في الثاني عشر من سبتمبر الجاري سيتم الإعلان عن الرئيس الحادي والعشرين لحزب العمال البريطاني، يتنافس أربعة مرشحين على مقعد الرئاسة في الانتخابات التي بدأت منتصف أغسطس الماضي، وتنحصر المنافسة الحقيقية في الانتخابات بين آندي برنهام وزير الخزانة والثقافة والتعليم على التوالي في وزارة جوردون براون والتي تعتبر النصر الأخير لحزب العمال، وبين جيريمي كوربين الرجل الستيني الذي قضى 32 عامًا في الصفوف الخلفية للبرلمان نائبًا عن دائرة شمال إسلنجتون.
تصدر كوربين كافة استطلاعات الرأي منذ بداية أغسطس بفارق كبير عن برنهام، وتظل هذه الأرقام عصية على التفسير خصيصًا مع كون كوربين آخر المتقدمين إلى الترشيح وأقل المرشحين في عدد الترشيحات من نواب الحزب في البرلمان، بفارق صوت واحد عن النصاب القانوني للترشيح.
على عكس التيار البليري (نسبة إلى توني بلير) داخل الحزب والذي يمثله السيد برنهام، لم يحصل كوربين على تعليمه في أي من جامعات بريطانيا الكبرى بتخصص في الاقتصاد أو السياسة، فكوربين لم يكمل تعليمه بعد الحصول على الشهادة الثانوية مفضلًا الانخراط في نشاط الاتحادات العمالية وبالتالي حزب العمال بالضرورة منذ سن مبكر للغاية، ليصبح نائبًا في البرلمان عن الحزب عام 1983 ليعرف بعدها بكونه من أكثر النواب يسارية في المجلس.
على امتداد حياته السياسية مثل كوربين النقيض المباشر لخطاب النخبة السياسية والحكومات المتعاقبة على بريطانيا بداية من تاتشر التي دخلت البرلمان في انتخابات أدت إلى فترة حكمها الثانية، ومرورًا بحزب العمال الجديد الذي تحول إلى صورة كربونية من سياسات المحافظين الاستعمارية والنيوليبرالية تحت قيادة توني بلير وغوردون براون، ونهاية ببريطانيا جيمس كاميرون التي كادت تفقد إسكتلندا وتريد خصخصة البي بي سي.
يتم التعليق على مجموعة الانحيازات السياسية التي التزم بها كوربين على طول حياته كنائب بكونها طوباوية أو خيالية كآرائه فيما يخص تأميم الشركات وحماية القطاع العام وأنظمة التكافل الاجتماعي ودولة الرفاهة، وأيضًا آرائه المعادية للناتو والتسليح النووي والمناصرة للقضية الفلسطينية، وتظل هذه التعليقات هي عصب الهجوم الهستيري الذي تقوم به عدد من المنصات الإعلامية البريطانية على شخص كوربين قبل مشروعه، وعلى رأس هذه المنصات كلًا من جريدة التليغراف المعروفة بتحيزها لسياسات حزب المحافظين، ومجلة الإيكونومست رسول الاقتصاد النيوليبرالي للعالم.
اعتمدت هذه المنصات بجانب المنشورات التحريرية المعتادة على مجموعة من مقالات الرأي لقيادات سابقة للحزب، من ضمن هذه القيادات كان “توني بلير” و”غوردون براون” آخر رئيسي حكومة من حزب العمال، كان عنوان مقال بلير في الجارديان يشبه سياسات كوربين بـ”فانتازيا أليس في بلاد العجائب”، بينما حذر براون أن انتخاب كوربين كفيل بتحويل الحزب إلى كيان لا يجيد سوى الاعتراض.
تصريح براون تحديدًا قد يكون على قدر من الأهمية عند النظر إلى شعبية كوربين في سياق الواقع السياسي الحالي للمملكة، منذ بدأت الموجة الأخيرة والأكبر للنيوليبرالية تحت إشراف مارجريت تاتشر ورونالد ريجان؛ ظلت لندن هي العاصمة الأوروبية لسياسات السوق الحرة في مقابل تقلص الدولة وخدماتها المقدمة للمواطنين، دأبت الحكومات المتتالية على تفكيك مكتسبات التكافل الاجتماعي والرعاية الصحية والإسكان والتعليم، السياسات التي حاربت من أجلها حكومات حزب العمال بعد الحرب العالمية الثانية.
نشأ حزب العمال من رحم حركة الاتحادات العمالية في القرن التاسع عشر، وفي قلب هذه الحركة تبقى النزعات اليسارية والاشتراكية هي المؤثر والمحرك الأكبر، على الأقل في القرن التاسع عشر.
كانت مواجهة الحزب للمحافظين تحت قيادة تشرشل عام 1945 تحت ضغط الاتحادات العمالية أحد أكبر المحطات دلالة على دور السياسات الاشتراكية في رسم واقع الحزب وبريطانيا ككل، انتصر العمال انتصار ساحق بـ 50% من الأصوات وقرابة 400 مقعد، بالرغم من استلام العمال لدولة دمرتها الحرب بشكل شبه كامل، في غضون 6 سنوات كانت الرعاية الصحية والمعاشات والتعليم كلها حقوق عامة لكل المواطنين، استخدمت حكومة العمال سياسات الاقتصادي جون كينز واضعة رفاهة ومعيشة المواطنين الهدف الرئيسي من النشاط الاقتصادي، وفي سبيل ذلك قامت بتأميم قرابة 20% من الاقتصاد البريطاني وأوصلت البطالة لأقل معدلاتها على الإطلاق في تاريخ المملكة.
تمكنت سياسات الرفاهة التي تبنتها حكومات العمال بعد الحرب في خلق مجتمع ذي استقرار واضح ومستوى معيشي جيد، إلا أنها لم تصمد في مواجهة القدرة الإنتاجية العملاقة للولايات المتحدة وسيطرتها على الأسواق العالمية، مما تسبب في بوادر فترة الكساد التي اعتلاها المحافظون بقيادة تاتشر؛ لتبدأ في تفكيك دولة الرفاهة وسياسات التوزيع العادل للثروة محاولين تحسين تنافسية بريطانيا أمام أمريكا في السوق العالمي.
ضحى المحافظون وقادتهم من أبناء الأرستقراطيين وخريجي أوكسفورد وكمبريدج بضوابط مستوى المعيشة، معللين ذلك بأن مصالح الأغنياء تصب في نهاية الأمر في مصالح الشعب ككل، وإن افتقدت هذه الحجة لمصداقيتها اليوم، وفي ظل الانتصارات المتتالية للمحافظين بدأت تيارات خريجي أوكسفورد وكمبريدج داخل حزب العمال في صياغة تصور جديد، تصور لا يقدم بضرورة الحال أي جديد عن رؤية وأفعال المحافظين، وسميت هذه الحركة بـ”حزب العمال الجديد” تحت قيادة توني بلير ومن بعده غوردون براون.
في مثل هذا السياق، تبدأ أسباب ارتفاع شعبية كوربين في الوضوح، إذ يبدو أن نادي خريجي أوكسفورد وكمبريدج في الحزب لم يتمكنوا سوى أن يلطخوا سمعة الحزب بالدماء والسياسات الليبرالية والظلم الاجتماعي كحالة توني بلير، أو الفشل المخزي في حالة إيد ميليباند في انتخابات 2015.
يبدو أن كوربين العامل في الاتحادات العمالية منذ 40 عامًا قد استطاع إعادة الخطاب السياسي للحزب إلى الجذور المجتمعية المتأثرة بالبطالة والظلم الاجتماعي بشكل مباشر؛ كما استطاع الوصول إلى جيل جديد من الشباب جيد التعليم الذي يدرك تمامًا البراجماتية الكامنة في خطاب مدرسة “حزب العمال الجديد” لا تقدم أي فرق حقيقي عن سياسات المحافظين وأنها نتاج نفس المسلمات.
يواظب خصوم كوربين على التأكيد على أنه المرشح غير المناسب لكونه “يقدم حلولًا قديمة لمشاكل قديمة”، ولأنه سيحول الحزب في حال قيادته إلى حزب يعارض لا حزب يقدم حلول، تُبنى هذه الانتقادات بالأساس على خطط كوربين لإعادة تأميم المشاريع القومية كالسكك الحديدية ودعم الإنتاج الثقافي عبر التمويل وإدماجه في التصميم العمراني للمدن، ورغبته في دعم القطاع العام بكل أشكاله وتقليص الفروق الاجتماعية عبر رفع ضرائب الشركات، ورغبته في إنهاء التسليح النووي وتقليص مصروفات الدفاع.
في واقع الأمر؛ قد تكون المشاكل التي يريد كوربين مواجهتها مشاكل قديمة بالفعل؛ إلا أنها مشاكل لم يقدم أي من أنصار الوضع القائم من العمال والمحافظين أي حلول حقيقية لها.
واقع الأمر هو أن تحول حزب بحجم حزب العمال إلى حزب يعترض كفيل في حد ذاته بخلق تحدي واضح لقواعد السياسة النيوليبرالية الحاكمة للمملكة والتي لم يجرؤ أحد منذ نهاية ولاية تاتشر على تحديها بشكل حقيقي.
قد يكون كوربين مرشح عجوز من عصر كانت الاتحادات العمالية والمقولات الماركسية فيه ذات صدى ووقع قوي، إلا أن التحدي والجرأة والصراحة في مواجهة المسلمات تنتمي لليوم وغدًا، لعصر تستطيع فيه الأفكار والكلمات الانتقال في ثواني، عصر أصبح من الممكن فيه نشر التناقضات والمظالم الكامنة في الوضع القائم بين الملايين عبر لايك وشير وريتويت.
المحقق أن سياسات كوربين باعتراضها وعنادها تنتمي لعصر سمته الأساسي السرعة والاحتجاج وكشف التناقضات.