يترقب المتابعون للشأن السياسي التونسي عقد مؤتمري الحزبين الأكثر تمثيلًا في البرلمان؛ مؤتمر تأسيسي لنداء تونس ومؤتمر استثنائي عاشر لحركة النهضة التونسية.
مؤتمران طال انتظارهما خاصة مع التأثير المتوقع لمخرجاتهما على الوضع السياسي في تونس، فالأول سيحدد للحزب الفائز في الانتخابات هوية سياسية واضحة وموازين قوى حقيقية للتيارات المختلفة التي ضمنه، والثاني سجيب عن أسئلة التقييم لكل الفترة الماضية وسيحدد إجماعًا جديدًا حول هوية الحزب وخطه السياسي ونظرته للمستقبل.
وحتى وقت قريب، لم يكن لمؤتمر النهضة وقع داخلي واضح، فعدا بعض التصريحات الصحفية المتفرقة من هنا وهناك خاصة من طرف رئيس لجنة الإعداد المضموني للمؤتمر، ظل المشهد غامضًا غير مهيأ لتعداد وجهات النظر من القضايا الأساسية المطروحة ومن يتبناها من الجسم القيادي.
ورغم أنه لم يقع إلى الآن الحسم في تاريخ عقد المؤتمر، بل إن بعض القراءات تلمح لاستحالة تنظيمه خلال سنة 2015، بدأت بعض التحركات “ما قبل المؤتمرية” في التجلي من خلال التمايز الذي لوحظ في تصريحات بعض القيادات النهضوية من بعض المسائل وأهمها رهانات المؤتمر والموقف من قضية “التونسة”.
وفي الحقيقة، يعود لفظ التونسة في السياق الحديث لفترة ما بعد الثورة، عندما حلت النهضة بعد طول غياب رسمي وتمكنت من قيادة التحالف الحكومي الذي انبثق من المجلس التأسيسي الذي سهر على صياغة الدستور، إذ ركز معارضوها سواء خلال الحملة الانتخابية أو خلال فترة حكمها الأولى على أن هذا الحزب غريب عن تونس، أدبياته مشرقية، ويحتاج تبيئة لأفكاره حتى يسهل التعامل معه على أرضية الوفاق الوطني، إضافة للتشكيك في منسوب الديمقراطية في فكره والدعوة لأن يتشربها أكثر فأكثر.
مع تنظيم الانتخابات الثانية وحلول النهضة ثانية وتزامن ذلك مع ارتفاع مدى موجة الثورة المضادة، تشكل بوضوح رأي داخل النهضة يؤمن بأن الحزب يحتاج انفتاحًا تنظيميًا وتجديدًا على مستوى الخطاب والفكر أكثر مما مضى، خاصة بعد الوقوف على تجربة الحكم واكتشاف منطق الدولة، بل مضى البعض لاعتبار أن الحزب الذي يريد أن يحكم يجب أن يظفر بأوسع مساحة ممكنة من الوسط، فالركون إلى اليمين كما اليسار في مثل الحالة التونسية قد يجعل منك حزب فئة أو أيديولوجيا، ولكن لا يمكن أن يجعل منك حزب حكم، والظفر بالوسط يحتاج “تبيئة للفكرة” وانفتاحًا على المجتمع، لا فئة منه.
نحوالحزب الوطني الجامع
الدكتور رفيق عبد السلام، مسؤول العلاقات الخارجية في حركة النهضة ووزير الخارجية التونسية الأسبق، وفي حديثه عن النهضة المنشودة ما بعد المؤتمر، يرى أن المقولات الكبرى التي تأسست عليها التيارات الإسلامية منذ عشرينات القرن الماضي، في طريقها إلى أن تستهلك ما تبقى لديها من طاقة دفع، وما عادت تسعف في حل المشكلات الراهنة، ومن هنا تتأتى أهمية المراجعة الفكرية والسياسية وفتح دروب التجديد والإبداع استكمالاً لمسار الحركة الإصلاحية الإسلامية عامة، والتونسية خاصة.
ويتابع عبد السلام في مقال اختار له كعنوان “هل تتطور حركة النهضة باتجاه حزب وطني مفتوح”، أن اتجاه التطور المستقبلي في تونس، وربما الرقعة الإسلامية الأوسع ليس نحو الأسلمة ولا العلمنة، بل نحو القضايا العملية التي تشغل الناس في أحوالهم ومعاشهم، فتجارب الأسلمة أو العلمنة الشمولية في منطقتنا قَد وصلت إلى طريق مسدود ولم تعد ملهمة أو قادرة على حل المشكلات الراهنة، أي أن السرديات الكبرى للهوية سواء كانت متمحورة حول أيديولوجيا العلمنة أو الأسلمة لن تمثل جاذبية للأجيال الراهنة والقادمة، فضلاً عن كونها ما عادت تثير تلك المساجلات والمجادلات الكبرى التي أثارتها في القرنين الماضيين.
ويعتبر عبد السلام أن ما هو مطلوب اليوم هو أن تتطور الأوعية التنظيمية والهيكلية للنهضة من الطبيعة الصفوية الانتقائية للأفراد إلى الحزب الوطني المفتوح الذي يستوعب كل الطاقات الوطنية على اختلاف مواقعها ومشاربها، وهذا الأمر يقتضي تجسير الهوة الفاصلة بين التنظيمي والسياسي، حتى يكون هناك انسجام وتناغم على النحو المطلوب، وفق تعبيره، ويصبح الوعاء التنظيمي في خدمة الأفكار والسياسات، ويعتبر أن حركة النهضة مازالت تشكو من وجود هوة فاصلة بين السياسي والتنظيمي، بل في الكثير من الأحيان يتحول الجهاز التنظيمي صانعًا للسياسات بدل أن يكون منفذًا لها.
حركة النهضة لا تحتاج لأن تبرهن على تونسيتها
على صعيد آخر، يرى عبد الحميد الجلاصي، نائب رئيس حركة النهضة، أن النهضة تونسية منذ نشأتها ولا تجد نفسها مضطرة لكي تبرهن على تونستها في كل مناسبة، إذ يعتبر النهضويون أبناء المدرسة التونسية وهم الذين صاغوا مضامينها، ويستشهد باهتمامها منذ نشأتها بالعمل النقابي وبقضية المرأة، ويعتبر أن الاهتمام راجع لأنها ولدت في بيئة تونسية قد ترفضها أو تنقدها ولكنها بالتأكيد تتفاعل معها وتتأثر بها.
ويقدر الجلاصي أنه يوجد تحول تدريجي داخل النهضة من ثقافة الاحتجاج إلى ثقافة البناء، وينتظر من هذا المؤتمر إعطاء دفع للتقدم في هذا الاتجاه، باعتبار أن التغير بالنسبة للحركات هي عملية يومية وحركة النهضة تغيرت كثيرًا في طواقمها البشرية وفي فلسفتها ومضمونها ومواطن التركيز فيها، وفق تعبيره.
الغنوشي: هناك اتجاه نحو مزيد من التونسة
من جهته، يقول الغنوشي، رئيس النهضة بأن هناك اتجاه كبير داخل الحركة نحو التطور ومزيد من التونسة بحيث تتفاعل مع محيطها ولا تشعر بأنها وصلت إلى المنتهى بعد، وهو ما يتطلب مزيدًا من الانفتاح.
والمتابع لتحركات الغنوشي الأخيرة، يلاحظ أن على مستوى رئاسة الحركة على الأقل، هناك بحث عن تغيير تلك الصورة النمطية التي تعلقت بالنهضة، فتارة يمارس رياضة كرة القدم مع شباب حزبه، وطورًا يشجع المنتخب الوطني من مدرج ملعب رادس بالعاصمة، ومؤخرًا كان أحد حضور حفلة لطفي بوشناق في مهرجان الحمامات الدولي بل وقدم له باقة ورود.
اتفاق على ضرورة التغيير والتطوير
مما سبق، ورغم اختلاف الرؤى والتعابير، يظهر جليًا الإجماع حول ضرورة التغيير والتطوير وهو أمر إيجابي سيعود بالنفع على تونس والنهضة نفسها، فتحسس الضرورة سيؤدي في النهاية إلى جملة من الإجراءات التي ستساير عملية انتقال الحزب الإسلامي من طور الاحتجاج إلى طور البناء.
وبالنظر إلى ما تثيره بعض المفردات من أزمة مفاهيمية داخل النهضة، التونسة مثالاً، سيكون من المجدي بذل الجهد بهدف استنباط حقل دلالي قابل لخلق حالة من الإجماع حوله، فلا قيمة للفكرة إن لم تنجح في تعبئة الجسم التنظيمي من أجل تحقيقه؛ البعض يرى أن التونسة لا ضير فيها، البعض الآخر يرى أن تبني هذا اللفظ سيقيم الدليل على أن النهضة كانت تعاني من غربة جغرافية زمنية، رغم أن كلاهما يتفق على ضرورة التطوير، وهو ما يحيلنا إلى ضرورة الاتفاق حول بعض المفاهيم باعتباره أول خطوة نحو الإصلاح.
من جهة أخرى، في عالم الكمبيوتر، تعتبر عمليات تطوير النظم الإعلامية العتيقة أصعب المهمات وأجزلها دخلاَ في الآن ذاته، خاصة إذا ما تعلق بحريف مهم يتعامل مع آلاف العملاء حصلهم على مر السنوات واعتمد في فترة أولى على تكنولوجيا باتت غير صالحة في وقتنا هذا.
مثل هذه المشاريع تحتاج خارطة تنفيذ دقيقة تضمن عملية التطوير السلس بكيفية تضمن عدم انهيار نظام المعلومات القديم لأنه في قلب العملية التجارية وبدونه يتوقف كل شيء، فيكون التطوير جزئيًا على مر سنوات إلى حين الوصول إلى لحظة التخلص التام من القديم والاعتماد الواثق على الجديد.
في ذات السياق، من المعلوم أن كل تكتل بشري يحمل هوية والهوية هي جماع فكر وذهنية وسلوك ووعي، ورغم عدم وضوح النظام الحديث الذي ننشده في مجتمعاتنا الضيقة أو الموسعة، إلا أن أغلب الأطروحات التي تقدم كبديل تظل قاصرة باعتبارها تجتمع في غياب خطط التنفيذ الذي يضمن التواصل والتغيير التدريجي.
الكيانات الاجتماعية تتشكل هويتها في سنوات، ويحتاج صقلها إلى سنوات أيضًا، والأهم من ذلك كله هو أنها تحتاج إلى هندسة سوسيولوجية شبيهة بهندسة الكمبيوتر التي تفكك الكل وتعالج الأجزاء تدريجيًا، وكل طرح لا ينطلق من هذه المسلمة هو محض تنظير لن ننجح في تثبيته، كأغلب المشاريع التي ظلت حبيسة الرفوف، ومن المهم أن يتفطن رواد الإصلاح في النهضة لهذه النقطة أيضًا حتى لا يكونوا إزاء تنظير أجوف.