لم تبدأ الثورة السورية اليوم أو قبل شهر أو شهرين، وبطش النظام لم يظهر للعالم اليوم فجأة، وهو الذي أثخن وقتل بكل أنواع القتل التقليدية وغيرها، كما أن قوارب الموت لم تغادر مرافئها مع أيلان كردي يوم أمس، إذ أن كل ذلك مستمر منذ أربعة سنوات ونصف على مرأى ومسمع منا ومن العالم، فلماذا استيقظ الحس الإنساني للعالم فجأة، على حين غفلة؟
هناك ثلاثة أحداث رئيسية، مختلفة، تجري هذه الفترة:
– التركيز الإعلامي الكثيف على قضية المهاجرين السوريين، واللاجئين كامتداد لها، وتحويل الثورة السورية، من خلالهم إلى قضية إنسانية، بعيدا عن أسباب لجوئهم وهجرتهم، مما قد ينسي السبب الرئيسي الذي دفع السوريين للهجرة، وهو القصف والقتل والمجازر على يد النظام، وتجاهله.
– فتح الأبواب على مصراعيها أوروبيا، والتسهيلات الأشبه بالدعوات للسوريين ليأتوا إلى الفردوس المنتظر، في طريق ذي اتجاه واحد، إما إلى أوروبا، أو إلى السماء.
– التغيير الديموغرافي الكبير، والعلني، الذي يجري في سوريا، سواء: من داخلها عبر الانتقالات المفروضة بالتهجير والإكراه والمفاوضات – كما في الزبداني، وتل أبيض، ومشاريع الاستيطان في المزة وحمص، وإجبار السكان على مغادرة سكنهم.- ، أو من خارجها عبر هجرات المتطوعين الشيعة أوالمهاجرين إلى داعش.
وتتزامن هذه الأحداث الثلاثة مع عمليات ثلاث جارية كذلك:
– تكثيف للعمليات العسكرية والقصف والمجازر سواء من قبل النظام أو داعش، بشكل أشبه بالتهجير والطرد، وليس مجرد عمليات عسكرية أو عقاب جماعي، كما كان الأمر بداية الثورة.
– وصمت غير مسبوق من المجتمع الدولي، وبدء في الحديث عن حل سياسي يحفظ النظام والجيش والقوى الأمنية، ضمن خطة المبعوث الأمم ستيفان دي ميستورا الداعية لإزالة الأسد، وإبقاء مؤسساته.
– تصاعد للهجرات في الاتجاهين: من سوريا وإليها؛ لا يمكن أن يتم إلا بتسهيلات من داخل سوريا وخارجها.
لترتبط كل هذه الأحداث بثمن رئيسي للاتفاق النووي الإيراني – الذي أعاد ربط الشرق بالغرب، وغير المعادلات الجيوسياسية -: وهو سوريا، الأرض تحديدا؛ إذ أبدى الغرب استعداده لأن يصمت على انتهاكات الأسد، مقابل توفير الامتداد الاستراتيجي لإيران في المنطقة، وتحقيق ما أسماه العميد قاسم سليماني، قائد فيلق القدس المسؤول عن العمليات العسكرية في الحرس الثوري الإيراني بـ “الهلال الشيعي”، الممتد من طهران إلى بيروت، عبر بغداد، وفي قلبه دمشق، التي أرسل إليها مليشياته ومتطوعيه من كل أنحاء العالم.
ما يجري في سوريا اليوم ليس مجرد إعادة تأهيل للأسد، وحسب، باعتباره جزءا من الحل؛ لكنه إعادة تأهيل لسوريا نفسها، وتحويلها من دولة وطنية – مرتبطة بسكانها وكامتداد لهم – إلى دولة وظيفية تخدم – بأرضها ودماء سكانها – غايات أكبر إقليميا وعالميا.
تشبه الحالة التي تجري في سوريا ما جرى في فلسطين بداية القرن الماضي، عبر السردية الصهيونية الشهيرة: أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض؛ وهو ما عمل النظام الدولي – ممثلا بانتداب بريطانيا لفلسطين، واللوبيات الصهيونية في أمريكا -، على تحويلها لواقع، عبر عمليات التهجير الممنهجة، ونقل الفلسطينيين إلى الدول المحيطة، مع تحويل الحرب الفلسطينية من مجلس الأمن إلى الأونروا!
هل يعني هذا أن هناك شعبا سينتقل إلى سوريا بعد “تفريغها” الممنهج، وتغيير ديموغرافيتها؟ لا، طبعا ..
لكن الأمر بنصفه الأول حقيقي عبر تحويل سوريا، الأرض، إلى محرقة لكل الأفراد الذين قد يفكرون بتغيير للنظام العالمي أو مواجهته، من خلال تسهيل هجرتهم إلى سوريا، من ناحية، وتوفير امتداد جغرافي وعمق ديمغرافي وموارد اقتصادية وحكم سياسي فعلي للهيمنة الإيرانية يمكنها الاستفادة منها مقابل صمت الغرب عما يجري في سوريا وضرب مشروعها الممتد من العراق إلى لبنان – وعمقه سوريا -؛ من ناحية أخرى، ثم ضرب المشروعين الهوياتيين – السني حتى أقصاه، والشيعي حتى أقصاه – ببعضهما البعض في الأرض السورية، التي ستتحول لميدان حرب تستنزف البلاد والعباد لعشرات السنين القادمة، وتريح الغرب خلالها كذلك.
إذا، فليست دعوات الصبر والصمود داخل سوريا أو فتاوى تحريم الهجرة – الجماعية – إلى أوروبا نوعا من الترف الإنساني أو الفكري أو عدم تقدير الواقع – على صعوبة الأوضاع وتعقدها وعسرها لمن هم داخل سوريا وخارجها -؛ لكنها ببساطة ثغور، تاريخية ومكانية، إن لم تُملأ بأهلها وسكانها – الذين وإن غادروها لحظيا، كانوا سيعودون لها يوما -، ستملأ بالغرباء المستوطنين الذين سيملؤون هذه الفراغات التي تركت للأبد، هجرة أو شهادة.
والله غالب ..