أبرز ما يشير إليه تولي الإيرانيون قيادة المفاوضات مع أحرار الشام في معركة الزبداني هو الأهمية الإستراتيجية البالغة للمدينة، وتداعياتها التي تتجاوز يقينًا موقعها الجغرافي إلى اتخاذ ما يلزم من إجراءات للتمكن من خيوط الخطة البديلة وهي التمسك بحدود “سورية المفيدة”، في حال لم يتمكن النظام من السيطرة على كل سورية، وإفراغ هذه المنطقة من السكان غير المرغوب بهم.
والملمح الذي تشي به هذه الرعاية الخاصة هو أن تدخل الإيرانيين لا يأتي من أجل السيطرة على مدينة ذات أهمية إستراتيجية عالية فحسب، وإنما يأتي بوصفه مفاوضات مع أكبر فصيل عسكري في سورية على حزمة أهداف متكاملة، يستتبع حل عدد من القضايا العالقة في طريق السيطرة التامة على البلاد، أو على المفيد منها بحسب الأدبيات اللبنانية.
يؤكد ذلك الساعات التي قضاها الطرفان في المفاوضات، والتطرق لأمور كبرى مثل الإفراج عن 40 ألفًا من المعتقلين بسجون الأسد يخرجون بالتوازي مع مدنيي بلدتي الفوعة وكفريا الشيعيتين في ريف إدلب.
كما يشير هذا التدخل المباشر بطبيعة الحال، إلى ضعف يعتري مفاصل نظام الأسد السياسية والدبلوماسية، فضلاً عن الوضع المهلهل الذي آلت إليه قواته العسكرية والأمنية، إضافة إلى ضعف ثقة الإيرانيين بحليفهم في إدراة هذه المرحلة الحساسة من عمر الثورة السورية، وما يزيد في ترجيح هذا الأمر، تسارع الحراك الروسي والإيراني خلال الأسابيع القليلة الماضية، تلافيًا لخسائر إضافية على المستوى الميداني، وتسريعًا في خطوات سياسية من شأنها أن تضعف الدعم المقدم للثوار أو توقفه عبر حراك دبلوماسي نشط ترافقه ضغوط سياسية على تركيا بالتحديد.
ويرجح هذا الأمر ما تم تداوله إعلاميًا حول تدخل روسي مباشر في مجريات المعارك في سورية لصالح النظام، وبالرغم من النفي الروسي إلا أن ثقة الروس بقدرة الأسد على حسم المعركة انهارت خلال الأشهر القليلة الماضية، كما أن روسيا تأمل بمزيد من النفوذ لمنافسة السطوة الإيرانية وعدم تفردها بالساحة السورية، خصوصًا في ظل ما تم تناقله من تأييد أمريكي لهذا التدخل، أملاً بالحد من التغول الإيراني غير المنضبط بعد الاتفاق النووي.
الأهمية الجغرافية
تتمتع منطقة الزبداني بموقع ذي خصوصية عالية، يجعلها تشكل أهمية ميدانية إستراتيجية ضمن خريطة العمليات العسكرية بين الطرفين، باعتبارها مفتاحًا ميدانيًا لسلسلة مناطق تمتد على طول الجغرافيا السورية، وبالتحديد العاصمة دمشق وريفها الشمالي والغربي، وصولاً إلى مناطق الجنوب السوري، كما أنها ومن الناحية الميدانية، تعتبر نقطة وصل تبدأ من الوسط السوري وتمتد على طول شريط مناطق القلمون، وصولاً إلى الحدود اللبنانية غربًا.
وقرب المدينة من دمشق اضطر النظام بداية الثورة إلى إحكام السيطرة عليها، ونصب أكثر من 150 حاجزًا حولها، كما تعد الزبداني إحدى المدن الحدودية مع لبنان، حيث تبعد عن الحدود 8 كم، وتقع قرب الطريق الدولي الذي يربط دمشق ببيروت.
تداعيات المعركة
تخشى إيران وحلفاؤها أن تؤدي معركة الزبداني إلى فصل الجغرافيا السورية عن اللبنانية، وهو ما يعني عسكريًا إقامة واقع ميداني يساهم في تعزيز نقاط القوة لدى الثوار عبر عزل قوة مليشيا حزب الله عن الداخل السوري من خلال قطع أهم طريق إمداد للسلاح إلى جبهاته المشتعلة في سورية.
كما تضعف سيطرة الثوار على الزبداني وما حولها حزب الله في لبنان، الأمر الذي يقوي بلا شك خصومه السنة، والسلفية الجهادية منهم على الخصوص، وتداعيات هذا الأمر السياسية فضلاً عن العسكرية لا تصب في صالح الإيرانيين بعد الاتفاق النووي.
ومما يزيد في الأهمية الإستراتيجية لهذه المعركة، وقوع الزبداني في محيط العاصمة دمشق المحاصرة من قِبل الثوار من معظم الجهات؛ الشرقية والجنوبية والغربية الجنوبية، وخسارة الثوار لهذه المنطقة سيفتح بابًا يصعب إغلاقه من خسارات متتالية شمالاً باتجاه قرى وبلدات الريف الشمالي، وجنوبًا، وصولاً إلى داريا؛ العقبة الكأداء أمام النظام، وقد تحدثت مصادر مقربة من حزب الله عن ضرورة التعجيل في السيطرة على الزبداني استكمالاً لحسم الكثير من الجبهات العالقة والباردة في وادي بردى وداريا وخان الشيح.
إستراتيجيات الثوار .. بين النجاعة والمحدودية
من المعلوم أن تقدم النظام توقف تقريبًا منذ أواخر عام 2014، وأن الكفة اليوم تميل إلى صالح الثوار بصورة مستمرة وإن كان بوتيرة بطيئة، وذلك جراء تحالفات داخلية فاعلة، إضافة إلى تحييد بعض القوى التي كانت سببًا في عرقلة التقدم العسكري، وربما كذلك بسبب دعم خارجي مخصوص من قِبل قوى إقليمية غاضبة على الاتفاق النووري الإيراني.
وكان آخر توقف (مع استثناءات للجبهات التي تراوح مكانها) لقوى النظام وحليفه القوي حزب الله في القلمون، تلك المعركة التي أعد لها الحزب طويلاً على الصعيدين الدعائي والعسكري؛ إلا أن الحزب وبدهاء دعائي تحول فجأة إلى معركة الزبداني بوصفها العائق الأخير لتحقيق النصر النهائي في سلسلة الجبال الغربية لدمشق.
كانت الإستراتيجية التي اتبعها الثوار والمتمثلة في فتح جبهات ساخنة وحساسة مع النظام ناجعة إلى حد كبير لو استمرت واشترك فيها آخرون من الفصائل الكبرى، خصوصًا شرقي دمشق، إضافة إلى استكمال معركة سهل الغاب، وفتح الجبهة الأكثر تحريمًا على الثوار وهي جبهة الساحل، إضافة إلى المعارك الثلاث التي أطلقها الثوار ردًا على استهداف الزبداني وهي؛ لهيب داريا، وإدارة المركبات، ومعركة كفريا والفوعة الشيعيتين في ريف إدلب.
وعلى أهمية البلديتين الشيعيتين في إدلب إلا أنهما لا تشكلان هدفًا إستراتيجيًا، ولا تضيفان للثوار جديدًا في قائمة المناطق المحررة، حيث إنهما آخر معقلين في إدلب، المعزولة عن النظام تمامًا، والثوار اليوم يخوضون معارك أخرى جنوبًا باتجاه سهل الغاب، بحسب مصادر لبنانية، إضافة إلى أن اقتحامهما سيثير ردات فعل سلبية جراء أخطاء ربما تحدث انتقامًا من المدنيين من الأهالي، خصوصًا في ظل اهتمام غربي متزايد بالأقليات!
مسار المفاوضات
جرت حتى الآن في إسطنبول جولتان اثنتان من المفاوضات بين الجناح السياسي لحركة أحرار الشام مفوضًا من قِبل الفصائل المقاتلة في الزبداني والمجلس المحلي للمدينة، وبين الإيرانيين من جهة أخرى، في تاريخي 2 أغسطس، و12 من الشهر نفسه، أفضتا إلى هدنتين استمرتا نحو 3 أيام لكل واحدة منهما، “ولم يستفد المقاتلون والمدنيون في الزبداني من وقف النار لإدخال المؤن أو الذخيرة بسبب الحصار المشدد على جميع مداخلها”.
كان واضحًا أن الطرح الإيراني محصور بفكرة الإفراغ التام لأهالي ومقاتلي المدينة وتسليمها، وإخراج من يريد الخروج من مدنيي بلدتي كفريا والفوعة وبقاء اللجان الشعبية “أي المسلحين” فيهما، وفك الحصار عنهما عبر إخلاء محيط البلدتين من قوات المعارضة، وإدخال المساعدات الإنسانية إليهما؛ في مقابل السماح بالخروج الآمن للمقاتلين والمدنيين من الزبداني.
رفض المفاوضون من “الأحرار” هذه الشروط واعتبروها تغييرًا ديموغرافيًا في الطبيعة السكانية للمنطقة، وتهيئة للسيناريو البديل في سورية؛ بينما تمحور طرح الثوار حول إخراج آلاف من المعتقلين السوريين في سجون الأسد خصوصًا منهم النساء، وإلى إخلاء الجرحى المدنيين والمقاتلين من الزبداني، مقابل إخلاء جرحى كفريا والفوعة، وتثبيت وقف دائم لإطلاق النار بين الطرفين.
تعامل الثوار المفاوضون بنوع من الدهاء، حيث حصروا مفاوضاتهم في فك الحصار جزئيًا عن بلدتي كفريا والفوعة في مقابل خروج بالتوازي للمعتقلين من سجون الأسد، دون ذكر الزبداني التي حصر الإيرانيون كل مسار التفاوض حولها، في محاولة منهم لإفراغها من سكانها.
من الواضح أن الثوار قد استفادوا بصورة كبيرة من تجارب المفاوضات السابقة؛ حيث رفضوا بصورة نهائية كل المقترحات الإيرانية المتعلقة بخروج آمن للمدنيين والعسكريين وتسليم أسلحتهم، منعًا لتكرار سيناريو أحياء حمص القديمة ومدينة القصير.
ختامًا؛ وحده التنسيق التام بين الفصائل في الميدان، والعمل العسكري المباغت خارج الأنساق التقليدية، والتخطيط لزعزعة استقرار الكيان المزمع إنشاؤه، والوقوف السياسي الصارم ضد التوجهات الإيرانية والروسية الساعية لاستقطاع الوقت من أجل أن تستمر الأدوات التنفيذية بعملها، وحدها هذه العوامل هي التي بإمكانها أن تفشل هذا المخطط المخيف، والذي ترعاه قوى غربية بصمتها على ما تراه من خطوات جادة نحو تقسيم البلاد.