في شارع جمهوري بالعاصمة الإيرانية طهران، يقف عباس مدير محل من فروع شركة سامسونغ في إيران، ويتحدث عن تحسّن الأحوال الاقتصادية كثيرًا عما كانت عليه منذ ثلاثة أعوام، حين قررت الولايات المتحدة مع الاتحاد الأوروبي تشديد العقوبات على إيران، “لقد كنت على حافة الإفلاس، بين عامي 2012 و2014 كانت الأمور سيئة للغاية، وكانت البضائع تُحجَز في الجمارك مقابل رشاوى ضخمة يجب دفعها للحصول عليها، ناهيك عن أن صعود قيمة الدولار وهبوطها يوميًا أفقدت الناس الثقة ودفعتهم لتقليل الاستهلاك حتى أنني في بعض الأشهر لم أبِع سوى ثلاثة تلفزيونات.”
“لو لم يكن هناك إنجاز آخر لروحاني سوى استقرار العُملة الإيرانية لكفى، فهو إنجاز بمثابة نهضة اقتصادية للإيرانيين أعادت ثقتنا بالسوق، وبدأت تدفع الناس للعودة لحياتهم الطبيعية، والآن أنا أتعامل مع زبائن بشكل يومي، لقد تنفسنا الصعداء،” هكذا يقول عباس البالغ من العُمر 42 عامًا، “روحاني رئيس التزم بكلمته، وكل ما علينا الآن انتظار الإفراج عن أموالنا بعد الاتفاق النووي لمشاهدة قفزة في السوق الإيراني، وإن كان لدى روحاني نية للترشح لولاية ثانية فسأنتخبه حتمًا.”
عباس ليس وحده بالطبع المُفعَم بالأمل، فكل أصحاب المصالح الاقتصادية كبارًا وصغارًا يشمرون عن سواعدهم الآن استعدادًا للنهضة الاقتصادية القادمة بموجب الاتفاق النووي، وكذلك الإيرانيين الراغبين في معظمهم في استكمال انفتاح بلادهم على أوروبا، بيد أن تلك الصورة الوردية تختلف قليلًا بالنظر لتفاصيل الوضع الاقتصادي والمالي على الأرض، والتي لا تشي بأن تلك القفزة ستحدث في سنوات قليلة، وأحد أبرز تلك الأسباب بالطبع هي التحولات الجارية في عالم النفط وهبوط أسعاره بشكل كبير، مما دفع البرلمان الإيراني لتأجيل اعتماد الموازنة مرات عدة خلال هذا العام، والاعتماد على نصف الميزانيات السابقة في تسيير أعمال الحكومة.
إن كان تحدي هبوط أسعار النفط مسألة خرجت عن أيدي طهران، وستضطر للتعامل معها خلال العقود المقبلة نظرًا لكون هبوط الأسعار سمة ستدوم لفترة أطول نتيجة تحولات دائمة تحدث وستظل تحدث في سوق النفط، فإن التحدي الثاني والمهم أيضًا، وهو كبح الشركات والمؤسسات شبه الرسمية، وأبرزها كل ما هو تابع للحرس الثوري، يُعَد المعركة الرئيسية التي سيواجهها روحاني لتحقيق الإنجازات الاقتصادية التي وعد بها، وهو ما بدأت تظهر بوادره بتوتر حدث مؤخرًا بين الرئيس والحرس الثوري.
روحاني والمعركة القادمة
“تحذيرات روحاني الانتخابية،” بهذا العنوان الرئيسي طُبعَت إحدى الصُحُف، حاملة صورة روحاني بدون ابتسامته المعتادة، في إشارة إلى الانتقادات التي وجهها مؤخرًا للحرس الثوري الذي يقوم بالإشراف على كل مرشحي البرلمان وتحديد أهليتهم لخوض الانتخابات من عدمها، وهي انتخابات ستجري عام 2016 لتنتخب البرلمان الذي سيرسم ملامح السياسة والاقتصاد في إيران ما بعد اتفاق فيينا، بالإضافة لانتخابات مجلس الخبراء الذي سيقرر على الأرجح هو الآخر خليفة خامنئي في موقع المرشد الأعلى.
“مجلس صيانة الدستور هو المشرف وليس المدير، من يدير الانتخابات هو الإدارة المسؤولة عن ذلك وهناك هيئات مختصة بالفعل لضمان عدم وجود خروقات للقانون، مجلس صيانة الدستور مجرد عين على الانتخابات، والعين لا يمكنها أن تحل محل اليدَين،” هكذا صرح روحاني بخصوص سلطات المجلس المعيّن بالكامل، بستة أعضاء من الفقهاء يعيّنهم المرشد الأعلى وستة من القانونيين يعيّنهم رئيس السلطة القضائية الذي يعينه أيضًا المرشد، وهو مجلس يُعرَف بعلاقاته الوطيدة بالحرس الثوري وتعزيز نفوذه.
ردًا على روحاني وبدون ذكره بالاسم، صرّح محمد جعفري، قائد الحرس الثوري، بأن “هذا الخطاب يُضعِف واحدة من أهم أركان الثورة الإسلامية ويدمر الوحدة الوطنية،” طالبًا من كل المسؤولين بالجمهورية ألا يثيروا اللغط حول مبادئ وقيم الثورة تماشيًا مع رغبات “الشيطان الأكبر،” وهو الولايات المتحدة كما تظل في خطاب الكثير من المحافظين، وعلى الرُغم من الابتسامات التي أطلقها وزير الخارجية محمد جواد ظريف مع نظيره الأمريكي جون كيري أثناء توقيع الاتفاق النووي.
التوتر حيال الانتخابات يعود لعدم وجود ثقة بإدارة انتخابات نزيهة، لا سيما بالنظر لأن النظام تلاعب بالفعل حين كان ذلك في صالحه كما جرى عام 2009 مع أحمدي نجاد، وإن كان البعض يقول بأن انتخاب روحاني يشير إلى تحسن أداء الدولة في التعامل مع رغبات الإيرانيين، فإن هناك من يخشى أن يكون ذلك مجرد استثناء نظرًا لحاجة النظام الإيراني آنذاك إلى صوت إصلاحي هادئ، أما الآن وقد بدأت ملحمة إعادة رسم الاقتصاد بعد الاتفاق النووي، فإن هناك معركة ستجري على الأرجح بين الإصلاحيين والمحافظين لرسم ملامح “النهضة” القادمة، والتي ستؤثر بالتبعية على المدى البعيد على طبيعة السياسة والدولة.
مقارنة بثلاثة مليارات دولار فقط جذبتها إيران خلال الرُبع الأول من العام الحالي، تطمح طهران إلى رفع ذلك الرقم ليتجاوز مائة وخمسين مليار دولار، خاصة في قطاع النفط والغاز، وهو ما يعني حاجة الإدارة الإصلاحية الحالية لتوفير المناخ المناسب للاستثمارات الأجنبية، والغربية تحديدًا، وبالتبعية كبح مصالح الحرس الثوري صاحب المصالح الاقتصادية الواسعة والراسخة في مجالات النفط والزراعة والنقل والتعدين والبناء وغيرها، والتي وصلت لحوالي عشرة آلاف مشروع بين عامي 2006 و2013 (المصدر).
لافتة كبيرة لصورة الخميني مع أعضاء الباسيج في إحدى شوارع طهران بينما تمر إحدى الحافلات
تباعًا، لن يكون الحرس الثوري راغبًا في تدفق واسع للاستثمارات والتي ستتمكن بالطبع من منافسته بقوة وطرح منتجات بجودات أعلى، كما يحدث عادة عندما يشهد اقتصاد مُغلق انفتاحًا على الأسواق الغربية، وهي مهمة لن تكون صعبة إذ يمكن وضع عراقيل بيروقراطية كثيرة أمام الاستثمارات الأوروبية والأمريكية، والبيروقراطية هي أحد أبرز أسباب عزوف الاستثمارات عن دخول أسواق الدول الأوتوقراطية كما هو معروف، علاوة على حُجَج الأمن القومي التي سيتذرع بها الحرس في مجالات كالاتصالات والتكنولوجيا والنفط والغاز.
معركة كتلك لن تنتهي بالطبع بإقصاء طرف للآخر بالكامل، ولكن بالتوصل لصيغة بين الإصلاحيين، المتوقع فوزهم في الانتخابات البرلمانية، والحرس الثوري، وهي صيغة ستتضمن أي القطاعات يتم فتحها للاستثمار وأيها يظل بعيدًا عن أيدي الشركات الغربية، وستكون رغبة الحرس الثوري أن يتدفق الاستثمار بعيدًا عن المجالات الثقيلة والحساسة، في حين ستدفع إدارة روحاني ربما إلى وجود الاستثمار في بعضٍ منها نظرًا لحاجتها للتطوير والاستفادة من الخبرات الغربية.
علاوة على معركة الاقتصاد، ستكون هناك معركة سياسية سيحاول بها روحاني كسب قلوب المزيد من الشباب والمنتمين للطبقة الوسطى، وهي الحد من سلطان الشرطة وقوات الباسيج المهيمن على الحياة العامة، والذي يتدخل أحيانًا فيما ترتديه النساء، وفي التصرفات الجارية بينهن وبين الشباب في المجال العام، وهي معركة بدأت تظهر هي الأخرى إثر صدور تصريحات من منتمين للباسيج برفض الاتفاق النووي باعتباره خضوعًا للغرب، وإعلان منظمة طلاب الباسيج تحفّظها على بعض بنود الاتفاق.
الباسيج تحديدًا لا يخضع سوى لأوامر المرشد الأعلى، والذي يظل موقفه مبهمًا حتى الآن، فهو مؤيد للاتفاق النووي ولكن لا يزال يحتفظ بلهجته الحادة المعادية للغرب والتي يعتبرها أعداء الاتفاق النووي في الغرب دليلًا على خداع الموقف الإيراني، كما أنه يستمر في دعم مراكز القوى المحافظة داخل الدولة وإن سمح للحكومة والرئيس بانتهاج طريق مختلف، كما يشي بذلك استمرار حبس المعارضين للجمهورية الإسلامية والصحافيين وقوانين التحكّم بالإنترنت، وهي معادلة يرى البعض أنها محاولة منه لاحتواء المحافظين من ناحية في مقابل تحقيق مكتسبات الانفتاح عن طريق الرئيس، بينما يرى البعض أنها ليست سوى جني لثمار الاتفاق النووي على المدى القصير حالما يستريح المحافظون ويعودون من جديد بعد روحاني.
“أنا أحب روحاني، ونجاحه في الاتفاق النووي يثبت أنه يبذل جهودًا حقيقية، ولكن الاقتصاد والأمن القومي ليسا كل شيء، فكوني امرأة متعلمة يعني أنني أمتلك حقوقًا من المفترض أن يدافع عنها، كما أنه يجب أن يمنع الشرطة وقوات الباسيج من حرية فعل ما شاءوا بالشوارع تجاه الناس،” هكذا تقول ماريان ذات الأربعين عامًا، “أنا أتعرّض لضغط الشرطة بخصوص طريقة حجابي منذ كان عمري ستة عشر عامًا، وتم احتجازي في شاحنات الشرطة ثلاث مرات هذا العام فقط، وقد انتخبت روحاني ليس فقط لتحسين الاقتصاد ولكن لكبح هؤلاء الحمقى، فهو ليس منوطًا بأن يأخذنا للجنة فقط، ولكنه يجب أن ينتشلنا من الجحيم أيضًا.”