تشهد أوروبا استمرار أسوأ أزمة لاجئين تمر بها منذ حروب البلقان في نهاية القرن الماضي، ومع تضارب سياسات الدول الأوروبية بين مانع و مستقبل للاجئين، ومع تحذيرات نائب مستشارة ألمانيا، زيغمار غابرييل، من أن أوروبا تضع نفسها في موضع حرج أمام اللاجئين، حيث صرّح يوم الثلاثاء الماضي بأن التخلي عن سياسة الحدود المفتوحة سيكون خطوة كبيرة إلى الوراء في التاريخ الأوروبي، وأضاف أن أوروبا الآن تواجه خطر فقدان لياقتها، على الرغم من ذلك يستمر تدفق اللاجئين السوريين يوميًا على أبواب أوروبا، ليستيقظ العالم على صور العنف الإنساني الذي يشهده بعضهم على حدود “المجر”، وبين أحضان الألمان المفتوحة لهم باستمرار وبشكل متزايد يدعو للتفكير والشك.
انضمت بريطانيا مؤخرًا إلى الصورة، حيث أعلنت استقبالها 20 ألف لاجئ سوري، بحسب تصريحات رئيس الوزراء البريطاني دايفيد كاميرون، ولكن المستقبل ليس مشرقًا إلى هذا الحد، فبريطانيا التي كانت تخالف سياسات استقبال اللاجئين على مر الزمن، أعلنت أن بإمكانها استضافة اللاجئين السوريين حتى عام 2020، حيث يمكن لها أن تقوم بترحيلهم بعد قضائهم خمس سنوات داخل بريطانيا، كما أنها أعلنت ترحيل الأطفال السوريين عند بلوغهم سن الثامنة عشر.
اشتعلت الأحزاب المعارضة بردود فعل معاكسة لقرار رئيس الوزراء، منها لمصالح داخلية شخصية عائدة للمصلحة العامة للحزب، ومنها ما يتعلق بالإنسانية، مشيرين إلى أن قرار الوزارة لا يتسم بالشفقة أبدًا، ولا يُعد إنساني كما يذكر “كاميرون”، متسائلين ما الهدف من ترحيل طفل سوري اتخذ بريطانيا ملجًا للحياة والتعلم، كما اتخذ مجلس العموم البريطاني جلسة طارئة لمناقشة الأمر بشكل رسمي.
Minister in the Lords just confirmed refugee orphans and children brought in under Cameron's scheme will be deported at age 18.
— Paddy Ashdown (@paddyashdown) September 7, 2015
“بادي آشداون”، من الحزب الليبرالي الديموقراطي، يؤكد في تغريدة على حسابه الشخصي في تويتر على ترحيل الأطفال السوريين من بريطانيا بعد بلوغهم سن الثامنة عشر.
اختلفت ردود أفعال البريطانيين على مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض، حيث اعتبر الأغلبية أن قرار ترحيل الطفل السوري إلى سوريا يُعد غير إنساني، حيث لا يجب على اللاجئ العودة إلى وطنه إلا بعد أن يكون آمنًا، كما أن الطفل الذي احتضنته بريطانيا، واعتبرها هو بلدًا له، لا يجب معاملته بهذا القدر من عدم الرحمة.
بعد احتدام الحرب السورية لمدة أربعة سنوات، تقرر بريطانيا مؤخرًا فتح أبوابها للاجئين، ومناقشة أمور إقامتهم مع العائلات البريطانية نفسها، بحيث وصل عدد المتطوعين البريطانيين المستعدين لاستقبال عائلات سورية في منازلهم الخاصة إلى 5.000 متطوع، حيث أعلن كاميرون أن على بريطانيا أن تتحمل المسئولية في توفير الملجأ الآمن للسوريين كبقية الدول الأوروبية، إلا أن المساعدة ليست دائمة.
أكدت السياسية كارولين لوكاس، من حزب الخضر، على عدم كفاية المجهودات التي صرّح بها رئيس الوزراء في مواجهة الأزمة الحالية للاجئين السوريين في أوروبا، حيث إن المعدل الذي سمحت بريطانيا به يُعد بسيطًا جدًا في مواجهة أعداد النازحين، السماح لـ12 سوريًا بدخول الأراضي البريطانية يوميًا غير كاف على الإطلاق، وأن بريطانيا تقدر على استقبال المزيد، بحسب تصريحات كارولين.
“هل كان على بريطانيا والدول الأوروبية أن تستيقظ لحل أزمة اللاجئين بعد رؤيتها لصورة الطفل السوري المُلقى بين أمواج البحر على الشواطئ التركية، في حين لمدة أربع سنوات من الحرب، امتلأ البحر المتوسط بقوارب اللاجئين الغارقة وجثثهم التي أرست على الشواطئ بعد غرقها، أو بكل صورة دموية كان بإمكانها وقف الحرب فورًا من قبل اشتعال أزمة اللاجئين التي وصلت إلى ذروتها في الأيام الجارية؟ بالطبع لا، ما الفارق بين الطفل الذي قذفته الأمواج بعد غرقه والطفل الذي تلاشت أعضاء جسده من القصف في حلب؟ لا يوجد فرق على الإطلاق، إذن ما الذي تريده القارة العجوز من الطفل السوري بالتحديد؟
موقف ألمانيا من الأطفال اللاجئين
على نقيض موجة الترحيب الدافئ من ألمانيا باللاجئين، والتي تحتفل بها وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، والتي في أعين الكثيرين ليست بهذا القدر من البساطة والوردية، أعلنت وزارة تنظيم العائلة الألمانية عن استقبالها للأطفال السوريين تحت عمر الـ 17سنة، بشرط قبول أهلهم بإرسالهم إلى ألمانيا، وتولّي عائلات ألمانية مهمة تربيتهم وتنشأتهم على تعاليم الثقافة الألمانية، وتعليمهم اللغة الألمانية، بحيث يتم التأكد أن الطفل معافى تمامًا من أية أمراض جسدية ونفسية، كما يتم إرفاق تقرير بالوضع الصحي للعائلة، وما إذا كان للطفل أقارب يعيشون خارج سوريا، ليتم قبوله في برنامج الإغاثة الألماني لأطفال سوريا، حيث يشير البرنامج إلى مكانة الطفل في العائلة العربية، ومساعدة ألمانيا للعائلات العربية في توفير المأكل والملبس والمسكن من أجله.
النسخة العربية لبرنامج الإغاثة الألمانية للأطفال السوريين
ألمانيا تحتوى على أقل نسبة خصوبة في العالم بمعدل بـ1.4 طفل لكل امرأة، في حين أن سوريا تحتوي على 26.5 طفل كمعدل مرتفع للمواليد، الأرقام تشير بوضوح أن “الماكينة الألمانية” ستختفي من الوجود إلا إذا وجدت الأيدي العاملة المناسبة، تريد ألمانيا استقبال القادرين على العمل وليس المصابين أو من يعانون إعاقات جسدية، الأمر الذي جعل برنامج الإغاثة السابق ذكره يضع شرطًا للقبول، وهو خلو الطفل من الأمراض الجسدية والنفسية ليتم قبوله ضمن العائلة الألمانية وتربيته في ألمانيا.
الهدف الأساسي من البرنامج هو استغلال الأزمة الإنسانية التي وقع الطفل السوري ضحيتها، وجعله يد عاملة “خام” من صناعة وتنشئة ألمانية بحتة، حيث ينشأ الطفل على الثقافة الألمانية، متحدثًا الألمانية بطلاقة الألمان، فتكون عملية الدمج الثقافي، وهي التحدي الذي تواجهه أوروبا الآن في أزمة اللاجئين، أمرًا سلسًا على ألمانيا إذا نجح مشروعها الإغاثي في استقبال الأطفال.
أوربان، رئيس وزراء المجر، كان محقًا في إحدى تصريحاته التحريضية عندما قال بأن اللاجئين لا يريدون البقاء في المجر، إنهم يريدون الذهاب إلى ألمانيا, لأن المستشارة الألمانية, أنجيلا ميركل, أظهرت تعاطفًا وعرضت استقبال المزيد من السوريين ودعت الآخرين إلى القيام بالمثل.
ما هو مخطط القارة العجوز؟
على الرغم من ارتفاع الأصوات المنادية بـ”الإنسانية فوق كل شيء”، وملأ الشباب الأوروبيين شوارع القارة في ترحيب حار باللاجئين، إلا أنه من المتعارف عليه أن أوروبا، القارة العجوز، تحتاج إلى من ينعش دماءها قبل أن يصبح ربع سكانها في عمر الخامسة والستين فيما أكثر، ولا توجد فرصة ذهبية غير دمج الطفل السوري في المجتمع الأوروبي، والتأثير على هويته العربية، ليصبح يد عاملة للألمان، وفرصة اقتصادية لامعة لأوروبا.
ما بين استقبال ألمانيا الحار للأطفال، وتوفير كل سبل المعيشة الكريمة لهم، ومنحهم فرص تُمنح لحاملي الجنسية الألمانية أنفسهم، والسما ح ببقائهم في ألمانيا لمدة غير مشروطة، وما بين استقبال بريطانيا المتردد، والمرهون بتهديد بالترحيل عند بلوغ الطفل سن الثامنة عشر، وذلك لعدم احتياج بريطانيا لكثافة شبابية واكتفائها الذاتي بأبنائها، وقع الطفل السوري ضحية الحرب الطاحنة في بلاده، واستغلال الأوروبيين له، ليواجه تحدي تغيير الهوية، التي تلعب أوروبا فيه دورًا كبيرًا، خوفًا على هوية أوروبا نفسها، الأمر الذي يجعل أوروبا مُتهمة في أعين البعض بالنفاق السياسي واستغلال الأزمات الإنسانية من أجل المصالح الداخلية.