تسببت الحرب في سوريا في تهجير أكثر من 4 ملايين نسمة خارج البلاد، وتبقى الأغلبية العظمى للمهجرين حتى اليوم في تركيا والبلدان العربية كلبنان والأردن والعراق ومصر، يصل تعداد اللاجئين السوريين في هذه البلاد الخمسة لما يزيد عن ثلاثة ملايين وتسعمائة ألف نسمة، ويبدو أن أعدادًا كبيرة من هؤلاء لا تنوي البقاء في هذه البلاد المتأزمة أغلبها لوقت أطول من هذا.
تنقل الأخبار بشكل يومي مؤخرًا مآسي القتلى من السوريين على الطرقات إلى بلدان غرب أوروبا، في بداية الأمر كان غرق الزوارق المتجهة إلى اليونان وإيطاليا عبر المتوسط هو الخبر المعتاد، إلا أن الأحداث الأخيرة على حدود بلدان شرق أوروبا وجهت الانتباه إلى الطريق البري للتهريب، والمسؤول غالبًا عن نقل أعداد أكبر بكثير من طريق البحر إلى قلب أوروبا.
أدت الصورة متناهية البشاعة للغرقى وقمع المتسللين على طول الحدود البرية إلى إثارة حالة واسعة من الغضب والحزن داخل وخارج أوروبا، إلا أن حقيقة أن هذه التغطية الإعلامية لا يتعدى مداها أرقام محدودة للغاية من اللاجئين السوريين تدين بالأساس لكونها على طول حدود القارة الأوروبية، القارة التي تملأ السمع والبصر لما بها من إعلام وما لها من أهمية في الرأي العام الدولي، وهذه الحقيقة تحديدًا توجب علينا النظر إلى واقع النزوح السوري وعلاقته بالبلدان المضيفة من خلال الأرقام لتقديم فهم أفضل للأزمة داخل وخارج أوروبا، خصيصًا مع أخذ الحاجة الأوروبية الحادة إلى أيدي عاملة شابة لمواجهة تقدم سن شعوبها المتسارع، والذي يتمظهر بدوره في ردود الفعل الملتبسة من حكومات كالألمانية فيما يخص استقبال المهاجرين في المجتمعات الأوروبية.
البلدان الخمسة الحاضنة للأغلبية العظمى من اللاجئين السوريين (تركيا، لبنان، الأردن، العراق ومصر) تمتاز بالأساس بكونها جميعًا بلدان متأزمة اقتصاديًا (باستثناء تركيا ربما) وسياسيًا لأقصى حد، تحتضن هذه البلاد ما يزيد على ثلاثة ملايين وتسعمائة ألف لاجئ سوري، التعداد السكاني لهذه البلاد مجتمعة يقارب 206 مليون نسمة، ونسبة اللاجئين للسكان تظل كبيرة جدًا في بلدان صغيرة سكانيًا كلبنان والأردن، متوسط نصيب الفرد من الناتج القومي في هذه البلاد مجتمعة لا يتعدى 150 ألف دولار، ومتوسط العمر في هذه البلاد لا يعدو 25 عامًا، مما يعني بحسبة بسيطة أن هذه البلاد تعاني من نسب عالية من البطالة بين الشباب وحالة اقتصادية متواضعة، هذا طبعًا مع غض النظر عن الظروف السياسية المتردية والنزاعات المتزايدة في هذه البلاد من قمع سلطوي واقتتال طائفي.
على الناحية الأخرى من هذه البلاد، البلدان الأوروبية الخمسة الأكثر استقبالًا للسوريين وهي ألمانيا، اليونان، السويد، النمسا وإيطاليا على الترتيب ترسم صورة مختلفة تمامًا عن الأرقام السابق ذكرها، حيث يصل عدد السوريين الذين استقبلتهم هذه البلدان إلى ما يزيد عن 255 ألف نسمة، بينما يصل مجموع تعداد سكانها إلى ما يزيد عن 170 مليون نسمة، ومتوسط نصيب الفرد من الناتج القومي بين هذه البلاد يزيد عن 39.9 ألف دولار، بينما يزيد متوسط عمر السكان في هذه البلدان عن الـ 43 عامًا.
هذه بلدان متقدمة اقتصاديًا لأقصى حد (باستثناء اليونان) وذات قدر كبير من الصناعات المتطورة والاقتصاد العالمي، وفي ذات الوقت هي بلدان من المؤكد أنها ستواجه مشكلة في توفير الأيدي العاملة اللازمة لهذه الصناعات، والقادرة أيضًا على خلق الوفرة المالية اللازمة لرعاية القطاعات العريضة من كبار السن والمتقاعدين في هذه البلاد.
المشكلة السكانية والعمالية في أوروبا هي مشكلة حقيقية لأقصى حد، والهجرة أفضل الحلول لهذه الأزمة من الناحية الزمنية، نجحت سياسات فتح الحدود داخل أوروبا في خلق حالة من الهجرة من بلدان كبولندا ودول شرق أوروبا الأقل تقدمًا اقتصاديًا وذات الشعوب الأقل سنًا نحو بلدان كألمانيا وبريطانيا؛ إلا أن المشكلة أثبتت أنها أكبر من ذلك كثيرًا وتبقى الحاجة إلى المزيد من الشباب.
وهنا يجدر الإشارة إلى مسببات النزوح السوري المركبة؛ فالسبب المباشر للهجرة من سوريا يظل وبلا شك الخطر المهدد للحياة في منطقة حرب، وهو التعريف القانوني لمستحقي اللجوء، إلا أن هذا السبب ليس كافيًا لترك هؤلاء اللاجئين لبلدان كتركيا يتوافر فيها عنصر الأمان نحو أوروبا، السبب الحقيقي للتوجه إلى أوروبا هو السبب الأقدم والأكثر بساطة للهجرة بشكل عام منذ فجر التاريخ؛ البحث عن حياة أفضل اقتصاديًا واجتماعيًا.
خلقت الحرب الأهلية في سوريا حالة من الخطر واليأس كافية لإجبار الملايين على ترك بيوتهم في وقت قصير نسبيًا، إلا أن هذا اليأس تحديدًا دعم التوق البشري الطبيعي إلى حياة أرغد وأسهل في مكان أفضل، أصبحت بلدان الجوار الآمنة مجرد خطوة على سلم الهروب نحو بلدان غنية لا قهر سياسي للحريات بها.
تسبب هذا اليأس في خلق التدافع الشديد نحو الأراضي الأوروبية في مدة زمنية قصيرة، ونتج عن هذا بطبيعة الحال تزايد ضحايا عمليات التهريب الخطرة بطبيعتها، وهنا يجب الإشارة إلى أن الأزمة الحقيقية التي تواجهها أوروبا حاليًا هي أزمة القتلى على شواطئها وحدودها وليست أزمة الهجرة في حد ذاتها، فالتخاذل الأوروبي في صورة إغراق مراكب اللاجئين في المياه الدولية وإغلاق محطات القطارات وغيرها من التصرفات الهستيرية التي أتت تحت ضوء الإعلام هو الأزمة الأخلاقية والإجرائية التي فشلت فيها أوروبا بجدارة.
وفي نفس الوقت، لا يبدو أن أوروبا قد تمكنت من استثمار الوقت بوضع حاجتها للهجرة مع مشاكلها الداخلية مع الهجرة في معادلة يمكن حلها، تبقى مؤسسات أوروبا الإعلامية والتعليمية فاشلة في وضع حد للنمو المتزايد للأفكار اليمينية القومية المعادية للهجرة المدفوعة بالفشل الاقتصادي وتناقص العدالة الاجتماعية داخلها، وتبقى الجهود لوضع أسس لإدماج المهاجرين الجدد في المجتمعات الأوروبية محدودة وغير قادرة على تقبل التنوع الإثني وتخطي المقولات العرقية والعلمانية.
العمل على إنهاء الحرب في سوريا قد يكون حلًا كافيًا لإنهاء التهديد الدائم لحياة السكان في سوريا تحت البراميل المتفجرة والغازات الكيماوية، إلا أنه بهذا الشكل لن ينتهي إلا بنزع صفة اللجوء عن السوريين ممن يحاولون شق طريق إلى أوروبا؛ لتبقى صفة المهاجرين كما هي.
إنهاء الأزمة العسكرية سيبقي على سوريا كأرض معركة مدمرة لا يمكن عيش حياة كريمة فيها بسهولة، ولن يكون بأي شكل من الأشكال نهاية لتطلع السوريين نحو حياة أفضل.
على أوروبا أن تعلم أن أفواج المهاجرين السوريين لن تتوقف بمجرد الوصول لحل سياسي للعنف في سوريا، لا شك أن مثل هذا الحل قد يكون ناجعًا في إيقاف هروب السوريين من سوريا، إلا أن العودة إليها في مثل هذه الحالة لا يغلب ظن أنها حل مقبول لدى الكثير من المهجرين.
على المدى القريب على أوروبا أن تسعى حثيثًا لإيقاف النزيف السوري وإن كان لمجرد وقف سيل المهاجرين المحتملين ممن يهربون من البلاد يوميًا، وعليها أيضًا أن تسابق الزمن لخلق بدائل لأزمتها الإنسانية الحقيقية لوفاة العشرات على حدودها، بدائل رسمية آمنة وفي نفس الوقت سريعة متخطية للبطء البيروقراطي والسياسي المعتاد، بدائل يمكن للاجئ السوري أن يثق بها كفتح أبواب اللجوء في المناطق الآمنة عوضًا عن إلقاء نفسه إلى تهلكة التهريب.
وعلى المدى البعيد يجب أن يبدأ العمل على خطط إعادة إعمار سوريا من الآن، في محاولة لجعلها مكان لا تستوجب المعيشة فيه التفكير في الهروب بشكل يومي، وبجانب هذا يجب أن تصل المجتمعات الأوروبية إلى حالة مع التصالح مع مشكلاتها السكانية وحاجتها إلى الهجرة، هذه الحالة تستوجب جهود حقيقية للإجابة عن أسئلة أسس المواطنة والمجتمعات متعددة الأعراق، وأن تدرك أهمية مواجهة النزعات اليمينية القومية وكل ما تحمله من أخطار حقيقية عن طريق مؤسساتها الإعلامية والتعليمية، وفي ذات الوقت بمواجهة الحواضن الاجتماعية لمثل هذا الفكر والمتمثلة في غياب العدالة الاجتماعية وشعور اليأس والتفوق العرقي الزائف، أي الوصول إلى حالة من التصالح مع الواقع يمكن عندها العمل على بناء مستقبل آمن لا ترصعه الكراهية والعنصرية؛ ويصبح الرخاء الاقتصادي فيه إمكانية حقيقية وواقعية.