ترجمة وتحرير نون بوست
أنتجت انتخابات 7 يونيو في تركيا صورة سياسية جديدة، فقدت فيها الأحزاب السائدة بعضًا من مؤيديها، بالتلازم مع ارتفاع نسبة مؤيدي الأحزاب المعارضة التي تركز على الهوية، حيث رأى الحزب الحاكم، حزب العدالة والتنمية المحافظ، انخفاض نصيبه من الأصوات بفارق تسع نقاط مئوية مقارنة مع نتائج الانتخابات العامة لعام 2011، حيث انخفضت نسبة تصويته من حوالي 50% من الأصوات إلى حوالي 41% في الانتخابات الأخيرة.
وعلى الرغم من طفافته، بيد أن الحزب المعارض الرئيسي، حزب الشعب الجمهوري العلماني، شاهد أيضًا انخفاضًا وتراجعًا صغيرًا في نسبة تصويته، بمقابل ارتفاع نسبة أصوات الأحزاب الممثلة للقومية التركية والكردية، ورغم أن هذه الزيادة كانت معتدلة بالنسبة لحزب الحركة القومية، بيد أنها كانت مذهلة بالنسبة لحزب الشعوب الديمقراطي الموالي للأكراد، والذي تضاعفت حصته من الأصوات؛ فتقليديًا، ترواحت حصة الأحزاب الموالية للأكراد من الأصوات حول نسبة الـ6.5%، ولكن في الانتخابات الأخيرة تلقى حزب الشعوب الديمقراطي أكثر من 13% من مجمل الأصوات.
على الرغم من أن حزب الشعوب الديمقراطي يرفض تسميته بحزب القومية الكردية، كونه يسعى لتصوير نفسه كحزب يساري ليبرالي، بيد أنه لا يزال غير قادر على التملص من صفته الكردية القومية؛ فبغض النظر عن النكهة اليسارية الليبرالية الطفيفة التي طعّمت أصواته، كانت الغالبية العظمى من الناخبين الذين أدلوا بأصواتهم لصالح حزب الشعوب من الأكراد، وكانت مطالبه وطموحاته التي تتعلق بالقضية والقومية الكردية من العوامل الأساسية التي تمخضت عن دعم الأكراد له في الانتخابات، وهذه الصورة تتماشى حقيقة مع الاتجاه السياسي الجاري ضمن تركيا منذ فترة زمنية ليست بالقصيرة، حيث يمكن توحيد السياسة التركية ضمن محورين أساسيين، المحور العرقي والمحور الديني، وهذا التوحيد يتعلق إلى حد كبير بالأيديولوجية التأسيسية لتركيا وهويتها الوطنية، التي كانت مؤلفة من مزيج من العلمانية والقومية التركية والتوجه الغربي.
السياسات التركية المتركزة على الهوية
كنتيجة طبيعية لهذه الهوية التي تتمتع بها الدولة التركية، كان يُنظر إلى الإسلام باعتباره نقيضًا للعلمانية، وإلى الهوية الكردية باعتبارها تهديدًا للهوية التركية للدولة، وإلى الشرق الأوسط كنسيج جغرافي يضم كل من هذه العقيدة والهوية كنقيض للتوجه الغربي للبلاد، وبالتالي تمت عملية حشد واستنفار الإسلام كأيديولوجية، والكردية كهوية، والشرق الأوسط كجغرافية جامعة.
هذه القراءة شكلت جوهر الفكر الكمالي الرسمي الذي توقف العمل به اليوم إلى حد كبير في تركيا، كما شكلت حدود الوسط السياسي السابق لهذا الفكر، وفكرة الهوية التركية خلقت طائفتان من الفائزين والخاسرين، فعلى الصعيد الديني، احتضن العلمانيون هذه الفكرة، بينما كان الإسلاميون والمحافظون أكبر ضحاياها، وبالمثل، على الصعيد العرقي، دعم القوميون الأتراك هذه الفكرة بكل إخلاص، بينما سقط الأكراد ضحية لها، وبالتالي قاوموها ورفضوها بشدة.
في وقتنا الحاضر، أصبح القسم الإسلامي والمحافظ في المجتمع يشكل القاعدة الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية، في حين يشكل القطاع العلماني قاعدة حزب الشعب الجمهوري، وبالمثل، فإن قطاعات المجتمع التي ترى بأن مرجعيتها الأساسية نابعة من هويتها صوتت بحسب عرقها إما لحزب الحركة القومية أو لحزب الشعوب الديمقراطي، وعلى مدى العقد الماضي، تم دمج هذه الصورة، حيث أصبح الفضاء السياسي ساحة لمطالب الهوية المتضاربة، وبالتالي أصبح بناء وسطية سياسية ضمن هذه الأحوال مهمة شاقة للغاية.
الوسطية السياسية الكمالية التركية
تاريخيًا، تشكّل اتجاه الوسط السياسي التركي حول اليمين الوسطي واليسار الوسطي، وكانت المشكلة الكامنة بهذا الوسط هو أنه لم يكن ديمقراطيًا كما لم يعكس صورة أولوية وهيمنة السياسة الديمقراطية، كونه كان يمثل تقسيمًا للعمل ما بين القوات المنتخبة وغير المنتخبة، أي الجيش والنخب البيروقراطية المدنية، داخل النظام، وضمن هذا التسلسل الهرمي للسلطة، كانت للقوات غير المنتخبة الأولوية على تلك القوى المنتخبة، وبطريقة أو بأخرى كان النظام التركي يعمل وفق هذا المنهج منذ ظهور التعددية الحزبية في تركيا، التي ظهرت نظريًا في عام 1946 وعمليًا في عام 1950، لأن أول انتخابات تنافسية مزعومة أجريت في تركيا في عام 1946، اعتمدت على نظام تصويت مفتوح متلازم مع نظام إحصاء أصوات مغلق.
في هذا الإطار، لم تكن أحزاب الوسط اليمني واليساري أقل شأنًا من نظام الوصاية المدنية والعسكرية فحسب، بل إنها كانت تعمل أيضًا بمثابة حصن يقف بمواجهة المطالب التي تركز على الهوية والأيديولوجية النابعة من المحيط السياسي والفكري والعرقي داخل هذا النظام، حيث أعطت الأولوية للأجندة التطويرية على حساب الأجندة الديمقراطية، وصمّت آذانها عن الاستجابة للمطالب الشعبية المتنامية التي تركز على الأيديولوجية والهوية؛ ففي الوقت الذي كان فيه الوسط اليساري يحاول امتصاص وخنق الدينامية السياسية والمطالب الاشتراكية لأحزاب أقصى اليسار في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، لعب الوسط اليميني الدور ذاته تجاه اليمين الديني، المتمثل بالأحزاب الإسلامية والقومية، بدءًا من أواخر الستينيات فصاعدًا.
عندما كان هذا النظام يواجه تحديات يُثبت أمامها اختلاله الوظيفي الهائل، كان يعمد الجيش حينها للتدخل، فالتدخلات العسكرية والانقلابات التي حصلت في تركيا في أعوام 1960، 1971، 1980، و1997، جميعها كانت تهدف لتحقيق ذات الغرض، الحفاظ على الوسط السياسي كما تتصوره النخبة الكمالية المحكومة من قِبل الجيش.
ولكن هذا النظام أثبت اختلاله الوظيفي التام في مواجهة المد المتزايد من الموجات الديمقراطية التي طفقت في جميع أنحاء العالم إبان نهاية الحرب الباردة، مما ساعد على انتشار موجات الديمقراطية التي وصلت إلى شواطئ غالبية العالم البشري لأول مرة في التاريخ الحديث، محدثة بذلك زيادة ببروز وبإصرار الأحزاب التي تركز على الهوية، والتي باشرت بالمطالبة بتحقيق المزيد من الديمقراطية ومنح المزيد من الحقوق والحريات في تسعينيات القرن الماضي، وبدأت حينئذ الأحزاب الإسلامية والكردية والتركية باكتساب الزخم بشكل متصاعد.
أزمة الوسطية السياسية
كان صعود السياسة الإسلامية والكردية يطرح إشكالية خاصة بالنسبة للنظام التركي حينها، وكان النظام ينظر إلى هذه الإشكالية على أنها تمثل تهديدًا وجوديًا لبقائه، حيث عمد إلى تجاهل مطالب هاتين الفئتين بالتعويل على فكرة الإسلام السياسي بالنسبة للسياسة الإسلامية، والأمن القومي بالنسبة لإشكالية السياسة الكردية، ولكن التهديد الأكثر خطرًا على هذا النظام تفاقم من خلال حزب الرفاه الإسلامي، الذي اجتاح السلطة في انتخابات عام 1995، بعد أن سبق له تحقيق انتصار مظفر في الانتخابات المحلية لعام 1994، والتي فاز من خلالها بحكم إسطنبول وأنقرة.
بالإضافة إلى ذلك، ومع وصول الحرب بين تركيا وحزب العمال الكردستاني إلى ذروتها، جاء أول حزب سياسي كردي، حزب العمل الشعبي إلى حيز الوجود في عام 1990، وهذه التطورات هزت كيان المؤسسة السياسية في تركيا والأيديولوجية الوسطية الرسمية، وحينها استجابت الدولة لهذا التحدي من خلال توجيه انقلاب آخر، أصبح معروفًا باسم عملية 28 فبراير، في عام 1997، بغية الإطاحة بالحكومة الائتلافية التي يقودها حزب الرفاه، ولكن هذا لم يؤد إلا إلى تفاقم أزمة الوسطية السياسية والنخب السياسية والأيديولوجية الرسمية، حيث تم وضع شرعية الدولة والأيديولوجية الرسمية على المحك، وكذلك شرعية الوسطية السياسية التي تشكلت حول أحزاب اليمين واليسار الوسطي، وباشر الجمهور يرى بوضوح بأن العناصر المنتخبة التابعة للوسط السياسي انحنت وخنعت للعناصر غير المنتخبة، وأنها غير قادرة على تحقيق مطالب الجمهور التي تتركز حول الهوية والأيديولوجية.
البحث عن وسطية سياسية جديدة
رغم تحطم الوسطية السياسية القديمة في تسعينيات القرن الماضي، بيد أن الوسطية السياسية الجديدة كان عليها الانتظار، وفي واقع الأمر مازلت تنتظر حتى الآن، للبزوغ لتحل مكان الوسطية القديمة؛ فحزب العدالة والتنمية، الذي جاء إلى السلطة في عام 2002، فكك الوسط السياسي القديم ومؤسساته، ولكنه لم يعمد إلى تأسيس وسطية سياسية جديدة، ومن بين العوامل الأخرى المساهمة، كان الصراع بين حزب العدالة والتنمية وبين التحالف العسكري البيروقراطي، والاعتقاد السائد بين أنصار المؤسسة السياسية السابقة بقدرة النظام القديم على الرجوع إلى الحياة، هما أكثر سببين أضرا بشكل خاص بجهود تأسيس وسطية سياسية جديدة.
هذه المعركة استمرت إلى حد كبير حتى عامي 2010 و2011، وللأسف، عمدت المكونات السياسية المدنية الأخرى، وخاصة حزب الشعب الجمهوري العلماني، إلى الإلقاء بثقلها لدعم هذه القوى غير الديمقراطية، والتي ساعدت، إلى جانب عوامل أخرى، على جعل مهمة تأسيس وسطية سياسية جديدة غير قابلة للتحقيق؛ ففي نهاية المطاف، تأسيس مركز الوسط السياسي يتطلب، على أقل تقدير، دعمًا ضمنيًا من الأحزاب السياسية الرئيسية الأخرى.
ومن هذا المنطلق، كانت انتخابات عام 2011 فرصة سانحة لتأسيس وسطية سياسية جديدة، حيث تمخضت عن انتصار حاسم لحزب العدالة والتنمية الذي ظفر بحوالي 50% من الأصوات، محدثًا بذلك هزيمة نكراء لنظام الوصاية بقيادة الجيش، وحينها أصبح من الواضح أنه لا يوجد أمل لإعادة إحياء النظام السابق، وهذا التفكيك الحازم للنظام القديم كان ينبغي أن يمهد الطريق لبناء نظام جديد، على الأقل من الناحية النظرية، ولكن مع ذلك لم يبرز شيء حتى الآن.
السباق المحموم لتعريف تركيا
بدلًا من بناء هذا النظام الجديد، شهدت تركيا للأسف، منافسة شرسة بين الجماعات المجتمعية والسياسية المختلفة لإعادة تعريف الملامح الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية للبلاد منذ عام 2011، وإبان إجبار الجيش للعودة إلى ثكناته وتقليص النفوذ غير المبرر لنظام الوصاية البيروقراطي، أصبحت السياسة هي اللعبة الوحيدة في الدولة القادرة على صياغة مستقبل البلاد، ويمكننا القول إنه لأول مرة منذ تأسيس تركيا الحديثة، أو حتى منذ آخر حقبة للإمبراطورية العثمانية، أصبح يمكن تعريف الفضاء العام والسياسي في تركيا من قِبل المدنيين من خلال السياسة الديمقراطية.
نتيجة لافتقارها لثقافة التراضي والتوافق، وتسييسها على أسس الهوية، رأت جميع الفئات الاجتماعية والسياسية في الدولة أن مصالحها أصبحت على المحك؛ فنظرًا للهيمنة السياسية لحزب العدالة والتنمية، والتي تمثلت بشغر منصب رئاسة الجمهورية، رئاسة الوزراء، وجميع المقاعد في مجلس الوزراء، ولأول مرة من قِبل شخصيات تابعة لذات الحزب السياسي، كانت المعارضة العلمانية تخشى بشكل خاص من هذه الفترة الجديدة.
وبعد أن تم تجريدها من شبكة أمانها السياسية غير الديمقراطية التي كانت تحوزها، والمتمثلة بالنخب العسكرية والمدنية البيروقراطية، ونتيجة لعدم قدرتها على بناء قوة سياسية ملائمة قادرة على الوقوف سياسيًا لتحدي هيمنة حزب العدالة والتنمية الحاكم، رأت الطبقة العلمانية نفسها غير ممثلة ضمن النظام السياسي على نحو متزايد، خاصة وأن الحزب الذي يحصل على الأغلبية الساحقة من أصوات هذه الطبقة، حزب الشعب الجمهوري، أثبت بأنه متهالك وغير كفء، وبالتالي غير قادر على تمثيل مطالبها وتطلعاتها في المجال السياسي.
الخلل الوظيفي القائم ضمن السياسة التقليدية، إلى جانب التركيز المكثف لحزب العدالة والتنمية على موضوعات الهوية، بالتلازم مع اللهجة القوية لرئيس الوزراء آنذاك ورئيس الجمهورية اليوم رجب طيب أردوغان، هي عوامل ساعدت باجتماعها على تمهيد الطريق لبزوغ سياسات الشوارع، ورغم أهمية العوامل الضمنية مثل لهجة أردوغان، الاستخدام المفرط لعنف الشرطة، وعدم وجود آلية وسيطة لامتصاص الغضب الذي اندلع خلال احتجاجات جيزي بارك، بيد أن هذه العوامل غير مسؤولة بشكل مباشر عن الغضب الذي تراكم على مر السنين و الذي اندلع أخيرًا من خلال احتجاجات جيزي، كون العوامل الهيكلية المذكورة آنفًا هي التي أسست الخلفية الحقيقية لهذه الاحتجاجات.
مع تحول البلاد بشكل أكبر نحو سياسات الاستقطاب، وخاصة على المستوى السياسي، أصبح تشكيل المركز الوسطي السياسي الجديد تحديًا هائلًا وصعبًا، لأن جميع الحسابات السياسية في ذاك الوقت كانت مسلطة نحو الانتخابات الثلاثة المتتالية التي وقعت بين عامي 2014 و2015، حيث كان يُنظر إلى هذه الانتخابات على أنها نقاط تحول حاسمة في عملية إعادة تعريف تركيا، ولكن في الوقت الذي بلغ فيه التوتر السياسي ذروته قبل الجولة الأولى من الانتخابات الثلاثة المتمثلة بانتخابات الإدارة المحلية في 30 مارس 2014، انخفض هذا التوتر بشكل تدريجي بعد ذلك، وفي الواقع، كان التوتر والاستقطاب السياسي على أقله قبيل الانتخابات العامة في 7 يونيو 2015.
الصورة السياسية التي كان من المتوقع أن تظهر بعد هذه الدورات الانتخابية الثلاث أصبحت أكثر وضوحًا، وبعض المخاوف التي كانت تساور أحزاب المعارضة ثبت أنها إما بعيدة المنال، كالمخاوف التي طفقت حول تحول البلاد إلى النظام الرئاسي التنفيذي، أو ثبت انخفاض التوتر السياسي الذي لا أساس له حولها، وحقيقة أن حزب الشعب الجمهوري تخلى عن مواضيعه العلمانية ومشاكله حول الحريات الدينية، وانخرط في محادثات مستفيضة مع حزب العدالة والتنمية لتشكيل حكومة ائتلافية، تشهد على ذلك، وهذا يوفر لتركيا فرصة سانحة يجب على الطبقة السياسية أن تغتنمها.
الخطر الذي يواجه السياسة المعاصرة في تركيا
على الرغم من وجود هذا السياق القابل للتحقيق، بيد أنه يوجد بعض الاتجاهات الأخرى التي لا تبشر بالخير فيما يخص بناء مركز سياسي وسطي جديد؛ فبالإضافة إلى طبيعته غير الديمقراطية، كان وجها القصور الأساسيين اللذين يشوبان النظام السياسي السابق يتمثلان بقمعه لجماعات الهوية والأيديولوجية، سواء الأكراد أو الإسلاميين أو الاشتراكيين، وتجاهله لمطالب هذه الجماعات، ولكن اليوم السياسة التركية المعاصرة تواجه نوعًا جديدًا من الخطر، يتمثل بطغيان جماعات الهوية، مما يجعل الوسطية السياسية قائمة على خليط من جماعات الهوية بدلًا من ارتكازها على مجتمع سياسي متماسك.
رغم أن التحرر الجزئي من الهويات التي تم حشدها واستنفارها، والتي تم قمعها بالمقابل هو تطور مرحب به، بيد أن تركيا أصبحت تواجه اليوم خطر ارتهانها لسياسات الهوية، وانتقال باقي الموضوعات الاجتماعية والسياسية لتصبح ذات أهمية ثانوية بمواجهة هذا الموضوع الجامع؛ فخطر خلق سياسات هوية معزولة ومنفردة يظهر اليوم بشكل حقيقي وملموس، ونظرة إلى الوضع المعاصر للعراق وسورية أو للوضع المتداعي في يوغوسلافيا الأمس والبوسنة والهرسك، كافية لفهم الخطر الذي قد يشكله وجود مجتمع منقسم على طول خطوط الصدع العرقية والطائفية والدينية، ودور هذا المجتمع في وهن الهوية الوطنية وإيذانه ببدء نزاع المطالبات القائمة على الولاءات العرقية والدينية والطائفية.
فعلى سبيل المثال، أهمية الهوية العراقية أو السورية تتضاءل للأسف أمام الأهمية التي باتت تتوجه اليوم نحو الهوية الشيعة أو السنية أو الكردية، وإن عدم وجود هوية سياسية شاملة لجميع أفراد المجتمع هي أحد الأسباب الجذرية والرئيسية للعلل التي تعاني منها هذه البلدان؛ لذا فإن التأسيس لقيام مثل هذه الهويات المعزولة في أي تنظيم سياسي يضر بالجهود الساعية لخلق مجتمع سياسي ومدني يتجاوز الهويات ويخترق الولاءات الدينية والعرقية والطائفية.
الخطر الآخر يتمثل بعودة نشوب المعركة ما بين حزب العمال الكردستاني وتركيا، وهو الأمر الذي يستبطن القدرة على إعادة دفع تركيا مرة أخرى للتوقف عن استدعاء الهويات التي تم استنفارها وأمننتها (أي تحويلها لقضية أمنية وليست قضية سياسية) سابقًا، ورغم أنها ليست القضية الوحيدة، بيد أن القضية الكردية هي المرشح الأساسي لعملية إعادة الأمننة ، وباعتبار أن حزب العدالة والتنمية عمل كما لم يعمل أي حزب آخر لنزع الصبغة الأمنية عن التعامل مع الهويات الكردية والإسلامية، وبالتالي فإن الحزب يجب أن يكون حريصًا على عدم التفريط بهذه النجاح الذي يعتبر من أهم نجاحاته خلال فترة حكمه، وينبغي عليه المضي قدمًا في سياسته الساعية لنزع أمننة الهويات، وهذه المرة ليستهدف بشكل خاص المجتمع التركي العلوي الذي يمثل أقلية دينية.
بالمختصر، وعلى الرغم من بعض السيناريوهات السيئة التي قد تنتظرها مستقبلًا، إلا أن تركيا تحوز جميع المؤهلات التي تحتاجها لتشكيل مركز وسطي سياسي جديد، ابتداءً من الشعور العميق باندثار النظام السياسي الكمالي السابق ووسطيته السياسية، ومرورًا بالقناعة المتزايدة بعدم إمكانية سحب الاعتراف بحقوق وحريات الإسلاميين والأكراد، وانتهاءً بالوعي المتزايد في صفوف المعارضة العلمانية المتمثل بوجوب تعويلها على الجمهور وحده لصياغة المجال العام والسياسي، لأنها من غير المرجح أن تحشد ما يكفي من القوة من خلال اعتمادها على القوى غير الديمقراطية من النخب العسكرية والمدنية البيروقراطية لتصبح لاعبًا سياسيًا كبيرًا، ولكن مع ذلك، فإن إنشاء مركز سياسي وسطي جديد يتطلب مستوى معين من التراضي والتوافق بين الجماعات السياسية المختلفة لتحويل هذا الافتراض إلى واقع ملموس.
إذن، يتوجب على النخبة السياسية أن تستغل هذه الفرصة لبناء وسطية سياسية جديدة بشكل فعلي في أعقاب الانتخابات المبكرة في 1 نوفمبر، لأن البديل عن ذلك هو عدم الاستقرار السياسي وانعدام اليقين اللذان سيبتلعان تركيا لعدة سنوات قادمة.
المصدر: ميدل إيست آي