تصريحات نارية تلك التي أدلى بها رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان منذ أيام، قائلًا فيها بأن بلاده لا يمكن أن تحتمل المزيد من اللاجئين الذين يمكن أن يتحولوا لإرهابيين، وأنهم يمثلون خطرًا على مسيحية أوروبا، في نفس الوقت الذي بدأ فيه أنصار تلك السياسات في توزيع منشورات في العاصمة بودابِست تقولها صراحة في وجه اللاجئين: “إذا جئت إلى المجر عليك أن تحترم قوانيننا! إذا جئت إلى المجر عليك ألا تأخذ من المجريين وظائفهم!”
أتت تلك التصريحات بعد أن طُرح على الطاولة اقتراح أوروبي من جانب ألمانيا وفرنسا مفاده أن تتم مشاركة أعباء اللاجئين القادمين إلى أوروبا بتقسيم أعدادهم بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، في نظام يأخذ في الاعتبار بالطبع الفروق الديمغرافية والاقتصادية بين الدول الكبيرة والصغيرة، وهو ما يعني أن تضطر المجر لتسجيل عددًا محددًا من اللاجئين تمليه عليها بروكسل وفق الاتفاق، وهو اتفاق عادل بما فيه الكفاية، كما يقول أنصاره، بالنظر لكون مسألة السوريين تخص أوروبا كلها.
من ناحيته، لا يعتقد أوربان أن مشكلة اللاجئين هي مشكلة تخص بلاده، فهو يرى أنها مشكلة ألمانية محضة ببساطة لأن كل من يأتون للمجر عن طريق صربيا تكون وجهتهم الأساسية ألمانيا، وهم يستخدمون المجر فقط لكونها جزءًا من مجموعة الشنغِن التي تتمتع الدول العضوة فيها بحرية التنقل بينها، وهو ما يعني قدرة اللاجئين على التحرك مباشرة إلى أي بلد أوروبي يريدون فور وصولهم للمجر، والذي يكون في الغالب ألمانيا أو فرنسا أو النمسا، أو ربما دول إسكندنافيا في الشمال.
اللافتات المجرية في الشوارع تحذر اللاجئين من سرقة وظائف المجريين
لماذا يتضرر أوربان إذن من اللاجئين الذي لا يقصدون بلده لذاتها؟ لأن قانون دابلِن 3 الخاص بالاتحاد الأوروبي يقول أن كل الدول التي تستقبل هؤلاء اللاجئين يحق لها أن تعيدهم إلى البلد الأصلي الذي أتت منه من داخل الشِنغِن، وهو المجر في هذه الحالة، إما لإعادة دراسة حالاتهم، أو حتى لرفض لجوئهم إليها، وهو ما يستتبع أن يظلوا عالقين في المجر إن لم تنجح السلطات في بودابِست أن تقنعهم بالعودة لبلادهم أو الخروج من الشِنغِن، وهو ما تقول بودابِست أنها لا تستطيع تحمّله.
في رده على التصرفات المجرية تلك، خرج وزير الداخلية النمساوي يوحنا ميكل لايتنر شاجبًا بقوة قرار المجر ترحيل اللاجئين وعدم الانصياع لـ”دابلِن 3” وإطلاق تلك التصريحات المتطرفة من جانب رئيس الوزراء، “على أي شخص أن يقبل فكرة أوروبا المفتوحة حدودها بين أعضائها أن يتبع قوانين الشِنغِن، وذلك يتضمن احترام قواعد دابلِن،” هكذا صرح لايتنر بينما اشتعلت معركة كلامية جديدة بين القيادة الأوروبية في بروكسل وسلطان أوربان في بودابِست هي ليست الأولى كما يمكن أن نعرف من النظر في العلاقات المتدهور مؤخرًا بين الطرفين.
الـ”فيكتاتور” والديمقراطية غير الليبرالية
يرى كثيرون أن أوربان يفتعل تلك المشاكل ليكسب أرضية جديدة بين المجريين الذين يزداد جنوحهم نحو اليمين القومي المتطرف المتمثل بحركة يوبيك Jobbik الصاعدة، والتي حصلت على 20٪ من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة وتُعَد التهديد الرئيسي لحزب فيدَس Fidesz الذي يرأسه فيكتور أوربان، وهو رأي قوي بالنظر لكون اللاجئين قد أمضوا أشهرًا طويلة يمرون فيها بسلام عبر المجر وإلى ألمانيا دون ضجة، إلا أن إدارة أوربان قررت فجأة أن توزع استطلاعات على المواطنين تسألهم فيها عن رأيهم باستضافة اللاجئين، ثم شرعت في وضع تلك اللافتات التحريضية ضدهم دون سبب وجيه.
أنصار حركة يوبيك اليمينية المتطرفة والرائجة بين الشباب
لم تكتفي حكومة فيدَس بذلك، بل استغلت مسألة المهاجرين لتعزيز سلطانها التنفيذي المتنامي ، حيث عدلت قوانين الطوارئ، والتي تشير الآن إلى أن وجود أكثر من 500 لاجئ شهريًا هو وضع يستتبع تلقائيًا إعلان قانون الطوارئ، وهو ما تقول الحكومة أنه يضمن قدرة الجيش والشرطة على استخدام القوة اللازمة لكبح أي محاولات من اللاجئين إحداث الفوضى، إلا أنه في الحقيقة مجرد تحرك جديد من أوربان لتشديد قبضته في الداخل، في دولة لم تعد ديمقراطية بالمعايير الأوروبية كما يذهب أغلب المحللين، أو دولة ديمقراطية ولكن بدون المبادئ الليبرالية الغربية illiberal democracy كما وصفها أوربان في خطاب طويل عام 2014 هاجم فيه الرأسالمية رغم تبشيره بها قبل 15 عامًا حين كان من الطلاب الثائرين ضد الحكم السوفيتي (الخطاب هنا بالإنجليزية).
في المجر تحت حُكم فيكتور أوربان، والمعروف في أوساط عدة بالـ”فيكتاتور”، قامت الدولة لأول مرة في العالم ربما بسن قانون يفرض ضريبة على استخدام الإنترنت شهريًا إذا تعدت كمية البيانات المستهلكة واحد جيجابايت، وهو قرار اعتبرته منظمات حقوقية عدة ضربة ضد حرية التعبير ومحاولة للضغط على الطبقات الوسطى المعارضة لأوربان، ولم يكن غريبًا خلال أيام قليلة أن يتهم أوربان هذه المنظمات بالعمل لصالح دول “غربية” وشن حملة ضدها في الإعلام والتضييق عليها سياسيًا، وهي دول تتبع النموذج “الغربي” الذي عفا عليه الزمن في حين أن النجاح الاقتصادي والسياسي ممكن بدونه كما تثبت بذلك الصين وتركيا وسنغافورة، هكذا قال أوربان مؤخرًا.
“غربية” هو الوصف الذي يستخدمه أوربان باستمرار للإشارة لأشياء كثيرة لا تعجبه في الاتحاد الأوروبي أو في القيم الرأسالمية والليبرالية التي من المفترض أن تلتزم بها المجر كعضو في الاتحاد، وهي مسألة لا تقتصر فقط على رغبته في تشديد قبضته في المجر، التي يشير لها البعض الآن باعتبارها ديكتاتورية ناعمة، ولكن وصل إلى توجهاته الخارجية التي يُبدي فيها تحيّزًا واضحًا للزعيم الروسي فلاديمير بوتين، والذي استقبلته بودابِست بعد أزمة أوكرانيا في يونيو 2014، ضاربة عرض الحائط اتفاق الدول الأوروبية على عدم استقبال بوتين رسميًا في أي من عواصمها احتجاجًا على تصرفاتها، وهي سياسات أيضًا يحاول بها أن يحتوي القواعد الشعبية لحركة يوبيك، والتي ترى أن المجريين شعب غير غربي، وينحدر من أصول طورانية آسيوية.
أوربان وبوتين في بودابِست
في هذا السياق، يُمكِن فهم اتجاه بودابِست مؤخرًا لتعزيز اعتمادها على الغاز الروسي، والتعاون مع موسكو في مجال الطاقة النووية، وتقديم الدعم الكامل لمشروع “توركيش ستريم” لتدشين خط غاز يمر من روسيا وعبر تركيا ثم إلى اليونان وبقية دول البلقان وشرق أوروبا، وهو مشروع دشنه بوتين مع نظيره التركي رجب طيب أردوغان مؤخرًا بعد فشل جهود بوتين في تمرير مشروع لخط غاز يمر تحت البحر الأسود ويصل لبلغاريا، نظرًا لرضوخ بلغاريا للضغط الأوروبي بعدم التعاون مع بوتين.
لماذا تسكت أوروبا عن أوربان؟
السؤال الآن هو: لماذا لا تفعل أوروبا شيئًا حيال أوربان أو تحاول الضغط عليه ليلتزم بمبادئها الغربية؟ ببساطة لأنها تدرك أن البديل هو يمين أكثر تطرفًا من اليمين الذي يمثله حزب فيدَس، وهو واقع في بلدان أوروبية كثيرة يجتاحها اليمين منذ الأزمة المالية عام 2008 احتجاجًا على هيمنة مؤسسات الاتحاد الأوروبي الفاشلة كما تراها تلك الشرائح المعارضة، وهو ما يدفع بروكسل لاحتواء الحكومات اليمينية المخالفة لها بدلًا من الضغط عليها ومن ثم تحويل قواعدها الشعبية نحو حركات أكثر راديكالية، وهي نفس الاستراتيجية التي يتبعها الحزب المحافظ في بريطانيا لاحتواء حزب يوكيپ اليميني المتطرف، مما يفسر مواقفه غير المرحبة باللاجئين هو الآخر.
فيدس هو الحزب الوحيد الذي يمكن أن يُبقي على حركة يوبيك تحت السيطرة إذن، هذا ما توصل له تقرير صدر مؤخرًا عن المجلس الألماني للعلاقات الخارجية DGAP، وعلى الرُغم من أن مؤلفه كلاوس فون دوهاني، عُمدة هامبورج المنتمي للحزب الديمقراطي الاجتماعي، معروف بدعمه لأوربان على المستوى الشخصي، إلا أن مواقفه تلك منتشرة بين الكثير من سياسيي أوروبا، والذين تتراوح مواقفهم تجاه أوربان بين السكوت التام عن مشروعه بتحويل المجر إلى دولة غير ليبرالية كما سمّاها، إلى مداعبته والسخرية منه في المؤتمرات باعتباره ديكتاتورًا، كما فعل رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر أثناء إحدى القمم الأوروبية، حيث استقبل أوربان قائلًا “أهلًا بالدكتاتور” ثم صفعه مداعبًا على وجهه.
يونكر يصفع أوربان مداعبًا ويصفه بالديكتاتور
في بوادبِست الآن، وبينما ينتشر السجال حيال الاتحاد الأوروبي، تلفت الانتباه اللافتات القومية هنا وهناك محذرة المهاجرين من الاستحواذ على وظائف المجريين ومطالبتهم باحترام قوانين المجر، وبالنظر لوجود عدد ضئيل من المهاجرين فيها، وتوجه اللاجئين لها كمحطة لألمانيا ليس إلا، يبدو أن الجميع يدرك أنه لن ينعم بحياة جيدة تحت حُكم الفيكتاتور ولا بوجوده في ظل مجتمع يزداد تطرفًا مقارنة بما سيحظى به من معاملة أفضل في ألمانيا والنمسا، ويبدو أن تلك اللافتات موجهة في الواقع للناخبين المجريين لتقول لهم أن أوربان يتمسك بمواقف قومية، وأنهم ليسوا بحاجة للتصويت لحركة يوبيك، وهو ما يريده أوربان بالضبط من كل تلك الضجة والتصريحات، وهي مواقف تسكت عنها أوروبا، ليس حفاظًا على مسيحيتها، ولكن توجسًا من صعود يوبيك الذي تخشاه هي الأخرى.
المسيحية إذن ليست على جدول أولويات أوربان كما قد يبدو للوهلة الأولى من تصريحه الشهير ولا حتى أوروبا أو الغرب الذي تتسع الهوة بينه وبينها باستمرار، كما أنه ليس ثمة دليل على كراهيته للإسلام كما يبدو، والذي وصفه قبل ثلاثة أشهر فقط باعتباره هدية روحانية وفكرية عظيمة للعالم بأسره، وذلك أثناء المؤتمر الصحافي المشترك مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي في بودابِست، والذي أثنى فيه السيسي على موقف المجر الإيجابي من مصر رُغم استمرار المواقف السلبية في “بلدان أخرى،” في إشارة إلى دول أوروبية لا تزال متحفظة على التعامل مع النظام المصري الحالي، وهو موقف مفهوم بالطبع للفيكتاتور وصديق الروس الذي أمر بمنع الصحافيين من الأسئلة في مؤتمره مع السيسي.