كما يقول خيري فهمي يلماز مؤرخ الفنون من مشرفي عمليات الاستكشاف، “لقد كان أمرًا مضحكًا للجميع أن نرى آثار النعال التي لا نزال نرتديها إلى اليوم في الحمامات والجوامع.”
لوحة فنية تحاكي سفينة من السفن التي تم العثور عليها في يني كاپي داخل إحدى محطات المترو بخط مرمراي
لم تكتفي المدينة المُثقلة بالتاريخ إذن بما تحتوي عليه من كنوز، بل قررت أن تُثقِل كاهل أهلها بالمزيد، والذين يعانون أحيانًا من عبثية واجب الحفاظ على التاريخ الطويل الذي مات أصحابه منذ قرون، في مقابل الرغبة في إحداث بعض التغييرات بمحيطهم، وهو ما تعرّض له خيري نفسه، الذي يعيش في حي من أحياء إسطنبول القديمة، ولم يتمكن من توسيع البدروم في منزله نظرًا لحاجته إلى إذن وإشراف متحف إسطنبول للحفريات، والذي سيضطر حينئذ، كما حدث مع مرمراي، إلى التنقيب أولًا عن أي آثار ذات قيمة، “سأضطر لاستقبال الأركيولوجيين في بيتي، ويعلم الله كم من الوقت ستأخذ هذه العملية.”
ليس خيري فقط هو الذي يشعر أحيانًا بثقل التاريخ في مدينته وعبثية العراقيل التي وضعتها الأجيال السابقة أمام إسطنبوليي اليوم، بل وأردوغان نفسه الذي اعترض أثناء مشروع مرمراي على التأخّر الشديد في أعمال الحفر والبناء من أجل استخراج الآثار والحفريات القديمة، “هل هذه الأشياء بالفعل أهم منا نحن البشر؟” هكذا سأل الرئيس التركي، وهو سؤال قد لا يخطر على بال الكثيرين الآن بينما يمرون في النفق الجديد داخل عربات مترو حديثة لن تتعرض في الأغلب لما لاقته سفن بيزنطة من أعاصير، ولكنها في نفس الوقت لن تترك آثار أقدامها كما فعل أهل القسطنطينية بالأمس، وهي آثار لا يبدو أن الإسطنبوليين يريدون ترك المزيد منها في مدينة تعج بالكنوز المُزعِجة أحيانًا.
*هذا المقال منقول بتصرّف من مجلة نيويوركر