وقع الخلاف بين الصحابة بعد مقتل عثمان، واتسعت الهوة وتقاتل المسلمون وسالت الدماء وخربت الديار واتسع الخرق على الراقع، وامتدت هذه الحالة تفت في عضد الأمة وتوقف نهضتها وينحسر معها سلطانها، وتصبح البيئة الإسلامية خصبة كي يخترقها أصحاب الثارات والأطماع والأحقاد؛ فانتشروا في أرجائها ينفثون سمومهم ويفرقون بين أبنائها، ولم تنفك الغمة ولا تهدأ المشكلة إلا بعد سنوات من الاقتتال والتطاحن والتجمد الحضاري انتهت بعام الجماعة 41هـ، على يد الحسن بن علي رضي الله عنه.
بدلًا من أن تدرس الأمة بتأني هذه الحالة التي أثرت في وحدتها وفرقت شملها وضاع في أتون معاركها خيرة شبابها، ولكي تتجنب الأمة الانتكاسة التاريخية فتتكرر الأخطاء وتعود بنا مرة أخرى إلى مثل هذه الحالة الكارثية، ذهب كثير من علمائها الأفذاذ إلى رفع شعار هذه دماء طهر الله منها سيوفنا فلنطهر منها ألسنتنا، وبدأت قواعد التدجين والسلبية وغض العقل وصناعة التبلد تضرب بجذورها في جنبات هذه الأمة للمرة الأولى بعد أن جاء القرآن مبينًا وموضحًا وموجبًا تتبع السير ومواصلة المسير للتفكر والنظر والتأمل في حال الأمم السابقة وحوادث التاريخ المتلاحقة “قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلكم” والتي نزلت في أكثر من 13 موضعًا، ولم يتستر القرآن على عرض ما قد يلتبس على العقل ويختلط في النفس، لا لشيء إلا ليصوغ عقل الأمة ناحية الإيجابية، ويكسر أصنام الانكفاء في العقل ويطهره من دنس الجمود والسلبية، فذكر القرآن ما حدث مع يوسف صراحة، وما حدث في الإفك صراحة، وعرض لنا أحوال الأمم السابقة، ليحرر الأمة من درن التقوقع والخوف من مواجهة الماضي، ولكي نصنع على عين الله تاريخنا فنقترب فيه بالإجادة وتفادي أخطاء الماضي من مراد الله في خلقه.
في العام 1952 ظهر على الساحة السياسية شخصية جمعت بين كاريزما القيادة وعمق التأثير، إنها شخصية البكباشي جمال عبد الناصر الذي حكت أغلب مذكرات الإخوان ممن عاصروا هذه الفترة الهامة من تاريخ جماعة ووطن، وسواء كانوا عسكريين أمثال اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف أو البكباشي معروف الحضري أو الصاغ أبو المكارم عبد الحي أو كانوا مدنين أمثال حسن العشماوي أو محمود عبد الحليم أو صلاح شادي، بأن عبد الناصر كان شخصية استثنائية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معانٍ، فعبدالناصر الذي انضم لجماعة الإخوان وبايع على المصحف والمسدس، وكان أحد أهم أعمدة تنظيم ضباط الإخوان، والذي بدأه عبد المنعم عبد الرؤوف داخل الجيش المصري في العام 1942 تحت إشراف الصاغ محمود لبيب وتبعية مباشرة للمرشد العام الإمام البنا رحمه الله، والذي أصبح بعد حرب فلسطين وحالة الفراغ نتيجة لاغتيال النقراشي وقرارات إبراهيم عبد الهادي رئيس وزراء مصر تجاه جماعة الإخوان المسلمين ومرشدها وكل ما يخصها في كل مكان داخل الدولة المصرية، تنظيم الضباط الأحرار بقيادة عبد الناصر والذي تحكي عنه مذكرات الإخوان بانه كان فاعلاً ومؤثرًا في كل أنشطة التدريب التي أقيمت للتنظيم الخاص لمواجهة الإنجليز ومن بعدها مواجهة اليهود في فلسطين، عبد الناصر الذي كان يُدرّس تختة الرمل لأعضاء التنظيم الخاص ويدربهم على حمل السلاح كما حكى عبد الرؤوف في كتابه “أرغمت فاروق عن التنازل عن عرش مصر”، وأيضا حسن العشماوي في مذكراته “الأيام الحاسمة وحصادها”، بأن الرجل كان يبذل الجهد والعرق من أجل تدريب أعضاء التنظيم الخاص في القرية التي كان يمتلكها والد العشماوي.
عبد الناصر كان إخوانيًا صميمًا نال ثقة الجميع ممن أحاطوا به في هذه الأثناء، واستطاع الرجل أن ينتزع تنظيم ضباط الإخوان بعد حالة الفراغ التي أحدثها اغتيال النقراشي وقرارات عبدالهادي التي طالت صفوف الإخوان واغتيال الإمام حسن البنا، وأخذ يعيد ترتيبه وتشكيل منهجية تكوينه بعيدًا عن الشروط والأبجديات الإخوانية؛ فوسع نطاق عضويته لتشمل الشيوعي واليساري والملحد وألغى شروط العضوية الضمنية التي توافق عليها الثلاثي “البنا ولبيب وعبدالرؤوف” في بداية نشأة تنظيم الضباط الأحرار أو ما كان يطلق عليه تنظيم ضباط الإخوان داخل الجيش، ورغم ذلك لم يشعر الإخوان باي امتعاض من التعاون معه والثقة فيه وتوفير الحاضنة الشعبية التي حمت انقلاب 1952 وأيضًا وصل الأمر إلى حد التحالف معه والوصول إلى تشكيل حكومة ائتلافية يكون الإخوان جزءًا منها، وعاش الإخوان منذ الانقلاب في يونيو 1952 وحتى يونيو 1954 حالة من حالات الاستقرار النسبي، وحتى فشل الإخوان في التواجد داخل الحكومة وانتهاء شهر العسل بقرارات شبيهة بقرارات إبراهيم عبد الهادي في عام 1949 بل كانت أكثر قسوة ووحشية، ودخل الإخوان السجون وعاشوا فترة من التقهقر والابتلاء والمحنة وضاع التنظيم وحلت الجماعة وفشل الإخوان في الإبقاء على مكانتهم وتواجدهم مع العسكر.
وأمام ممارسات انقلاب يوليو والتي حرمت المجتمع وحرمت الدعوة الإسلامية وحرمت الإنسانية من عطاء جماعة رائدة، لأنها لم تستطع أن تمارس السياسة بشكل يجعلها تحيا على السطح بمرونة دون الحاجة للدخول في صدامات مع من كان جزءًا منها ويحفظ أركانها وقدراتها فكانت المحنة الثانية والتي استمرت طويلاً حتى عام 1974.
وثق الإخوان بعبدالناصر ووقفوا إلى جانبه وساعدوه في انقلابه وهيأوا الشعب لقبوله رغم المآخذ الواضحة التي استبانت لهم قبل هذه اللحظة الفاصلة:
1- أكد معروف الحضري في مذكراته وهو الضابط الإخواني الذي ساهم في إيصال المساعدات للجيش المصري المحاصر في الفلوجة في حرب فلسطين أنه كانت هناك مراسلات سرية بين عبدالناصر وبعض ضباط اليهود إبان حرب فلسطين عام 48.
2- اغتصب عبدالناصر تنظيم ضباط الإخوان داخل الجيش وانحرف به بعيدًا عن نهجه، وخالف شروط إنشائه وحوله إلى تنظيم الضباط الأحرار دون أي معايير أخلاقية أو فكرية لمنتسبيه.
ورغم كل ذلك وثق الإخوان في عبدالناصر وساعدوه في تفريغ الساحة السياسية ووأد الحياة الحزبية بدافع فسادها وعمالتها، وأيضًا أعانوا العسكر على اغتصاب السلطة وصناعة الطاغوت في شخص عبدالناصر، وحينما أفاقوا من هول المفاجأة لم يلبث أن فتك بهم وأطبق عليهم وجعلهم في غيابات السجون، بعد أن فشلت الحكومة الائتلافية والتي كانت فرصة حقيقية للولوج إلى عالم السياسة وإدارة عملية تحول سياسي نحو الديمقراطية عقب انقلاب 52، ولكن ولأن الإخوان في هذه المرحلة كانوا غير متمرسين في إدارة الصراعات السياسية وغير أكفاء في التعاطي مع عمليات التفاوض السياسي، وأيضًا كانوا أميل إلى الصدام منه إلى الوئام خصوصًا بعدما ظهرت بوضوح طموحات العسكر الفاشية وعلى رأسهم عبدالناصر.
فضل الإخوان المسلمون أن يدخلوا المحنة من أوسع أبوابها وبدأوا يسطرون ويُنظِرون لحالة فكرية جديدة تتماهى مع شروط وظروف المحنة التي اختاروها رغمًا عنهم، وبدأت البطولات وحالة النشوة التي ينميها الإحساس بمصاحبة الحق والوقوف على عتبات التاريخ، والقارئ لكل الأدبيات والدراسات والكتب التي تتناول هذه الفترة التاريخية والتي تمثل منحنًا عظيمًا في تاريخ كل من الإخوان ومصر والعالم العربي والإسلامي يجد أن الصراع السياسي في مصر في الفترة بين عامي 1952 و1954 لم يكن صراعًا متكافئًا بل كان للأسف حالة من الانطباعية في إدارة الأزمات والصراعات رغم أنه يتوقف عليها تاريخ الأمم ومصير الشعوب.
أخطأ الإخوان المسلمون في محنة 1954 من عدة جوانب:
1- أنهم هم الذين ساهموا في صناعة ودعم انقلاب يوليو 52 ولكنهم فشلوا في السيطرة عليه أو حتى التعايش معه دون صدام.
2- لم يستطيع الإخوان المحافظة على كيانهم من الاختراق ونجح عبدالناصر في إحداث انشقاق في الصف الإخواني ولم يستطع الإخوان المحافظة على حالة التماسك أمام شخص يعرف التنظيم من الداخل كأحد أفراده، فاستقال الشيخ الباقوري من مكتب الإرشاد واختار أن يكون وزير الأوقاف رغم عدم موافقة الإخوان.
3- عدم النضج السياسي وانعدام جاهزية الكوادر البشرية للمشاركة في إدارة الدولة المصرية والفشل في إدارة عملية سياسية مع عسكر 52 بعقلية تعي معنى المصلحة وتفهم معنى التدرج في تحقيق الأهداف، وتجنيب العقلية الدعوية التي لا تقبل بحلول وسط ولا تسمح بالحلول التكتيكية أو التراجع للخلف خطوات من أجل التهيئة المستقبلية لتحصيل الأهداف وتحقيق المصالح، ولكن إما الهدى أو الضلال، الإيمان أو الكفر، العدل أو الظلم، النهار أو الليل؛ فكان ما كان وانطفأت شمس الدعوة الإسلامية في مصر رغم أنها أشرقت في أماكن أخرى فكان قدر الله.
4- اختيار حالة الصدام والسماح بحدوثها دون أن يحاولوا اقتناص المكاسب والحفاظ على الحد الأدنى من المصالح واختيار السجن والمساعدة بدون قصد في تفريغ المجتمعات من كافة صور المعارضة بعدما كانت الجماعة هي الصوت الأخير لها بعد إلغاء وحل الأحزاب وتجميد الحياة السياسية في مصر.
5- بدلاً من دراسة الأسباب التي أدت إلى محنة 54 ومحاولة تفنيدها ووضع الخطط لتخفيف حدتها وتلافي أثارها السلبية علي الجماعة وأفرادها بدأت حالة التقوقع والتحوصل والانكفاء حول الذات والتكيف مع المحنة والتنظير لها والتماهي في قبولها؛ فزادت العزلة الشعورية وارتفعت حالة التحليق في سماء المحنة بعيدًا عن أرض الواقع، وعلى النقيض زادت هيمنة العسكر وضربوا بجذورهم في كافة مناحي الإدارة في الدولة المصرية واستحوذوا على الثروات والمقدرات وأصبحت الدولة غنيمة حرب اقتنصها العسكر باقتدار.