ترجمة وتحرير نون بوست
على المستوى الشخصي، “الكذب” ليس سوى كلمة بسيطة من ثلاثة أحرف، قد تكون مدمرة، لكن عندما تتقاطع مع البيروقراطية أو مع قطاع الأعمال والدول القومية تنهي الكذبة في النهاية أهم لوازم العلاقة بين المواطن والدولة؛ الثقة، وإذا كانت الأيام العشرة الماضية مؤشرًا على شيء ما، فهو أن القاهرة تعاني أزمة ثقة خطيرة ومتفاقمة.
من المثير للقلق أن الكذبة المصرية تتكاثر وتتضخم من أعلى الدولة لأسفلها، في ثلاث حوادث بارزة تخص الجيش ووزارة الداخلية ومصر للطيران، تكرر نفس النمط، ومن الواضح تمامًا أن الدولة قررت – في حالة الشك – أن تكذب.
في الحالات الثلاث، نسي من يفبركون الكذبة أمرًا حاسمًا واحدًا؛ نحن في عصر الإنترنت، وأي شخص يحمل أدنى قدر من الذكاء يمكنه التأكد بنفسه من المعلومات، علاوة على ذلك، فإن التعالي المستبطن في الكذب يفترض أن التوازنات، التي يُفترض أن تكون في كل مجتمع، قد ماتت موتًا سريعًا في عصر هذه الدولة البوليسية مفتولة العضلات، لكن الغطرسة والغرور لن يغيرا من الواقع شيئًا، وفي النهاية ستدفع ثمن الكذبة في أي علاقة مهما كانت معالمها.
تمامًا بعد شهرين من الهجوم الشرس المنظم والمتواصل بواسطة “ولاية سيناء”، التابعة لتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، على الشيخ زويد في سيناء، ظهر فيديو مدته 37 دقيقة يوم الأربعاء الماضي، ليناقض بقوة سردية الجيش المصري، تحدث الجيش عن أن هجوم ولاية سيناء أوقع 21 قتيلًا في صفوفه، بعد أن كان قد قال إنهم 17 شخصًا، وأكد بيان الجيش أن ولاية سيناء تعرضت لخسائر أثقل، قال الجيش إنه قتل من الإرهابيين أكثر من 90 في ذلك اليوم، ولاحقًا بلغ مجموع قتلى ولاية سيناء، بحسب بيانات الجيش عن عملياته في الأيام التي تلت، أكثر من 205 قتلى، وبينما لا يعرض الفيديو أي ضحايا محددين، باستثناء جندي مسيحي واحد، إلا أنه يعرض شيئًا بالغ الأهمية عن هجوم 1 يوليو يوضحه مايكل هورويتز، أحد كبار المحللين في مجموعة ليفانتين، يعرض الفيديو سيارة يقودها انتحاري تنفجر في مبنى كانت تستهدفه وتدمره تمامًا، “إذا كان ذلك المبنى موقعًا لتمركز جنود الجيش المصري بالفعل، فإن الخسائر البشرية الناجمة عن التفجير قد تكون مرتفعة جدًا”.
هناك إشارات أخرى مثيرة للقلق، كما يؤكد هورويتز، فالهجوم الصاروخي الذي صوره الفيديو على سفينة تابعة للبحرية المصرية “يثير الشكوك حول ادعاءات الجيش بعدم وجود خسائر بشرية”، وفي محاولة للحفاظ على الروح المعنوية العالية للقوات، يندر الإشارة إلى درجة تنظيم المسلحين، وكما يوضح هورويتز، “مستوى التنسيق والمواد التي استخدمها المسلحون تثير تساؤلات بشأن العدد الرسمي للقتلى”.
من يسمع الرواية الرسمية من المصريين، يعتقد أن الإرهاب مُحاصر داخل حدود شمال سيناء، لكن الأمر ليس كذلك كما يصر المحلل الكبير، الأحداث على الأرض أيضًا تدعم حديث هورويتز، خاصة بعد انفجار سيارتين ملغومتين في العاصمة المزدحمة، لا يمكن عزل هذه الحوادث عن المعركة ضد الإرهاب التي تسير ضمن خطة السيسي “الأمن أولًا”.
“داعش، بالفعل، تتوسع في الأراضي المصرية” كما يؤكد هورويتز، هذان الهجومان يشيران إلى أن “داعش استطاعت إعادة تنظيم قدراتها في عمق الأراضي المصرية”، وليس سرًا أن استمرار سياسة القبضة الحديدية توفر بيئة خصبة لتجنيد المتشددين، في مشهد مؤلم، لكنه معبر وكاشف في نهاية الفيديو، يظهر أطفال صغار يهتفون بتأييد المسلحين عقب عودتهم من هجوم الأول من يوليو.
لكن مصر تخوض حربًا متعددة الجبهات عندما تعلق الأمر بالإرهاب، الإشكالية أن تنظيم القاعدة يمثل واحدة من تلك الجبهات، ما يعكس نمط التنافس الدولي بين داعش والقاعدة، ومع ذلك، سوف يكون من الصعب العثور على أي ذكر لهذا سواء في الصحافة المصرية أو في خطابات الدولة العميقة.
ثلاث هجمات تؤكد هذه المنافسة الثنائية؛ عملية اغتيال النائب العام هشام بركات، والهجوم الذي وقع بالقرب من محكمة مصر الجديدة، والهجوم الذي وقع مؤخرًا في البحيرة بالقرب من الإسكندرية، وأسفر عن مقتل ثلاثة وجرح آخرين، عندما انفجرت قنبلة قرب حافلة تقل مجندين.
في الوعي المصري، هذه الهجمات تُقدم على أنها من فعل المتطرفين الإسلاميين الذين، وفقًا لرواية الحكومة، يرتبطون بشكل مباشر أو غير مباشر بجماعة الإخوان المسلمين، هذا النوع من التبسيط والتلاعب بالحقائق هو أحد الأسباب الرئيسية في تخلف الحكومة في حربها ضد الإرهاب، والذي في طريقه ليصبح تمردًا منظمًا.
لمكافحة داعش، والتي تفوق معارضي الحكومة الآخرين في فهمها لوسائل الإعلام الحديثة، يقترح هوروتيز تغيير التكتيكات، لكن هذه لن تكون مهمة سهلة، فقد فشلت فيها العديد من الجهات الحكومية الغربية، “على الجيش المصري أن يطور إستراتيجية إعلامية جديدة لمواجهة دعاية داعش” لأن الطرق القديمة لن تصلح لمجابهة فصيل مثل داعش، يدرك تماما دقائق الإعلام والعلاقات العامة في عالم اليوم، بكلمات موجزة، يحتاج الجيش للإصغاء لتحذيراتنا حول الكذب، من وجهة نظر عقلانية، تُجنى المصداقية من خلال نشر الرسائل الأقرب قدر الإمكان من الواقع، يقول هورويتز إن الجيش المصري عليه أن يصبح مصدرًا موثوقًا للصحفيين، في الوقت الحالي، الجيش ليس كذلك.
هذا الطاعون المستشري من الكذب والكلام متعدد الأوجه أصاب وزارة الداخلية أيضًا، فبينما تصرخ التقارير الدولية وبعض التقارير المحلية من واقع اختفاء مئات المصريين قسريًا وتعذيبهم واحتجازهم خارج الرقابة القضائية، الوزارة من جانبها، وبشكل مأساوي للغاية، تدعي عكس ذلك، يوم الاثنين، وبعد زيارة مثيرة للجدل من قِبل المجلس القومي لحقوق الإنسان إلى سجن طرة بهدف إثبات خلوّ السجون المصرية من التعذيب الممنهج، ذهب المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية اللواء أبو بكر عبدالكريم إلى أبعد من ذلك بكثير، في تصريح له لقناة ON TV، قال عبدالكريم إن “كلمة التعذيب ليست في قاموس السجون المصرية”، كما أنكر الرجل أي وجود لجناح سياسي في سجن طرة، معروف بشكل غير رسمي باسم سجن العقرب، المشكلة الوحيدة أنه في نفس اليوم، نشرت صحيفة المصري اليوم شريط فيديو لأم سجين معتقل في العقرب تقول فيه إن ابنها يحتفظ بقشر البرتقال والخبز الجاف حتى يتمكن من تناولهم في الأيام التي يُمنع فيها الطعام عن المسجونين.
الأكثر مأساوية ومرارة، أنه في نفس يوم هذا التصريح، الذي يهين ذكاء المصريين، أورد مركز النديم لحقوق الإنسان أن هناك ارتفاعًا ملحوظًا في عدد حالات الوفاة على يد الشرطة في أغسطس، فبعد تسجيل 36 حالة وفاة في يوليو داخل مقار الشرطة، ارتفع العدد لـ56 في أغسطس، إضافة إلى ذلك، توثق التقارير 57 حالة تعذيب و38 حالة اختفاء قسري، ورغم أن هذا التقرير لا يمثل سوى عمل إحدى أكثر المنظمات الحقوقية مصداقية، وفي نفس الوقت أطلقت هيومن رايتس ووتش على ما يحدث بأنه “أسوأ موقف منذ عقود”، يأتي رد وزارة الداخلية كمصدر للإحراج الوطني.
بعد بيان المجلس القومي لحقوق الإنسان عن زيارة السجن، رفض ثلاثة من أعضائه هذا التقييم وانسحبوا من الاجتماع مؤكدين أن التقرير حول سجن العقرب “يشوه الحقيقة”.
عندما يستخدم من في قمة الهرم الحاكم هذه الأساليب، لا يجب أن تكون مفاجأة أن تستخدم شركة الطيران الوطنية ذات الوسائل عندما تواجه سماء مضطربة، ففي اليوم المليء بالأخبار، 1 سبتمبر، كان هناك خبر غير ملفت يقول بأن هناك عددًا من الجرحى على الطائرة التي سافرت من نيويورك إلى القاهرة بسبب الاضطرابات الجوية، إلا أن مصر للطيران قامت بالرد لتقول إن الاضطراب الجوي نجم عنه انسكاب مياه ساخنة على إحدى المضيفات، في حين عانى آخرون من كدمات خفيفة بينهم ثلاثة أطفال.
إلا أن ما حدث بالفعل كان أمرًا آخر، وهو ما نشرته إحدى المسافرات الدائمات على خطوط مصر للطيران على فيسبوك، فبعد أن أكدت غضبها الشديد مما حدث، بدأت في اتهام شركة الطيران ووسائل الإعلام بالكذب، “أخفت مصر للطيران ووسائل الإعلام الحادث الحقيقي”، فقد مضت دقيقة كاملة بين الاضطراب الجوي وبين ضوء علامة حزام الأمان، لكن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، فلو كان الطيار يقظًا ومتنبهًا لكان بالإمكان التقليل مما حدث، تقول المسافرة إن من بين الإصابات شخصًا كان يرتجف من فقدان الدم، لكن المضيفات عالجوه ببعض الضمادات الصغيرة، وبرش بعض من مساحيق الحمام، وتقديم الشاي له! “لم يكن الطيار مهنيًا، كان غير حساس”، وأضافت “كان يطلق النكات!، مثل أن يقول، الجيد أننا لا زلنا كلنا على متن الطائرة”.
بصريح العبارة، تعمّ الكذبة المصرية، إذا كانت مصر تريد أن تسير في الطريق الصحيح فإن من يتحدثون عليهم أن يدركوا أن عقل المواطن هو أهم عامل في التوازنات المجتمعية، أكثر من أي وقت مضى، سواء كانت الحكومة أو القطاع الخاص، كلاهما عليه إدراك أن الكذب يدمر الثقة، والثقة مثل المزهرية، إذا ما دُمرت فلن تعود أبدًا كما كانت.
قال مستبد ألماني ذات مرة “إذا كنت تكذب، فيجب عليك أن تكرر الكذبة حتى يتم تصديقها”، الديكتاتور كان اسمه أدولف هتلر، للأسف، ولمرة وحيدة، تعلمت الدولة المصرية من التاريخ!
المصدر: ديلي نيوز