الليبرالية الجديدة جنبًا إلى جنب مع اختفاء المثقفين المعارضين للسلطة ينبئان بمستقبل قاتم للديمقراطية الغربية؛ فمنذ زمن ليس ببعيد، كان المثقفون والمفكرون في الديمقراطيات الغربية ينددون بصوتٍ عالٍ بالحرب والإمبريالية والقمع وانتهاك القيم العالمية، مثل الحقيقة والعدالة، كلما وأينما حدث ذلك.
لقد كان هناك عدد قليل من المثقفين المعارضين الحقيقيين في الغرب في العصر الحديث، ولكن، دائمًا ما كان هناك عمالقة في وسطنا لم تحظ آراؤهم باحترام شريحة كبيرة من المواطنين فحسب، ولكنهم، في بعض الحالات، أحدثوا الخوف والرعب بين أفراد الطبقة الحاكمة.
في هذا السياق، يتبادر إلى ذهني أشهر مثقفي ومفكري القرن العشرين مثل جون ديوي، برتراند راسل، وجورج أورويل، جان بول سارتر، وألبير كامو، لقد كانوا من المثقفين أصحاب البراعة الفكرية المذهلة، مستقلين عن من هم في السُلطة، ينتقدون الشرور الاجتماعية وإساءة استخدام السُلطة.
وبنفس القدر من الأهمية يأتي الموقف الذي اتخذه المثقفون بشأن القضايا العامة؛ لأنه أدى إلى حشد الآلاف من المواطنين العاديين للمشاركة في الدعوة السياسية.
الجانب الصحيح من التاريخ
يمكننا بسهولة إدراج العلماء والفنانين مثل ألبرت أينشتاين وبابلو بيكاسو في القائمة أعلاه؛ إذ كانا أيضًا من الشخصيات العامة التي تهتم بالقضايا ذات الاهتمام المشترك ولم يترددا في الوقوف من أجل ما يعتقدان أنه “الجانب الصحيح من التاريخ”؛ لقد دعم أينشتاين الحركات المناهضة للحرب وسلّط الضوء على أخطار الحرب النووية بينما كان بيكاسو ملتزمًا بمناهضة الفاشية.
وفي وقتنا الحاضر، تتقلص قائمة المثقفين المعارضين للسلطة بشكل مثير للقلق، لاسيما وأن معظمهم قد وافته المنية أمثال هارولد بينتر، هوارد زين،وإدوارد سعيد، وبيير بورديو.
في الواقع، أكبر مثقف معارض للسلطة في العالم هو نعوم تشومسكي، الأستاذ الفخري في اللسانيات بمعهد ماساتشوستس للتقنية؛ فهو يمثل قلة من المثقفين الذين لم يعد لهم وجود الآن، عندما يموت تشومسكي، لن نجد من يحل محله.
والحقيقة هي أنه، مع استثناءات صغيرة، يهيمن على العالم الغربي اليوم المثقفون الوظيفيون المنصاعون لأوامر السُلطة؛ أي المفكرون الذين تتلخص مهمتهم في تعزيز مستقبلهم المهني وثرواتهم المادية من خلال الحفاظ على واستنساخ النظام القائم وعلاقات القوة السائدة وليس في إعلام الجمهور عن الشرور الاجتماعية وإساءة استخدام السلطة والتهديد الذي يشكّله على الحرية والديمقراطية والكرامة.
هذا المثقف الوظيفي المنصاع لأوامر السلطة يركز على المناطق الفنية الضيقة ذات الدرجة العالية من التخصص، ولا يجرؤ على تحدي الوضع الراهن أو التحدث علنًا ضد الشرور الاجتماعية؛ خوفًا من فقدان وظيفته وحرمانه من تولي منصب ما أو الترقية في وظيفته الحالية، أو عدم حصوله على المنح والمكافآت.
المثقفون المنصاعون للسلطة
في حال توجيه الأسئلة لهم، فإنّ المثقفين المنصاعين للسُلطة ربما يقولون إنه ليس من واجبهم التحدث ضد النزعة العسكرية الأمريكية وسياساتها الإمبريالية وتدمير دول بكاملها (العراق، ليبيا، سوريا)، وأعمال القمع المقيتة في غوانتانامو، وعنف أجهزة الشرطة والدولة، والقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، والرأسمالية المفترسة وجرائم وول ستريت والسلطوية وعدم المساواة، ولكنّ التفسير الحقيقي هو أنهم ببساطة ثُلة من الجبناء.
إنّ الأفراد الذين لديهم سُبل الوصول إلى المعرفة لديهم الواجب والمسؤولية الكاملة للتحدث واتخاذ الإجراءات اللازمة لدعم السلام والحرية والديمقراطية، والصالح العام.
كتب تشومسكي في مقالته الشهيرة “مسؤولية المثقفين”، التي نُشرت في صحيفة “نيويورك ريفيو أوف بوكس” في 23 فبراير عام 1967: “تكمن مسؤولية المثقفين في فضح أكاذيب الحكومات، وتحليل الحوادث بناءً على أسبابها ودوافعها والنوايا الخفية التي تكمن وراءها، وفي العالم الغربي، على الأقل، يتمتع المثقف الغربي بقوة تمنحها له السياسات الليبرالية وسهولة الحصول على المعلومات وحرية التعبير، وبالنسبة لتلك الأقلية المتميزة (ويقصد بها الطبقة المثقفة في الغرب)، توفر الديمقراطية الغربية الوقت والتسهيلات والتدريب المناسب من أجل البحث عن الحقيقة المخفية خلف ستار التشويه والتحريف الذي تمارسه في إبراز أيديولوجياتها ومصالحها، وتعرض من خلالها أحداث التاريخ الحالي”.
ومن ثمّ؛ يمكننا أن نعزي اختفاء المثقفين المعارضين للسُلطة إلى عدة تطورات مترابطة؛ في البداية، تخلت الجامعات عن دورها التقليدي المتمثل في إعداد الطلاب ليكونوا مواطنين فاعلين ومهتمين بالشأن العام، وبدلًا من ذلك، ركّزت الجامعة على وجه الحصر على إعدادهم للأسواق العالمية، وبناءً على ذلك، فإنّ معظم الجامعات تنتج مهنيين في هذه الأيام لا مواطنين مشاركين في المجتمع، يلعبون دورًا قياديًا في مجتمعاتهم وفي النضال من أجل عالم أفضل.
تراجع الحرية السياسية
انغماس الكتّاب والفنانين في العالم الأكاديمي عزز أيضًا الاتجاه نحو اختفاء المثقف المعارض للسُلطة.
وفي ظل الليبرالية الجديدة باعتبارها الأيديولوجية السائدة التي تشكّل عالمنا اليوم، تلاشت مفاهيم مثل الديمقراطية، العدالة الاجتماعية، المساواة، والصالح العام، لتحل محلها الفردانية التي تحركها النزعة الاستهلاكية، اللامبالاة الاجتماعية وتعظيم الذات، وبالتالي؛ زيادة تعزيز تراجع الحرية السياسية وانفصال النخبة المثقفة عن السعي لتحقيق القيم العالمية مثل الحقيقة والعدالة والسلام.
إلى جانب العوامل التي ساهمت في الاختفاء السريع للثقافات السياسية العاملة في المجتمعات الغربية التي تهيمن عليها طبقة المثقفين المعارضين للسُلطة، لا بُدّ لنا من إضافة عامل استيلاء الشركات على وسائل الإعلام التي تتلخص مهمتها الأساسية في التلاعب بالرأي العام وتشكيل ثقافة فاترة لا تهتم بالمجال السياسي.
هيمنة أيديولوجية الليبرالية الجديدة جنبًا إلى جنب مع اختفاء المثقفين المعارضين للسُلطة ينبئان بمستقبل قاتم للديمقراطية الغربية وقيمها.
في الواقع، يبدو أنّ إسكات تلك الأصوات التي تنتقد الشرور الاجتماعية وإساءة استعمال السلطة أصبح القاعدة في العالم اليوم.
يبدو أننا قد ابتعدنا عن زمان كان فيه المثقفون المعارضون للسُلطة لا يتحدون الوضع الراهن فحسب، بل كانت لديهم القدرة على إلحاق الرعب بالوضع الراهن نفسه، ودفع شخص مثل الرئيس الفرنسي شارل ديغول للسخرية من فكرة اعتقال الأجهزة الأمنية جان بول سارتر لإثارته التمرد ودفاعه عن الثورة الجزائرية، فقال كلمته المشهورة: “لن أسمح بسجن فولتير في عهدي”.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية/ ترجمة: التقرير