أخيراً، وبعد مضي ما يقارب الثلاثة شهور على انتخابات 7 يونيو/حزيران الماضي، أعلن الرئيس التركي “طيب رجب أردوغان” أن لا مفر من عودة البلاد إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى. ولتجنب إطالة فترة القلق وفقدان اليقين، قررت اللجنة العليا للانتخابات عقد الجولة الجديدة للانتخابات البرلمانية في مطلع نوفمبر/تشرين ثاني المقبل. حكمت تركيا منذ 2002 من قبل حزب العدالة والتنمية، المحافظ ذي الجذور الإسلامية، الذي استطاع، في ثلاث دورات انتخابية متتالية، تحقيق أغلبية برلمانية مريحة.
ورغم أن ولاية الحزب الأولى، 2002 ـ 2007، اتسمت بصراع محتدم مع قيادة الجيش والقضاء، إلا أنه نجح بصورة استثنائية في توفير الاستقرار السياسي الضروري لنهضة البلاد الاقتصادية وتعزيز دورها الإقليمي. بعد عقد مرير من الحكومات الإئتلافية والتدهور الاقتصادي والحرب باهظة التكاليف ضد المسلحين الأكراد، عاشت تركيا تحت ظل العدالة والتنمية ثلاثة عشر عاماً من وضوح الطريق والهدف والثقة بالنفس والمستقبل.
لكن انتخابات يونيو/حزيران الماضي جاءت بما لم يكن يتوقعه كثيرون. خسر العدالة والتنمية أغلبيته البرلمانية، وعادت البلاد لتواجه شبح الحكومات الإئتلافية وعدم الاستقرار. بيد أن الأحزاب السياسية الرئيسية الممثلة في البرلمان لم تستطع الاتفاق على تشكيل حكومة إئتلافية، تجتمع على برنامج واحد وتتمتع بأغلبية برلمانية.
حصل العدالة والتنمية في الجولة الانتخابية الأخيرة على 41% من الأصوات، وفرت له 258 مقعداً من مقاعد البرلمان، أي أقل بـ 18 مقعداً عن الأغلبية المطلقة. ولكن هذه النتيجة، على أية حال، جعلت العدالة والتنمية الحزب الأكبر في البرلمان. وكان واضحاً أن الاتفاق بين العدالة والتنمية وأي من الأحزاب الأخرى الثلاثة الممثلة في البرلمان سيأتي بحكومة إئتلافية، تتمتع بأغلبية مريحة (حصل حزب الشعب الجمهوري على 132 مقعداً، وحزب الحركة القومية التركي وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي على 80 مقعداً لكل منهما).
من جهة، حزب الحركة القومية، الذي يشترك مع العدالة والتنمية في قطاع ملموس من قاعدته الشعبية، رفض من البداية أي نقاش حول حكومة إئتلافية، سواء مع العدالة والتنمية أو الحزبين المعارضين الأخريين. ومن جهة أخرى، ونظراً لأن حزب الشعوب الديمقراطي يعتبر مجرد ذراع لحزب العمال الكردستاني الإرهابي، لم يكن باستطاعة العدالة والتنمية محاولة بناء إئتلاف معه.
وهكذا، انحصرت الخيارات في محاولة بناء إئتلاف حكومي بين العدالة والتنمية وخصمه السياسي والإيديولوجي الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري، حامل لواء الأتاتوركية والميراث العلماني للجمهورية. ورغم أن المفاوضات التفصيلية بين الحزبين استمرت عدة أسابيع، فالواضح أن خلافاً عميقاً حول السياسة الخارجية، سيما السياسة في الشرق الأوسط، وحول البنية التعليمية للبلاد، أدى إلى فشل هذه المفاوضات.
هذه هي المرة الأولى في تاريخ الجمهورية، ومنذ بدأت التعددية السياسية في 1950، التي تضطر فيها تركيا الذهاب إلى انتخابات طارئة نظراً للفشل في تشكيل حكومة إئتلافية.
وطبقاً للدستور، يفترض أن تقود البلاد في المرحلة الانتقالية، حتى نهاية الانتخابات الجديدة، حكومة تسيير أعمال، تشارك فيها الأحزاب ذات التمثيل البرلماني طبقاً لوزن وجود كل منها في البرلمان، على أن تعطى حقائب العدل والداخلية والخارجية والمواصلات لمستقلين أو تكنوقراط.
المفاجأة، أن كلاً من حزب الشعب الجمهوري والحركة القومية رفض المشاركة في حكومة تسيير الأعمال، التي كلف د.”أحمد داوود أوغلو”، رئيس العدالة والتنمية، بتشكيلها.
أقام الحزبان حساباتهما على أن اقتصار حكومة تسيير الأعمال على وزراء من العدالة والتنمية وحزب الشعوب الديمقراطي، القومي الكردي، في وقت اشتعال الحرب من جديد بين الدولة التركية ومسلحي حزب العمال الكردستاني، سيحرج العدالة والتنمية أمام الناخب التركي.
لكن، ما لم يكن في الحسبان أن يوافق البرلماني عن حزب الحركة القومية وابن المؤسس الأسطوري للحزب، “طغرل توركيش”، على الالتحاق بحكومة تسيير الأعمال. كما قام “داوود أوغلو” بإعطاء مقعد وزاري للرئيس السابق لحزب الوحدة الكبرى، الذي يمثل جناحاً آخر في التيار القومي التركي.
بتشكيل حكومة تسيير الأعمال، تعبر البلاد محطة أخرى في أجندة الفترة الانتقالية، وتدخل بالفعل مناخ الانتخابات المبكرة. ولكن السؤال الذي يخيم على فضاء تركيا السياسي هو ما إن كانت الانتخابات المنتظرة ستخرج البلاد من حالة القلق وفقدان اليقين.
في كلمة بعد تصديقه على حكومة تسيير الأعمال، دعا “أردوغان” الشعب التركي إلى اختيار الأمن والاستقرار في الانتخابات المقبلة. والواضح أن “أردوغان”، المؤسس والزعيم السابق لحزب العدالة والتنمية، كان يقصد أن يمنح الشعب العدالة والتنمية الثقة والأغلبية البرلمانية التي تؤهله للحكم منفرداً من جديد.
لكن كلمات الرئيس قد لا تجد بالضرورة الاستجابة الكافية من أغلبية الناخبين. بصورة من الصور، وقع العدالة والتنمية ضحية التقدم الكبير الذي أحرزته حكومته خلال السنوات القليلة الماضية في القضية الكردية، وهو ما سمح لحزب الشعوب الديمقراطي أن يشارك في الانتخابات بصفته الحزبية لأول مرة في تاريخ البلاد.
وإن كان التعثر الطارئ في مسار حل المسألة الكردية، وعودة حزب العمال الكردستاني إلى العمل المسلح، سيدفع إلى تعزيز المشاعر القومية الكردية، فإن الانتخابات المقبلة لن تغير كثيراً في حظوظ الأحزاب الأربعة الرئيسية. إن حافظ الشعوب الديمقراطي، ذو التوجه القومي الكردي، على نسبة الأصوات التي حققها في يونيو/حزيران الماضي، فربما لن يستطيع العدالة والتنمية الحصول على أغلبية برلمانية كافية للحكم منفرداً؛ حتى إن تراجعت حظوظ حزب الحركة القومية قليلاً.
ليست ثمة شك في أن تركيا، كما معظم بلاد الشرق الأوسط الإسلامية، بلد منقسم على ذاته. وفي أحسن الحالات، كما انتخابات 2011 البرلمانية، لم يستطع حزب العدالة والتنمية تجاوز سقف 50% من الأصوات.
ثمة اعتقاد في أوساط دارسي السياسة التركية، يبدو أنه صحيح إلى حد كبير، تدور القاعدة الصلبة للعدالة والتنمية حول 38% من الأصوات. أي نجاح للحزب في رفع نصيبه من الأصوات إلى ما هو أعلى من قاعدته الصلبة يعني حصوله على دعم إضافي من القاعدة القومية التركية المحافظة، ومن عموم المواطنين الأكراد، غير المتطرفين قومياً، ومن الدائرة الليبرالية الناعمة.
المشكلة، أن تصميم رئيس الجمهورية، الذي لم يزل يتمتع بنفوذ كبير في العدالة والتنمية، على أن يتضمن برنامج الحزب الانتخابي وعداً بوضع دستور جديد، يتضمن تغيير نظام الحكم إلى نظام رئاسي، تسبب في دعم قطاع واسع من الليبراليين الأتراك لحزب الشعوب الديمقراطي. كما أن الأخير نجح، بالإقناع أحياناً وبالترهيب في أحيان أخرى، في قضم قطاع ملموس من الأصوات الكردية، التي كانت تذهب عادة للعدالة والتنمية.
في الجهة المقابلة، تسببت عملية السلام الكردية، التي قادتها حكومات العدالة والتنمية، في خسارته لجزء من الأصوات القومية التركية؛ مما رفع نصيب حزب الحركة القومية إلى 17% من أصوات الناخبين، أي أكثر بثلاث أو أربع نقاط بالمئة من سقفه التقليدي.
سيعقد حزب العدالة والتنمية مؤتمره السنوي في منتصف سبتمبر/أيلول الحالي، مباشرة قبل انطلاق الحملة الانتخابية. وسيمثل المؤتمر مناسبة لإعادة الحزب النظر في خطابه، في برنامجه، وفي الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها في حملته الانتخابية الماضية.
سيكون المؤتمر فرصة العدالة والتنمية الأخيرة لإعادة بناء علاقته بعموم الناخبين، تركاً وكرداً، محافظين وقوميين وليبراليين، سيما أولئك الذين قرروا التخلي عنه في الانتخابات الماضية.
بدون ذلك، لن تأتي الانتخابات المقبلة بنتائج مختلفة كثيراً عن السابقة. وسيصبح على تركيا العودة من جديد إلى عهد الحكومات الإئتلافية، بكل ما يعنيه ذلك من سياسات رمادية، سواء على الصعيد الاقتصادي ـ الاجتماعي، أو على صعيد السياسة الخارجية.