فساد التعليم الجامعي في مصر: رداءة لا ترقى لدرجة الشر

cairouniv

قررت وزارة التعليم العالي منذ بضعة أسابيع في مصر تطبيق نظام التوزيع الإقليمي على الكليات النوعية لأول مرة، أتى هذا القرار مع بداية العام الدراسي الجديد والذي يشهد افتتاح عدد من البدائل للكليات النوعية في أقاليم مصر خارج القاهرة ككليات الإعلام والاقتصاد والعلوم السياسية في الإسكندرية وبني سويف.

تزعم الوزارة أن هذه الكليات تساوي مثيلاتها الأقدم في جامعة القاهرة في جودة التعليم، قد يكون هذا الزعم حقيقي بالنظر إلى الحالة المتردية للتعليم الجامعي في مصر ككل، إلا أن دلالات هذا القرار مهمة لفهم كيف تنظر الدولة المصرية لأسس المواطنة والمساواة، وحق مواطنيها في حرية الحركة داخلها بشكل عام.

إلا أن هذا المقال لا يهتم تحديدًا بهذا القرار، وإنما بقرار تلى هذا القرار باستثناء أبناء الضباط والقضاة منه، أتى القرار تحت تبرير حفظ الأمن القومي بدون أي توضيح أكثر.

يحاول هذا المقال أن يلقي نظرة على نقاط تلاقي أجهزة القضاء والأمن مع المؤسسة الجامعية في مصر بشكل هيكلي، فبنظرة تاريخية سريعة نستطيع أن نرى تزامن تطور المؤسسات الأمنية والقضائية في مصر مع تطور المنظومة العلمية بشكل عام.

في مقال سابق نشره نون بوست عن تطور أساليب السيطرة والهيمنة عبر تصميم المدن؛ تم استخدام مفهوم الفيلسوف ميشيل فوكو عن السلطة كشبكة سائلة من الدماء السارية في جسد المجتمع، وفي المقال حالي سنستخدم هذا المفهوم مع بعض من الأفكار الأخرى لفوكو لفهم الدور الذي تلعبه الأجهزة والنظم السابق ذكرها وعلاقتها ببعضها البعض في الحياة اليومية للمجتمع.

إذا نظرنا للسلطة على كونها سائل يتغلغل في كافة الممارسات الاجتماعية وليس كفعل يمارس من قِبل شخص على شخص آخر؛ يمكن لنا أن نبدأ في فهم التعليم والبحث العلمي على أنهما عملية إعطاء كافة الممارسات والأشياء في حياة الأفراد معنى وعلاقة به وبغيره من الأشياء، المسؤول الرئيس عن عملية إضفاء المعنى هذه هو الباحث/ الأستاذ الجامعي، وبالتالي تصبح عملية التعليم هي بالأساس عملية مستمرة لضبط أداء الأفراد في المجتمع.

في إطار الفهم السابق للسلطة، تصبح قوات الأمن هي المحتكر الرسمي لممارسة العنف داخل المجتمع في حالة الحاجة إليه، وتصبح السلطة القضائية هي الجماعة المسؤولة عن ضبط أشكال السلطة المختلفة ومنها العنف عن طريق تفسير ووضع نصوص قانونية تشبه النصوص الدينية إلى حد كبير، ولكن نظرًا لطبيعة السلطة المتغلغلة واللامتناهية الأشكال؛ يصبح من اللازم تواجد أسطول من الخبراء في مختلف التخصصات لمساعدة الأمن والقضاء في فهم وتطويع الواقع الذي لا يمكن التعامل معه من خلال العنف، هؤلاء الخبراء مسؤولون عن ترتيب الواقع في مجموعة من التصنيفات لكل منها طبيعة وشذوذ، بهذا الشكل يمكن النظر إلى هيئات كالطب الشرعي ولجان الخبراء في المحاكم والتحقيقات بشكل جديد، تستطيع هذه اللجان وضع وتحديد الحقائق التي يمكن الحكم بناءً عليها.

بهذا الشكل تصبح أحداث حالة اشتهرت في مصر مؤخرًا وهي حالة الفتاة مريم صاحبة صفر الثانوية أكثر وضوحًا، استكتبت العديد من لجان الخبراء مريم لمعرفة إن كانت أوراق إجاباتها قد اُستبدلت، في هذه الحالة أصبح أداء مريم الدراسي أو اعتراضها غير هامين بالمرة، فقط لجنة خبراء الخطوط تستطيع الفصل في حقيقة هي خط مريم على ورقة ما، وبناءً على قرار هذه اللجنة يفصل القضاء هذه القضية مفسرًا النص القانوني على الوجه الذي يراه، وتنفذ قوات الأمن قرار القضاء بالقوة إن لزم الأمر (وإن كان الاحتياج إليها في هذا السياق معدومًا بطبيعة الحال).

تعتبر الجامعات في هذا السياق كمهد الخبرة والحقيقة الاجتماعية التي لا يمكن الاعتراض عليها، وهنا يجب لفت الانتباه إلى أهمية عملية البحث العلمي في الجامعة والتي توازي أهمية عملية التعليم، إذ تصنع الجامعة الحقيقة ومعايير الحقيقة عبر البحث العلمي؛ وتعمل على ترسيخها في الوعي عبر عملية التعليم، وإذ تستبشر الجامعات في بعض من طلابها علامات النبوغ واستبطان هذه الحقيقة غير المشكوك بها، تستخلصهم لنفسها ليستمروا في بناء صروح فوق صروح هذه الحقيقة لترسيخها في الواقع أكثر وأكثر.

أثبت هذا النظام من خلق الحقيقة نجاحًا في ترسيخ قواعد التطور والنمو الحداثي في العديد من البلدان إلى حد ما، إذ يسمح الاتفاق على مجموعة من الوقائع والأنماط على أنها الحقيقة في حد ذاتها في خلق نظام يدعي العدالة، وبوجود عدالة وحيادية تنطبق على قطاع عريض من سكان البلد يمكن الوصول إلى حالة من النمو المستمر بما يسمح بتحسن ظروف الحياة والتقدم.

إلا أن الواقع في الحالة المصرية يختلف عن هذا بعض الشيء، فعدد كبير من الأسس والمسلمات الحداثية الكامنة في هذا النظام للسلطة كالإيمان بالعدالة والمساواة والتقدم اللانهائي يغيب بشكل كبير من خطاب الأفراد في مصر.

فعلى صعيد الأداء، يمثل تقاطع مصالح قطاعات الأمن والقضاء مع مصالح قطاع صناع المعرفة/ الحقيقة (الأساتذة الجامعيين) في ظل منظومة منهجية من الفساد تحدي لقيام أي من هذه القطاعات بدوره، وبالتالي تصبح الحقيقة الواجب التعامل معها على كونها مطلقة لضمان استمرار عمل منظومة السلطة نسبية لاعتبارات كـ”الأمن القومي”.

ويتسبب غياب الإطلاق عن الحقيقة في هذه الحالة في غياب حتى العدالة المشكوك في أساسها المذكورة سابقًا، ويتسبب إذعان الجماعة العلمية لضغوط القطاعات الأمنية والقانونية المرتبطة مصالحها بها في نزع رداء العلمية والموضوعية المطلقة عنها، هذا الرداء الذي يخولها أن ترتب الحقائق الاجتماعية وتضبط إيقاع سريان السلطة في شرايين المجتمع، ويتسبب أيضًا في تقويض السلطة المعرفية لهذه الجماعة (أقصد بالجماعة العلمية كلية قطاع صناع المعرفة والهيئات التي ينتمون إليها كالجامعات) أمام أفرادها والذين على وشك الانتماء إليها والمجتمع بشكل عام.

يمكن تشبيه هذه الحالة من تقويض سلطة الذات بالمثل الأمريكي الشهير عن إطلاق المرء النار على قدميه، إذ لن يؤدي مثل هذا الأداء الأخرق إلا إلى إجهاض أي سبيل للوصول إلى حالة من الهيمنة الناعمة والتي يمكن لهذه القطاعات أن ترعى فيها مصالحها في هدوء، إذ ينطبق وصف في مقال سابق للمهندس إبراهيم إمام للنخب المصرية بالرداءة على هذه الحالة تمامًا، رداءة ناتجة عن جهل النخب المصرية بمصلحتها الشخصية قبل المصلحة العامة حتى، وناتجة أيضًا عن عدم احترام التخصص وإعلاء الجهل والاستسهال.

في هذا الإطار من الرداءة يصبح دفع أبناء الضباط والقضاة بالأساليب غير “القانونية” لمجرد أنهم ارتأوا في السلطة والنفوذ العلمي شكلًا أكثر أناقة مفهومًا تمامًا؛ عوضًا من السير في السبل المفتوحة أمامهم لاستكمال مسيرة آبائهم بشكل غير قانوني أيضًا.

ولكن كونه مفهومًا لا يعني أن نغفل أن استمرار هذا التناقض بين نظام التحاكم الذي تتبناه السلطة وأدائها لا يعني سوى ترسيخ عدم الثقة العام في وجود نظام للحكم من الأساس، وتوليد كراهية لنظام الحكم كافية للمناداة باستبداله بأنظمة أخرى أكثر عدالة بالرغم من أنه لم تسنح له فرصة تطبيقه من الأساس.