الشركات الألمانية تنظر إلى اللاجئين كفرص سانحة لتعزيز الاقتصاد

image-889260-galleryV9-shlw

ترجمة وتحرير نون بوست

سعيد الهاشمي مضرج بعرقه، فلقد أمضى الساعتين الماضيتين في إعادة تنظيم غرفة المستودع بجوار المكتب، حيث كان يقوم بتجميع الخزانات المعدنية وتحريك الصناديق من وإلى الغرفة.

الشاب البالغ من العمر 18 عاماً من أفغانستان، انخرط في برنامج تدريبي منذ عام تقريباً ليعمل في مصلحة تركيب شبكات الصرف الصحي والتدفئة مع شركة هيزونغ أوبريمر (HEIZUNG-OBERMEIER)، وهي شركة تدفئة تقع في وسط مدينة ميونيخ القديمة، ووفقاً للهاشمي فإن العمل ليس مملاً البتة، “أحب زملائي بالعمل، وغالباً ما أمارس عملي ضمن مواقع البناء” يقول الهاشمي الذي اضطر للخوض في رحلة طويلة للوصول إلى حيث هو اليوم.

الهاشمي هو الأخ الأكبر من عائلة مؤلفة من أربعة أخوة، توفي والده في خضم الحرب في أفغانستان عندما كان عمره 15 عاماً، وفرّ حينها الهاشمي من جلال أباد في شمال شرق أفغانستان، وشرع في رحلة لمدة خمسة أشهر للوصول إلى ميونيخ، حيث طار من كابول إلى طهران، ومن هناك سافر مشياً على الأقدام أو بالحافلة عبر تركيا واليونان وإيطاليا قبل أن يصل إلى ألمانيا، سواء ضمن مجموعات أو مسافراً لوحده، وبالمجمل أتم رحلة يبلغ طولها أكثر من 6000 كيلومتر بدون عائلته.

بعد وصوله إلى ميونيخ، بدأ بتلقي المساعدات من مكتب رعاية الشباب المحلي، وكأجنبي، كان من الصعب عليه التأقلم في بداية الأمر، “كنت لا أستطيع أن أفهم أي شخص”، يقول الهاشمي، الذي يتحدث الآن الألمانية بطلاقة، وبعد تخرجه من المدرسة الثانوية الدنيا بمعدلٍ عالٍ، أكمل دورة تدريبية باختصاص دهان السيارات، وبعد ذلك انضم إلى دورة تدريبية ثانية في هيزونغ أوبريمر، حيث تم منحه فرصة مهمة العام الماضي، “إن كان يرغب بذلك، يمكنه أن يستمر بالعمل هنا حتى يصبح رئيس عمال”، يقول صاحب العمل أولاف زيمرمان.

نرحّب بالأشخاص من جميع الألوان

قبل عامين، لاحظ زيمرمان بأن توظيف العمال المهرة وذوي الكفاءات العالية أصبح أمراً صعباً بشكل متزايد، حيث سبق له توظيف عمال من بلدان أخرى في ذلك الوقت، “لقد كان لدينا موظفين من جميع أنحاء أوروبا، الأشخاص من جميع الألوان هم موضع ترحيب هنا” يقول زيمرمان، ويتابع “تركيزنا ينصب فقط على العمل، وأي شيء آخر ليس له أهمية”.

يقول زيمرمان، الذي يشغّل حالياً اثنين من المهاجرين في شركته، بأن المشاكل التي يواجهها تتمثل بالبيروقراطية الألمانية، فهو، على سبيل المثال، لا يعرف إن كان سيُسمح للهاشمي بالبقاء في ألمانيا بعد أن يكمل تدريبه.

الهاشمي هو واحد من آلاف الأطفال الذين تتقطع بهم السبل داخل ألمانيا عاماً إثر عام، حيث غالباً ما يتم إرسال هؤلاء الشباب من قبل ذويهم على أمل أن يجدوا حياة أفضل، وليحصلوا على تعليم جيد، وليكونوا على استعداد أفضل للمستقبل، عدد هؤلاء المراهقين الشباب كان يقدر بـ5000 شخص في عام 2013، وفي هذا العام أكثر أصبح عددهم ينوف عن الـ10.000 شخصاً، وأعدادهم آخذة في الازدياد باطراد كبير، جنباً إلى جنب مع اطراد الأرقام الإجمالية لملتمسي اللجوء والمهاجرين واللاجئين، حيث تتوقع الحكومة الألمانية أن يصل عدد طالبي اللجوء لديها في هذا العام وحده إلى 800.000 لاجئ.

التدفق الهائل لأعداد المهاجرين الأجانب يخلق تحديات جمة في وجه المجتمع الألماني، فالعديد من السلطات المحلية تعاني من تكدس الملفات، وبيوت اللاجئين والمساكن المؤقتة ترزح تحت وطأة الازدحام الشديد، وتواجه ميزانيات نظام الرعاية الاجتماعية والحكومة تكاليفاً إضافية تقدر بالمليارات.

الجانب المشرق بالنسبة لألمانيا

لكن تدفق الوافدين يوفر أيضاً فرصاً للاقتصاد الألماني، فعلى الرغم من أن رقم البطالة الرسمي يقارب الـ2.8 مليون شخصاً، بيد أن مجتمع الأعمال مازال في حاجة ماسة للعمالة، وكل لاجئ أو مهاجر ينخرط في سوق العمل سيخفف من استنزاف الخزينة العامة، وبشكل عام، الاقتصاد الألماني يعتمد على الهجرة، سواء من أوروبا، أو الهجرة القائمة على طلب حق اللجوء في ألمانيا، ومع تقلص عدد السكان الألمان، تطرد معاناة الشركات من عدم قدرتها على ملء العديد من شواغر العمل، والعمال المتخصصين يصبحون قطعاً نادراً على نحو متزايد، وهذا المنحنى لن يزداد إلا اطراداً وتفاقماً في السنوات القادمة، كون التنمية هي التي تقوض ازدهار البلاد المستقبلي.

في الواقع ألمانيا كانت بلد هجرة منذ منتصف ستينيات القرن المنصرم، وتبدى ذلك من خلال تجاوزها لعتبة المليون عامل أجنبي، ولكن مع ذلك، فإن البلاد لا زالت تفتقر إلى وجود قانون هجرة معاصر؛ لذا باشرت ألمانيا باتخاذ إجراءات للاستفادة من مهارات العمال القاطنين بالبلاد، وفي الأشهر الأخيرة، عدّلت الحكومة مراراً وتكراراً المراسيم والأحكام القانونية لتيسير إدماج طالبي اللجوء واللاجئين في سوق العمل.
ولكن على الرغم مما تقدم، فإن إيجاد أشخاص من أمثال يعقوب سوساني لفرصة عمل في السوق الألمانية ما يزال من الأمور النادرة على الغالب؛ فالسوساني كان يعيش حياته كمواطن سوري في العاصمة السورية دمشق، ويمتلك صالوناً لتصفيف الشعر، ويوظف خمسة موظفين ضمن هذا المحل الذي تبلغ مساحته 70 متراً مربعاً، كما يمتلك شقة وسيارة ومركزاً اجتماعياً مقبولاً، ولكن كل ما تبقى من حياته السابقة هو الإصابة بالظهر التي يعاني منها نتيجة لهجوم بقنبلة متفجرة.

هرب السوساني من الحرب الأهلية السورية، واستغرقت ملحمة رحلته التي بدأت من لبنان مروراً بتركيا واليونان وإيطاليا خمسة أشهر حتى وصل أخيراً إلى دريسدن، وبقي والده واثنين من أشقائه في دمشق، أما ما حصل لبقية أخوته فهو أمر لا يرغب السوساني بالافصاح عنه.

نقص متزايد في العمالة

مساء الخميس كان يوماً مزدحماً في صالون الشعر الصغير في حي فاينر العصري في دريسدن، حيث يقف سوساني بحواجبه السوداء الكثة خلف أحد كراسي تصفيف الشعر، ويضع بدقة وتأنٍ الصبغة الشقراء على جذور شعر أحد الزبائن، فبعد أن عاش أكثر من عام في ألمانيا، باشر سوساني عمله منذ شهر في هذا الصالون الذي يصفه بأنه “صالون شهير”.

استطاع سوساني إيجاد منزل جديد، عبارة عن شقة، وعمل في دريسدن، “لم أكن أعتقد بأن أحداً سيقوم بتوظيفي” يقول سوساني، ولكن الشاب البالغ من العمر 31 عاماً كان محظوظاً عندما قام أحد جيرانه، الذي تصادف بكونه أيضاً من سورية، بإخبار مالك الصالون كريستوف شتينغن حول سوساني، وبعد أسبوع فقط من تجربته، عرض شتينغن فرصة العمل على سوساني.

يعمل سوساني اليوم في الصالون لمدة 20 ساعة في الأسبوع، ويحضر مدرسة لتعلم اللغة الألمانية في الصباح، حيث أفادنا بأنه أجاب بشكل صحيح على 80% من الأسئلة في آخر اختبار قام بتقديمه، أما بالنسبة للمالك شتينغن فإنه يرى بأن سوساني ماهر حقاً، ويضيف قائلاً “انتقادي الوحيد يتمثل بوجوب قيامه بجعل تصفيفاته أقل عصرية مما هي عليه الآن”.

صنعة تصفيف الشعر ليست الصناعة الوحيدة التي تعاني من نقص في العمال المؤهلين، حيث يوجد حالياً حوالي 46 مليون شخص في سن العمل في ألمانيا، وهؤلاء من الناحية النظرية مؤهلون للعمل، ولكن بدون العمالة الوافدة سينخفض هذا العدد إلى أقل من 29 مليون خلال حوالي 30 عاماً، وحتى لو تم رفع سن التقاعد إلى الـ70 عام، وافترضنا وجود عدد مماثل من النساء والرجال ضمن القوة العاملة، فإن مجموع القوى العاملة لن يزيد خلال هذه الفترة إلا بنسبة 4.4 مليون عامل.

الصورة العليا تبين حجم سوق العمل في ألمانيا، ويتوضح من العمودين اللذان يقعان على اليسار بأن عدد الوظائف الشاغرة ارتفع من 391.000 وظيفة شاغرة في يوليو عام 2011 إلى  589.000 وظيفة شاغرة في يوليو 2015،  ويتوضح من العمودين اللذان يقعان على اليمين بأن عدد الدورات التدريبية الشاغرة ارتفع من 19.600 دورة شاغرة في سبتمبر 2011 إلى 37.100 دورة شاغرة في سبتمبر 2014، أما الصورة السفلى فتبين توقع حجم قوى العمل، حيث يتوضح من الدائرة اليسارية بأن حجم قوة العمل كان في عام 2011 يبلغ 45 مليون عامل، وتوضح الدائرة اليمينية أنه من المتوقع أن ينخفض هذا العدد إلى 26 مليون عامل في عام 2030 إذا استثنينا العمالة الوافدة.

انخفاض القوة العاملة سيُترجم إلى انخفاض في عدد الأشخاص الذين يمولون صناديق أنظمة التقاعد والتأمين الصحي، فضلاً عن انخفاض عدد الأشخاص المستهلكين والمنتجين للبضائع في السوق الألمانية، وانخفاض في عدد دافعي الضرائب الذين يدفعون نفقات المدارس وبناء الطرقات، كما أن انخفاض القوة العاملة يمكن أن يُترجم ببساطة إلى احتماليات انخفاض النمو وتدني مستوى الرفاهية.

بطبيعة الحال، وفي ضوء التطور التكنولوجي ورقمنة الحياة، يصعب التنبؤ بمتطلبات القوى العاملة في المستقبل، ولكن مع ذلك، فإن الدراسة التي أجرتها مؤسسة برتلسمان حول النتائج المترتبة على الهجرة خلصت في جميع السيناريوهات التي فحصتها، إلى أنه لا غنى لألمانيا عن الاعتماد على الهجرة، ويوضح ذلك لوتز شنايدر من جامعة كوبورغ للعلوم التطبيقية، الذي فحص النتائج التي خلصت إليها دراسة مؤسسة برتلسمان، بقوله “إذا انخفضت معدلات الهجرة الصافية إلى حد كبير، فإن شيخوخة المجتمع ستخلق مشاكل مستعصية لنظم الضمان الاجتماعي والميزانية الوطنية الألمانية”.

العلة الألمانية

لن تكون ألمانيا قادرة على الوفاء باحتياجات سوق عملها من خلال الاعتماد على سوق العمل الأوروبي، الذي يسمح بحرية تنقل العمال داخل الاتحاد الأوروبي فقط؛ فحالياً، معظم المهاجرين يأتون من داخل دول الاتحاد الأوروبي، وازدادت أعداد هؤلاء الوافدين في السنوات الأخيرة خصوصاً بسبب توسع الاتحاد الأوروبي شرقاً، والأزمة الاقتصادية التي يعاني منها بلدان الجنوب الأوروبي، ولكن هذا الوضع لن يستمر إلى الأبد.

“مع تعافي اقتصاد البلدان التي تعاني من الأزمة، سنشهد تراجعاً في هجرة العمال من دول الاتحاد الأوروبي ضمن المدى المتوسط”، يقول شنايدر، وبالإضافة إلى ذلك، فإن جميع الدول الأوروبية تعاني من ذات العلة الألمانية، التي تتمثل بتقلص عدد سكانها بالتلازم مع شيخوخة الشعب وعدم توافر اليد العاملة الفتية، ويتوقع الخبير الاقتصادي شنايدر بأن المتوسط السنوي لعدد المهاجرين من دول الاتحاد الأوروبي سينخفض إلى 70.000 بحلول عام 2050، ويضيف قائلاً “لهذا السبب ستكون ألمانيا أكثر تعويلاً على العمالة الوافدة من بلدان العالم الثالث في المستقبل، هؤلاء الذين يأتون الآن إلى ألمانيا بالمقام الأول بصفة اللجوء”.

لا تقتصر احتياجات ألمانيا على الأكاديميين المؤهلين تأهيلاً عالياً، بل تحتاج أيضاً لأفراد مدربين بمستوى متوسط أو منخفض من المؤهلات، حيث تم فتح نحو مليون وظيفة للأجانب في السنوات الأربع الماضية في المجالات التي لا تتطلب أي تدريب رسمي، كموظفي الدعم في مجالات الرعاية التمريضية والمطاعم والزراعة، وعدد الوظائف الشاغرة يطرد باستمرار، ملامساً أرقاماً فلكية وصلت إلى 600.00 شاغر في يوليو الماضي.

تجار الصفقات المهرة باشروا بالفعل جهودهم لتشغيل اللاجئين والمهاجرين، فعندما لا يكون كريستوف كارمان يجلس خلف مكتبه في وسط مدينة ميونيخ، تراه يحط الرحال ضمن المدارس المهنية، حيث يتواجه مع شباب مهاجرين يحملون العديد من الأسئلة، “ماذا يمكنني أن أفعل، وما هي الفرص التي أمامي؟ وكيف يعمل نظام تدريب المدراس المهنية في ألمانيا؟” هي بعض الأسئلة التي يوجهها هؤلاء الشباب.

وباعتباره واحداً من أصل شخصين يقومان بترشيح المتدربين لغرفة التجارة والصناعة في ميونيخ وبافاريا العليا، يضع كارمان اللاجئين والمهاجرين ضمن شركات تتمتع بمراكز تدريبة شاغرة؛ فشركات العمالة اليدوية في بافاريا على سبيل المثال، تحتاج بشكل ملح لمتدربين وعمال، وفي ربيع هذا العام، وجهت غرفة التجارة كتاباً إلى 7000 شركة في بافاريا تسألهم عمّا إذا كانوا يرغبون بتوظيف أشخاص من اللاجئين، ورداً على ذلك، تلقت الغرفة عروضاً لـ1200 موقع في هذه الشركات ضمن البرامج والمنح التدريبية.

لمعالجة حالة النقص الهائل في أعداد الموظفين المهرة، تحث الشركات والاتحادات التجارية صناع القرار الألمان للاستفادة بشكل أفضل من إمكانات اللاجئين والمهاجرين الذين يعيشون في ألمانيا، وشركة دايملر كانت أول شركة كبرى تناشد المشرعين للسماح للاجئين بالشروع بالعمل بعد شهر واحد من الإقامة في البلاد.

“إننا نهدر وقتاً ثميناً عندما نحكم طالبي اللجوء بالكسل ونحظر عليهم العمل أثناء معالجة طلبات اللجوء”، يقول إنغو كرامر، ويتابع كرامر، رئيس اتحاد نقابات أصحاب العمل الألمانية، موضحاً بأنه يجب تغيير القواعد بحيث لا يتم تهديد طالبي اللجوء والمهاجرين بالترحيل الفوري، وبحيث تُتاح لهم فرصة الوصول بشكل أسرع إلى سوق العمل.

التدخل المبكر

برنامج “التدخل المبكر” هو المشروع النموذجي الذي باشرته وكالة التوظيف الاتحادية منذ بداية عام 2014، ويهدف إلى إدماج اللاجئين والمهاجرين في سوق العمل في أقرب وقت ممكن، ويعمل المشروع على تحديد الكفاءات والأدوات والموارد الإضافية التي يحتاجها اللاجئون والمهاجرون لأداء عملهم بأكبر قدر ممكن من الفعالية،  ويتضمن زيارة الكشّافة المخضرمين  لـ12 موقعاً في ألمانيا لتحديد اللاجئين المدربين تدريباً جيداً، في محاولة لضمهم إلى سوق الأعمال التجارية.

هانيغريت ديب تجلس خلف مكتبها في وكالة التوظيف الواقعة في ديتمولد شمال غرب ألمانيا بالقرب من بيليفيلد، ورتبت اليوم لموعدين مع عميلين من اللاجئين الذين تم اقتراحهم لوكالتها، أحدهما هو برانكو ناستاسيتش، الذي عمدنا لتغيير اسمه لحماية خصوصيته، من صربيا، حيث كان يعمل هناك في إدارة أحد المقاهي، بالإضافة إلى عمله كعامل بناء.

ديب تتابع ناستاسيتش من خلال برنامج كمبيوتر خطوة بخطوة، فهو يعلم كيفية تثبيت الألواح الجصية، ولكنه لا يعرف كيفية تثبيت النوافذ أو كيفية القيام بالأعمال الكهربائية، وديب تستخدم هذا البرنامج للتعرف على العمال الملائمين لزبائنها من أصحاب العمل، كما أنها تساعد اللاجئين والمهاجرين في التقدم للوظائف، من خلال مساعدتهم على كتابة الرسائل لأرباب العمل المحتملين وإعداد سيرهم الذاتية.

كلمة “أهلا وسهلاً” تظهر على لافتة تم تعليقها على حائط مكتب ديب بلغات عديدة، وإلى جانبها لافتة كُتب عليها “إبق هادئاً، الهجرة رائعة”، بدأت ديب بعملها التطوعي لصالح منظمة العفو الدولية في سن الـ16، وبينما كانت تدرس في كلية الحقوق عملت الشابة، التي تبلغ من العمر الآن 41 عاماً، ضمن مكتب محاماة متخصص في القضايا المتعلقة بقانون اللجوء وحقوق الأجانب.

توظيف المهاجرين

تعمل ديب على إيجاد فرص العمل للاجئين والمهاجرين ضمن الشركات منذ أوائل مارس المنصرم، وتتضمن الإجراءات التي تتخذها منذ وصول طالب اللجوء إلى مكتبها للمرة الأولى، جمع بعض المعلومات الأساسية عنه، كالشهادة التي يحوزها المتقدم، نوع التدريب الذي حصل عليه في بلده الأصلي، ووظيفة الأحلام التي ينشدها، وتشير ديب بأن أغلب الأشخاص الذين يتقدمون لمكتبها يعانون من عوائق في مساراتهم الوظيفية بشكل أكبر من المتقدمين الألمان.

ديب تساعد من خلال وكالتها نحو 50 لاجئ حالياً، معظمهم من سورية والعراق ولبنان، ولكنها لم تتمكن من تأمين عمل إلا للقليل من هؤلاء حتى الآن، طباخ من لبنان، عاملان في صناعة التنجيد من منغوليا، وفني في طب العيون من مقدونيا.

عدم تمتعهم بمهارات اللغة الألمانية هي أكبر عقبة تواجه اللاجئين والمهاجرين في سوق العمل، علماً أن تعلم اللغة الألمانية ضمن دورات الاندماج المدعومة من الحكومة، يتطلب حصول اللاجئين والمهاجرين على إقامات قانونية في البلاد، وعلى الرغم من أن طالبي اللجوء واللاجئين الذين لا يواجهون خطر الترحيل يحق لهم طلب المساعدة من مراكز التوظيف بغية انخراطهم بسوق العمل، بيد أنهم في هذه الحالة لا يحق لهم حضور دورات الاندماج، وهذا بدوره يمنع مراكز التوظيف من إيجاد عمل لهم ضمن سوق العمل؛ مما بات يشكّل حلقة مفرغة تعاني منها وكالات التوظيف واللاجئين القادرين على العمل على حد سواء.

الهجرة في ألمانيا يحكمها حالياً قانون الهجرة الألماني، ولكن حتى الألمان، ممن لا يحوزون شهادات الحقوق، يجدون صعوبة في فهم خليط القوانين والمراسيم الفردية التي تنظم الجسد القانوني للهجرة، لذلك يصبح غنياً عن البيان بأنه لا يوجد سبيل أمام الأجانب لاستيعاب وفهم التنظيم القانوني للهجرة في ألمانيا.

كتيب “نظرة عامة حول مساعدة طالبي اللجوء واللاجئين” الصادر عن وكالة التوظيف الاتحادية، يتوفر على شكل جدول إكسل، ويسرد هذا الكتيب 17 نوعاً مختلفاً من إذون الإقامة، تصاريح الإقامة، والاعفاءات التي يتمتع بها اللاجئون والمهاجرون في ألمانيا، وتحت كل بند، يوجد أنظمة مختلفة للطريقة التي يُسمح بها للاجئين والمهاجرين بالعمل، وأنظمة مختلفة لدورات المساعدة التي يحق لهم حضورها، فضلاً عن اختلاف الأحكام تحت البنود الفرعية للظروف التي يحق لهم بها الحصول على قروض الطلاب، وإعفاءات الأطفال والبدلات الأبوية، وعدد الأشهر أو السنوات التي يجب عليهم أن يقضوها في ألمانيا لاستحقاق هذه الأحكام، وبالإضافة إلى ذلك، يفرض هذا التنظيم على اللاجئين استمرار القيام برحلات مكوكية ذهاباً وإياباً بين وكالات التوظيف ومراكز العمل، وكل ما تقدم يثقل كاهل الحكومة وموظفيها من ناحية الوقت والمال والصبر، فضلاً عن هدر مال ووقت وصبر المهاجرين واللاجئين.

ماهرون للغاية

تقدمت ليلى مقدم بطلب اللجوء في أكتوبر 2013، واضطرت للانتظار بعدها لتسعة أشهر قبل أن يُسمح لها بحضور دورة في اللغة الألمانية، واليوم تقف المواطنة الإيرانية الأصل أمام أرغفة الخبز الكبيرة وكعكات الشوكولاتة، حيث تبدأ عملها بالعجن والخبز والتزيين ابتداءاً من الساعة الثالثة والنصف صباحاً، قبل أن يبدأ يوم عملها في مخبز ويبلر في الساعة السادسة صباحاً.

تمكنت مقدم من العثور على عمل ومصدر دخل للأسرة في مخبز ويبلر الذي يبعد 30 دقيقة عن وسط مدينة دريسدن، حيث سبق لها وأن درست العلوم السياسية في بلدها الأم إيران، وكانت تمتلك متجراً في طهران مختص بييع منتجات تغليف الهدايا، قبل أن تفر من البلاد لأسباب دينية، ووصلت تكلفة رحلتها إلى الحياة الجديدة في ألمانيا إلى حوالي 8000  يورو (9070 دولار)، وبمقابل هذا المبلغ، حصلت على تأشيرة وتذكرة طيران إلى دورتموند في غرب ألمانيا، ومن هناك أرسلتها السلطات من مركز لجوء إلى آخر بشكل مستمر، من أونا، إلى بورباخ، إلى كيمنتس ومن ثم إلى كامينز، ومازالت تجهل حتى الآن السبب الكامن خلف ذلك.

منذ بداية هذا العام، انتقلت مقدم للعيش فوق المخبز الذي تعمل به، في شقة تتقاسمها مع متدربين آخرين ضمن المخبز، الشقة تحتوي على أربع غرف، وحمام ومطبخ مشتركين؛ فبعد الانتهاء من دورة اللغة الألمانية، أُتيحت لها فرصة عمل كمتدربة في مخبز ويبلر في نوفمبر الماضي، وأكملت الشابة البالغة من العمر 33 عاماً تدريبها الداخلي ضمن المخبر خلال شهر واحد فقط.

رغم أنها لم تكن حينها تحوز رخصة إقامة ولم تتحدث الألمانية بشكل جيد، بيد أن صاحب المخبز، مايكل ويبلر، عرض على مقدم دورة تدريبية لمنصب شيف معجنات، “إنها ماهرة للغاية”، يقول ويبلر الذي يعتقد بأن العمل هو أفضل شكل من أشكال الاندماج بالمجتمع، ويضيف موضحاً “ليلى تعلمت اللغة الآن واندمجت بالمجتمع، ومخبزنا أصبح يتمتع بعاملة ماهرة”.

“إننا نعاني من صعوبات متزايدة للوصول إلى أناس يقدرون العمل”، يقول ويبلر، الذي لاحظ على الفور في حالة مقدم، بأنها مقدمة ومستمتعة بالعمل، وهذا أحد الأسباب التي دعت ويبلر لمطالبة السلطات بوضع قرارات واضحة للمستقبل، لأن ذلك، كما يقول “من شأنه أن يشجع الشركات الأخرى على توظيف اللاجئين أيضاً، فالجميع يستحق فرصة، سواء أكانوا من اللاجئين أم لم يكونوا”.

مقدم تعلم بأنها كانت محظوظة، “اللاجئون الآخرون يقضون أربع أو خمس سنوات في البحث عن عمل ولا يجدونه أبداً” قالت مقدم أثناء ذرفها لبعض الدموع، وحينها قام ويبلر بإعطائها منديلاً لتكفكف دموعها، وربّت بعاطفة أبوية على ظهرها بحنان.

أمنية مقدم تنحصر بأملها بالبقاء في ألمانيا إلى الأبد، وحالياً وضعها القانوني في ألمانيا محكوم بفترة السماح التي تمتد لغاية نصف عام فقط، وهذا يعني بأنها لن تواجه احتمالية الترحيل لمدة ستة أشهر قادمة على الأقل، حيث انتظرت لمدة 20 شهراً لتحديد جلسة استماع لها أمام سلطات الهجرة، وما تزال بانتظار قرار اللجنة منذ يوليو المنصرم.

ولكن مقدم لن ترقد بلا حراك منتظرة حتمية مستقبلها، ولهذا السبب بدأت بحضور دورة لتعليم اللغة الألمانية كل يوم بعد انتهائها من العمل، حيث تدفع رسومها من راتبها الهزيل الذي تكسبه من عملها في المخبز.
تأمل مقدم بافتتاح مقهى صغير في وسط مدينة دريسدن في أحد الأيام، وتقول بأنها لا ترغب بالعودة إلى إيران إلا عندما تطعن بالسن، “حتى أستطيع أن أموت هناك”، كما تقول.

الحكومة لا تعرف الكثير عن الأشخاص من أمثال ليلى مقدم، يعقوب سوساني، وسعيد الهاشمي، كما لا تمتلك الكثير من المعلومات حول العديد من الأجانب الذين يختارون ألمانيا باعتبارها ملاذاً آمناً لهم، والذين يسعى كثيرون منهم لأن يكونوا مواطنين ألمان، حتى لو كان ذلك مؤقتاً على أقل تقدير، ولكن الحكومة الألمانية تدرك بأن هؤلاء أصغر سناً –وسطياً- من السكان الألمان ومن المهاجرين الذين يعيشون مسبقاً في البلاد؛ ففي عام 2014 تشير الإحصائيات بأن 32% من مقدمي طلبات اللجوء كانت تقل أعمارهم عن الـ18 عاماً، وكان نصف جميع المتقدمين تبلغ أعمارهم ما بين الـ18 و الـ35 عاماً، وبشكل عام، نسبة الرجال القادمين إلى ألمانيا تفوق بشكل كبير نسبة النساء، وخاصة أولئك القادمين من البلدان التي تعاني من الحرب والاضطهاد السياسي، مثل سورية، حيث كانت نسبة النساء من أصل جميع المتقدمين في عام 2014 تبلغ الثلث فقط.

الاستقطاب

في هذا المكان تماماً وفيما يتجاوز مجرد الحصول على هذه الإحصائيات البسيطة، تقع الحكومة الألمانية بجهل تام في وضع اللاجئين، “لا توجد دراسات تمثيلية حول الهيكل التأهيلي لطالبي اللجوء واللاجئين”، يقول هربرت بروكر من معهد نورمبرغ لبحوث التوظيف، الذي قام بتحليل البيانات القليلة المتوافرة حول مؤهلات طالبي اللجوء واللاجئين، ويتابع موضحاً بأن الهيكلية التأهيلية لطالبي اللجوء واللاجئين تختلف بشكل جذري ما بين لاجئ وآخر، فحوالي خمس الوافدين حاصلون على درجة جامعية، ولكن في الوقت عينه، 50 إلى 60% من هؤلاء لا يتمتعون بأي تدريب مهني، ويردف بروكر قائلاً “الهجرة التي يحكمها قانون اللجوء وتتضمن لم شمل الأشخاص الذين يأتون إلى ألمانيا مع أسرهم، تؤدي إلى الاستقطاب”، والمشكلة تتمثل بأن سوق العمل الألماني ينقصه الموظفين المهرة من ذوي المؤهلات المتوسطة.

على مدى السنوات الأربع الماضية، وضعت الوكالة الاتحادية للعمل “قائمة إيجابية” تتضمن فرص العمل المطلوبة في ألمانيا، حيث تهدف هذه القائمة إلى تمهيد الطريق أمام هجرة العمالة إلى ألمانيا من خارج الاتحاد الأوروبي، وتضم أكثر من 20 فئة مهنية ضمن 77 مهنة تعاني من نقص في طالبي العمل في السوق الألمانية، وتشمل هذه الأعمال، على سبيل المثال لا الحصر، تركيب حماية الصواعق، إدارة المستودعات المبردة، التمريض والمساعدة الطبية المتخصصة بالأورام السرطانية.

كمعظم الاقتصاديين المختصين بمجال سوق العمل، يدعو بروكر إلى تعزيز هجرة العمالة بشكل أكبر من دول غرب البلقان وتذليل العقبات المتصلة بهذا الموضوع، لأن “متوسط مهارات اللغة الألمانية في هذه المنطقة من المرجح أن يكون أعلى مما هو عليه في العديد من البلدان الأخرى”، كما يقول بروكر، كما أن هذا من شأنه أن يجعل من الممكن منح إقامات محدودة للعاملين من غرب البلقان الذين ينتهون من مرحلة التدريب المهني، ويضمن لهم الحصول على وظيفة ضمن الحد الأدنى المقبول من مستوى الأجور.

بالإضافة إلى ما تقدم، يوجد العديد من الإجراءات التي يمكن اتخاذها لتحسين أوضاع اللاجئين والمهاجرين، بالتلازم مع تخفيف الضغوط على سوق العمل في ذات الوقت، حيث يمكن ترقين اسم الأشخاص الذين يعيشون بالفعل في ألمانيا من سجلات عملية اللجوء ومنحهم حق الإقامة إذا كان لديهم وظيفة مضمونة، والأشخاص الذين يتمتعون باحتمالات عالية للبقاء في ألمانيا يمكن أن يتم إلزامهم لحضور دورات الاندماج فور وصولهم، وذلك لتسريع اندماجهم والاستفادة منهم بسوق العمل، كما يمكن أيضاً اتخاذ إجراءات أخرى فيما يتعلق الأمر بالمؤهلات المهنية والتوظيف والتعليم والتدريب.

“لديّ حلم”

إجراءات تشجيع هجرة اليد العاملة وتوظيفها بشكل مكثف لن تحل مشكلة اللاجئين الحالية، ولكنها قادرة على توفير بعض الراحة للدولة الألمانية، فعلاوة على كل شيء، هجرة العمالة هي مفتاح المستقبل الألماني الحتمي المتمثل بالهجرة الموجهة والمنظمة.

منذ قدومه إلى ألمانيا وحتى قبل عام ونصف، كان سعيد الهاشمي مضطراً للحضور أمام سلطات الهجرة في ميونيخ مرة واحدة كل ستة أشهر لتقديم طلب لتمديد إقامته، ومن ثم يجب عليه الانتظار لستة أشهر أخرى ليتقدم بعدها بطلب آخر، ولكن الآن تم السماح للمتدرب الأفغاني بالبقاء في ألمانيا بشكل مؤقت لمدة ثلاث سنوات، والهاشمي لا يزال غير مدرك لما قد يحدث بعد ذلك، ولكنه بشكل عام يود البقاء في ميونيخ.

هاشمي يتمتع بموهبة قد تساعده على تحقيق أمنيته بالبقاء في ألمانيا بشكل أسرع من معظم اللاجئين الآخرين، فهو رياضي كيك بوكسينغ ماهر، وهذا العام توّج بلقب بطل الناشئين داخل ألمانيا للمرة الثانية، ولكن مع ذلك، وكونه لا يمتلك جواز سفر، فإنه غير مؤهل للمشاركة في المنافسات الدولية، ولحل هذه المشكلة، يسعى ناديه الذي يتدرب ضمنه لدعمه في مسعاه للحصول على الجنسية الألمانية.

الهاشمي، الصبي الذي سافر وحده من أفغانستان إلى ميونيخ في سن الـ15، يرغب بدخول بطولة الاتحاد الأوروبي ممثلاً المنتخب الألماني، ويقول لنا جملة ربما أصبحت مألوفة للكثير منا “لديّ حلم”.

المصدر: دير شبيغل