عندما قال الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى: “سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش / ثَمانينَ حَولا لا أَبا لَكَ يَسأَمِ”، كان يحتسب السنة القمرية وليست الشمسية، كما يفعل محمود عباس مثلا، أي يكون زهير بن أبي سلمى قد سئم تكاليف الحياة. ولم يبلغ السبعين. وقد اعتبر السبعين سنة كافية ليسأم الحياة أو ليسأم منه الناس والدهر.
أما الرئيس محمود عباس وقد نيّف على الثمانين فلم يسأم، وليس لديه أي شك في أن الشعب الفلسطيني لم يسأم من قيادته الفذة التي فشلت في تحقيق دويلة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وقد تنازل في سبيلها عن كل فلسطين، وعن حق العودة، وأسْهَمَ بتجريد المقاومة في الضفة الغربية من السلاح، وقمع أية محاولة لانتفاضة ضد الاحتلال واستشراء الاستيطان وتهويد القدس، وأخلص كل الإخلاص في تنفيذ شروط الاتفاق الأمني، وضرب عرض الحائط بقرار المجلس المركزي بوقف التنسيق الأمني.
محمود عباس لم يسأم وقد أُعْلِنَ عن فشل المفاوضات، وانسحب الراعي الأمريكي عن مواصلة مساعي التسوية، وأصبح في وضع ميؤوس منه، ومعه وضع سلطة رام الله، وكل من سار في ركاب سياساته طوال عشر سنوات، وكان فيها رئيسا لمنظمة التحرير ورئيسا للسلطة في رام الله، والقائد العام للأجهزة الأمنية، ورئيسا لحركة فتح. وبلغ من السلطة والنفوذ ما لم يبلغه الراحل الشهيد ياسر عرفات. وقد اتهم بالانفراد بالسلطة، والشيخوخة، فيما انفراده بالسلطة لا يقاس بانفراد محمود عباس وإذا به يقضي “شابا” مقارنة بالثمانين عاما التي نيّف عنها محمود عباس.
ولهذا وجَب الترحّم على ياسر عرفات من قِبَل مَنْ لم يترحم عليه ولا سيما بعد التجربة العتيدة والحياة المديدة لمن جاء بعده في الزعامة الفلسطينية، أو في الأصح في الرئاسات كلها. ويا للهول لو ترك محمود عباس بعده من سيجبرنا على الترحّم عليه بعد هذه السنوات العجاف الأخيرة، وما سيتبعها في ثمانينياته التي يبدو أنه يستعد لها في المجلس الوطني القادم.
كثيرون ربط استقالة عشرة من أعضاء اللجنة التنفيذية بمن فيهم محمود عباس والدعوة لانعقاد دورة عادية- استثنائية أو طارئة للمجلس الوطني، بحاجة محمود عباس لتشكيل لجنة تنفيذية ومجلس مركزي جديدين من أجل ترميم وضع اللجنة التنفيذية بعد أن دبّ الخلاف بينه وبين ياسر عبد ربه وآخرين.
وهنالك من اعتبر هذه الخطوة من جانب محمود عباس بفرضه استقالة أعضاء من اللجنة التنفيذية لتسويغ الدعوة لانعقاد المجلس الوطني هروبا للأمام في مواجهة فشل سياساته حين أغلقت الأبواب أمام المفاوضات والتسوية، وازدياد عزلته، وكثرة خصومه من دول عربية وأطراف فلسطينية.
أما علاقته بشعبيته الفلسطينية فكان على العكس من ياسر عرفات غير حريص عليها، وقد سعى أنصاره (ولم نقل أزلامه احتراما) للحديث عنها بحكم تسلمه الرئاسات كلها بما في ذلك القائد العام وهو لقب لم يعد ينطبق إلاّ على الأجهزة الأمنية التي بناها الجنرال دايتون ولا علاقة لها بفتح. وليس لها مهمة الآن، خاصة، بعد أن سُدّت طريق التسوية والمفاوضات، غير حماية الاحتلال والاستيطان والتعاون مع أجهزة الشاباك في اعتقال أبطال الحراك الشبابي والشعبي في القدس وضواحيها.
على أن ثمة نصيبا من الدوافع المذكورة أعلاه في خطوة الرجوع إلى مجلس وطني فَقدَ شرعيته وانتهت صلاحيته وغطّ في نوم عميق أو في غيبوبة طويلة.
ولكن السبب الرئيس لهذه الخطوة إنما هو للتجديد لمحمود عباس نفسه. فهو كما يبدو، على غير ما أشيع، أو قدّر من جانب الكثيرين لا يفكر بمن يخلفه ولا يفكر بالاعتزال. فهو مستمر ما دام فيه عرق ينبض. فحفلة المجلس الوطني لا تستهدف، بالأساس، تشكيل لجنة تنفيذية على قياس محمود عباس في المرحلة الراهنة.
فقد كان بمقدوره أن يفعل ذلك بلا حاجة إلى كل هذا العناء. لأن الاحتيال على النظام الداخلي، أو على صلاحيات المجلس الوطني، سياسة مطبقة منذ أن دخل المجلس الوطني في الغيبوبة. ومع ذلك لا بأس من إصباغ “شرعية” مفبركة على تشكيل اللجنة التنفيذية القادمة، أو تشكيل المجلس المركزي القادم.
كما لا بأس من الهروب إلى الأمام لبعض الوقت في مواجهة فشل كل ما راهن عليه محمود عباس في سياساته منذ توّلى الرئاسات العتيدة، وطبعا من قبل ذلك. ولكن الأهم، والأساسي، هو إعادة تزكية محمود عباس وقد نيّف عن الثمانين وما زال في “عز الشباب”. لأن الشيخوخة هي شيخوخة الروح وليست شيخوخة الثمانين أو السبعين كما توّهم زهير بن أبي سلمى الذي قال: “سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش / ثَمانينَ حَولا لا أَبا لَكَ يَسأَمِ”.
مشكلة زهير بن أبي سلمى الذي تُعدّ معلقته مضمومة من الحِكَم والخبرة في الحياة، ولكن ما فاته تجربة كرسي الرئاسة، فها هنا لا سأم ولو سئم الناس، ولا ضجر ولو ضجر الكرسي ذاته، ولا شيخوخة ما دام هنالك عرق واحد ينبض.
هذا عموما فكيف حين يكون صاحب الكرسي قد أصاب في سياساته ولم يفشل قط، وتحققت كل رهاناته ولم تخب قط. والشعب الفلسطيني الذي انتصر في ثلاث حروب في قطاع غزة، واحتمل قصفا وحشيا على مدى 51 يوما وصمد تحت حصار خانق تنوء تحته الجبال، وصبر في الضفة الغربية والقدس على الاحتلال والاستيطان ولم تلن له قناة في مواجهة جيش العدو وظلم ذوي القربى، فلماذا لا يحتمل ويصمد ويصبر على محمود عباس الذي جاءته الرئاسة تجرجر أذيالها فهي “لا تصلح إلاّ له ولا يصلح إلاّ لها”.