منذ أسابيع قليلة انتشر على وسائل التواصل الاجتماعي تسجيل لطالب مصري أنهى للتو دراسته بجامعة تل أبيب بعد أن حصل على الماجستير في دراسات الشرق الأوسط، وكلماته عن الكراهية التي تربى عليها تجاه إسرائيل وكيف تغيّرت مفاهيمه حين أتى إلى تل أبيب ليدرس فيها، وهي كلمات أشعلت سجالًا كالعادة بين نقاده ومن رأوا أنه يحاول تعزيز “السلام” ليس إلا، بيد أن البعض ربما قد فاته أن يبحث قليلًا خلف الطالب هيثم حسنين ليعرف أنه قبل السفر لإسرائيل كان متدربًا لدى معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الذي أسسته منظمة اللوبي الصهيوني الأشهر أيباك.
معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى
عام 1985، قررت لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية، والمعروفة بأيباك، أن تعزز من نفوذها بين دوائر صناع القرار في واشنطن بإنشاء مركز أبحاث خاص بها، وكانت ثمرة تلك الجهود هي معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى الذي أشرف على تأسيسه وتولى إدارته مارتن إنديك، والذي عمِل حتى ذلك الوقت كمدير بحثي لأيباك، وعلى الرُغم من عدم وجود صلة رسمية بين أيباك والمعهد حاليًا، وادعائه بأنه يقدم تحليلات وتوصيات محايدة وبنّاءة، إلا أن اللوبي لا يزال أحد أبرز المتبرعين للمعهد، كما أن ما يُنشَر على موقعه يشي بوضوح بتوجهاته، على سبيل المثال لا الحصر الدعم الواضح للنظام المصري الحالي، ونقد الاتفاق النووي مع إيران.
لم يمر وقت طويل حتى بدأ المعهد يجني ثمار نجاحاته، إذ قام بنشر دراسة عن كيفية بناء استراتيجية أمريكية تجاه عملية السلام في الشرق الأوسط قبيل انتخابات الرئاسة الأمريكية عام 1988، وحث فيها الإدارة الامريكية على مقاومة الضغوط من أجل المضي قدمًا في المباحثات قبل أن “تصبح الظروف مواتية،” وهي دراسة انتقل ستة ممن شاركوا فيها إلى إدارة الرئيس جورج بوش الأب مباشرة والذي تبنى مقترحاتها: ألا تغيّر واشنطن منهجها تجاه إسرائيل والشرق الأوسط ما لم يصبح التغيير مُلحًِا، وهو ما يفسّر دعم الولايات المتحدة آنذاك للموقف الإسرائيلي الرافض للتفاوض مباشرة مع منظمة التحرير الفلسطينية أثناء وبعد مؤتمر مدريد رغم اعتراف المنظمة بإسرائيل.
أثناء التسعينيات انصبت جهود المعهد في تعزيز أهمية إسرائيل للولايات المتحدة بعد أن انتشرت مخاوف مفادها أن نهاية الحرب الباردة تعني تضاؤل أهمية إسرائيل لواشنطن، وقد اهتم المعهد حينئذ بالترويج لإسرائيل كحائط صد بوجه الإسلام الراديكالي، العدو الجديد للسياسات الأمريكية في تلك الفترة بعد سقوط روسيا الشيوعية، وهو ما يفسر عقد المعهد لمؤتمرات عدة حول الإسلام وخطره على الولايات المتحدة، وتصريحات مارتن إنديك آنذاك بأن واشنطن لا ينبغي أن تشجع الديمقراطية في بلدان حليفة لها مثل مصر والأردن، وأن المشاركة السياسية فيهما يجب أن تقتصر على الأحزاب العلمانية وإقصاء التيارات الإسلامية، وهي سياسة سلكتها بالفعل الإدارة الأمريكية حتى وصول أوباما عام 2008 ثم اندلاع الربيع العربي عام 2011.
أحد أبرز إنجازات مارتن إنديك في تلك الفترة كانت بلورته لسياسة الاحتواء المزدوج لنظام صدام في العراق والنظام الإيراني بعد انتهاء الحرب بينهما، وهي سياسة نجح في تمريرها كمدير لشؤون الشرق الأدنى وجنوب آسيا بمجلس الأمن القومي الأمريكي، وعلى الرُغم من كون إنديك مواطنًا أستراليًا، إلا أن إجراءات تجنيسه تمت سريعًا لكي يتمكن من الانضمام لصفوف المسؤولين بإدارة كلينتون، ويصبح في وقت قصير سفيرًا للولايات المتحدة في تل أبيب ولمرتين أثناء رئاسة كلينتون، وهو الشخص الوحيد المولود خارج الولايات المتحدة ويتولى هذا المنصب.
إلى اليمين: مع إسرائيل أينما كانت
حتى مطلع القرن الواحد والعشرين، كان معهد واشنطن ملتزمًا برسم صورته باعتباره صوتًا صهيونيًا ليبراليًا ويهوديًا متوازنًا بين اتجاهات اليمين واليسار داخل كل من الولايات المتحدة وإسرائيل، بيد أن الاتجاه نحو اليمين الذي طال الإدارة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن، ثم اكتساح اليمين للساحة السياسية في إسرائيل خلال العقد الماضي، قد أحدثا تحولًا نحو سياسة دعم أمريكية لإسرائيل مرتكزة أكثر للعلاقات الحزبية الوطيدة بين الجمهوريين في أمريكا وحزب اليكود في إسرائيل، وهو ما انعكس بالطبع، أولًا على منهج أيباك التي أصبحت الآن تعبر عن الشرائح المحافظة واليمينية بين يهود الولايات المتحدة في مقابل ظهور أصوات يهودية ليبرالية مستقلة، وثانيًا على المعهد نفسه.
جون بولطن
مع دخول بوش، بدأت تعلو أصوات المحافظين داخل معهد واشنطن بقوة، بل وأصبح المعهد يجتذب أصواتًا محافظة ممن يُعرَفون بالصقور كانت بعيدة عنه، لتنتقل له أسماء عدة من معهد أميريكان إنتربرايز American Enterprise Institute ومشروع القرن الأمريكي الجديد Project for a New American Century والمعهد اليهودي لشؤون الأمن القومي (JINSA) ومركز سياسات الأمن Centre for Security Policy، وهي أسماء كان منها نائب الرئيس ديك تشيني ونائب وزير الخارجية لشؤون الأمن الدولي والسلاح جون بولطن ونائب وزير الدفاع لسياسات دوجلاس فيث، وقد كان الثلاثة أعضاء بالهيئة الاستشارية لـJINSA قبل الانضمام لإدارة بوش، كما أن الأخير عمل بمركز سياسات الأمن المحافظ، والذي انتقل منه وحده 22 عضوًا للعمل مع بوش.
هندسة الحرب على العراق كانت أبرز نتائج نفوذ هذه المجموعة، والتي كان منها ريتشارد بيرل رئيس هيئة سياسات الدفاع، والعضو السابق أيضًا بالهيئة الاستشارية لـJINSA ولمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ونائب وزير الدفاع الشهير واليميني پول وولفويتز، الذي عمل بمعهد واشنطن قبل تولي منصبه، وكل تلك الأسماء هي مجرد غيض من فيض الشخصيات الجمهورية التي غمرت الإدارة الأمريكية في سنوات بوش الثماني، وكانت منتمية في الواقع لمراكز ومؤسسات داعمة للسياسات الإسرائيلية تم تسليط الضوء عليها حينئذ لتأخذ نصيب الأسد من اهتمام معهد واشنطن وغيره، وهو اهتمام عزز من الابتعاد عن المعسكر الديمقراطي والتحول نحو اليمين ومعاداة الإسلام بدلًا من السياسات العربية المعادية لإسرائيل فقط كما كان الحال في الحرب الباردة.
النفوذ الإسرائيلي في مراكز الأبحاث
أنصار إسرائيل لا يقتصرون بالطبع على المعاهد والمؤسسات ذات الصلات الواضحة باللوبي الإسرائيلي أو صاحبة التوجه الجمهوري المحافظ، ولكنهم يحاولون الدخول أيضًا والتأثير في مراكز الأبحاث الليبرالية لتوسيع نطاق الصوت الإسرائيلي قدر الإمكان، وظهور مؤيدي إسرائيل في مركز التقدم الأمريكي Center for American Progress خير دليل على ذلك، رُغم أنها واحدة من أكثر مراكز الأبحاث الأمريكية الليبرالية تحررًا، حيث قام معهد إسرائيل الذي أسسته مؤسسة أسرة تشارلز ولين شوسترمان لدعم دراسات إسرائيل بتمويل المركز ليخصص وظائف شاغرة لباحثين زائرين من إسرائيل، وهو تمويل لم يستطيع المركز أن يرفضه.
مارتن إنديك حاليًا في مركز صبان بمعهد بروكينغز
الاستثمار الأكبر والأشهر في هذا المجال هو من نصيب رجال الأعمال ومالك وسائل الإعلام الإسرائيلي حاييم صبان، والذي موّل تأسيس مركز صبان لبحوث الشرق الأوسط ليكون تابعًا لمعهد بروكينغز الشهير، وهو معروف بصلاته القوية بسياسيين أمريكيين مثل بيل وهيلاري كلينتون، وبقيادات إسرائيلية مرموقة، أتاحت للمركز بأن يظهر بقوة في وقت قصير، ليصبح منتدى صبان السنوي الآن واحدًا من أهم تجمعات خبراء وصناع القرار المتخصصين في شؤون المنطقة، ولم يكن غريبًا بالتبعية أن تتم تنحية منصب خبير شؤون الشرق الأوسط التقليدي في بروكينغز، والذي تولاه سابقًا صاحب الآراء المحايدة نسبيًا ويليام بي كوانت والذي عمل في إدارة جيمي كارتر أثناء مفاوضات كامب ديفيد.
لم يكن غريبًا بالطبع أن تؤول رئاسة مركز صبان لشؤون الشرق الأوسط لأحد أبرز الأسماء المعروفة بدعمها لإسرائيل على مدار عقود طويلة، وهو نفس الشخص الذي أسس منذ ثلاثين عامًا معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، والذي حصل على إجازة من المركز في الفترة الماضية كمبعوث لمفاوضات السلام بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية قبل أن يفشل في مهمته ويعود لمقعده الجديد في مركز صبان، إنه مارتن إنديك.