صورة مثيرة للأسى والخجل في ذات الوقت، صورة ذلك الطفل السوري الرضيع “إيلان كردي” وهو مُلقى ميّتًا غرقًا، عندما كانت عائلته تحاول الإبحار من منطقة بودروم في تركيا باتجاه إحدى دول المجموعة الأوروبية، على إثر آلاف العوائل السورية الهاربة من ويلات الحرب ودمارها، أملًا في بدء حياةٍ مختلفة، تلمّ من خلالها جراحها وترقّع بها مستقبلها.
فبينما تلقّى من لديه حفنة من ضمير، صدمة من جرّاء رؤيته لتلك الصورة، باعتبارها ليست إلا تأكيدًا جديدًا على المعاناة التي يخوضها اللاجئون – على اختلافهم – الذين يُحاولون الهرب من ويل الحرب في بلادهم المشحونة بالدماء والثبور، فإن من هم أغلظ أكبادًا من الإبل، لم تُثرهم تلك الصورة لا من قريب ولا من بعيد.
لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ويسارعون في الوصول إلى أبعد نقطة منها وكل ما يقع على شاكلتها، كي لا تُسجل أذهانهم صورًا، تنغص عليهم حياتهم، وتحول دون رفاهيتهم، وكأنهم لا تربطهم بهم أي علاقة، ولا يشتركون في شيء ما، وكأنهم لا يتحدثون عن حياةٍ واحدة ولا عن مصيرٍ واحد.
لم يكن الطفل “كردي” بمفرده الذي قضى، ففي كل ساعة هناك موت لأنفس كثيرة وفي ظروف قاسية ومشابهة، فقبل أيامٍ قليلة عثرت الشرطة النمساوية، على شاحنة مكتظة بالموتى السوريين، وكانت هذه الصورة واحدة من جملة الصور المؤلمة، والتي تعتبر من الدلائل القاطعة على هول المعاناة التي يعانيها ملايين اللاجئين العرب والسوريين بخاصة، الذين يحاولون الهرب من مناطق النزاع، وبأي ثمن وبرغم معرفتهم جيدًا بويلات المغادرة.
وعلى صعيد متصل، فقد شاهد الكل الصورة الأخرى، والتي لا تقل كثيرًا عن مآسي الموت ورائحة المصائب، وهي ازدحام محطة قطارات “بودابست” المركزية بآلاف المهاجرين التائهين والهائمين على وجوههم، بعد أن حاولوا إلقاء أنفسهم وأطفالهم وأمتعتهم الهزيلة، داخل عربات القطارات، طلبًا في مواصلة السفر إلى مناطق تقبل بوجودهم ولو إلى حين، وهم يحملون قصصهم ومآسيهم التي لا يستمع إليها أحد وخاصة ممن هم مسؤولون عنهم.
كانت اضطرت كل من ألمانيا وإيطاليا وفرنسا، خلال الأيام القليلة الماضية، إلى التوقيع على وثيقة خاصة، تهدف إلى توزيعٍ عادلٍ لهؤلاء اللاجئين بين دول الاتحاد الأوروبي، وذلك وفق ضوابط معينة، تضع في حسبانها من أن تدفقهم على هذه الشاكلة، قد يهدد بتقويض أسس المسيحية في القارة الأوروبية، وخاصة في ضوء انتظار وصول المزيد منهم إليها، قد تصل أعدادهم إلى مئات الآلاف، برغم اعتمادها إجراءات قانونية وعملية تهدف إلى عرقلة وصولهم.
وإن كانت تهدف إلى مصالحها، وفي غياب عربي مُطلق منذ بواكير المأساة، فقد أعلنت إسرائيل – على طريقتها – عن استعدادها لمساعدة المهاجرين العرب، لادعائها بأنها رائدة في الأخلاق والإنسانية، برغم أن الكل غير متأكد من صحة ذلك الادعاء، لكنها اختارت ذلك السلوك للتأكيد بأنها لا تستطيع التحرر من اتخاذ موقف أخلاقي بخصوص هذا الشأن من ناحية، ولكونه نافعًا بدرجة عالية أمام المجتمع الدولي من ناحية أخرى.
وكانت قدّمت من قبل مساعدات إنسانية مالية وصحية، وأبدت استعدادًا أعلى بشأن تقديم مساعدات أكبر والتي قد تصل إلى تقديم مساعدات خاصة باستقبال مهاجرين سوريين (أكراد ودروز) على الأقل، وذلك تلبية لنداءات جهات رسمية وشخصية إسرائيلية، بأن على إسرائيل استيعاب اللاجئين السوريين، ومنحهم الحماية اللازمة، – كونها دولة إنسانية – ولها سابقة في هذا المجال، حيث قام رئيس الوزراء السابق “مناحيم بيغين” باستيعاب لاجئين من فيتنام في إسرائيل أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات الماضية.
لا يجب تحت أي حال، أن نطالب الدول الأخرى بتحمل مسؤولياتها بفتح حدودها وتوفير ملاذٍ آمنٍ لهؤلاء المشردين، بسبب أننا أحق بتحمل كامل المسؤولية، باتجاه وضع حد ليس لمواجهة المآسي والتغطية عليها وحسب، وإنما بوضع نهاية للآلة المقيتة المنتجة لها، وهي الصراعات الذاتية والتي لا تزال مشتعلة حتى هذه الأثناء، باعتبارها هي الموت والتشرد وخراب الديار من الأساس، ويجدر بنا الإشارة إلى أن تلك الصراعات، تحول دون حصول أكثر من 13 مليون طفل عربي من تلقي التعليم، الذي يعتبر القاعدة الأهم في حياة الأمم وتطورها.