لا شك أن الطموح الحضاري والتفوق واجب إنساني وتطور طبيعي للأمم، فإحدى نظريات الجيوبوليتك تنظر للدول على أنها كائن عضوي يكبر وتزداد احتياجاته باستمرار، وهذا ما ينطبق بصورة طبيعية على إيران، فهي تعتبر من دول الطموح الإقليمي التي لا تؤهلها قدراتها الكلية للعب على المستوى العالمي، ولكنها تمتلك الطموح والقدرات الإقليمية.
لذا أعد مجلس تشخيص مصلحة النظام الإيراني مشروعًا يستهدف تحويل إيران إلى قوة مركزية في الشرق الأوسط وجنوب غربي أسيا حتى عام 2025، وقد تضمن المشروع خططًا بعيدة المدى للقطاعات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية والتكنولوجية، وتحدد هذه الرؤية “معدل النمو الاقتصادي” ليكون المتغير المركزي لتحقيق تلك المكانة.
وبناءً على ذلك، فإن السياسة الإيرانية تقوم على ثلاثة مبادئ رئيسية، تقنن رحلة صعود المشروع الإستراتيجي، وهي:
1. إيران تمثل البعد القومي والتاريخي لميراث الإمبراطورية الفارسية.
2. إيران هي الدولة الإقليمية الكبرى في المنطقة، التي تشكل هيمنتها بوابة الحضور الاقتصادي والسياسي للجمهورية.
3. والمبدأ الثالث، وهو الوقود المذهبي الذي صنعته إيران، وبسببه تم إعادة بعث الفكرة الطائفية المركزية في المجتمع الإسلامي، عبر مظلومية الشيعة، ثم تقديم ذاتها الراعي الأبوي لهم في كل مكان.
وهنا تبرز إشكالية المشروع الإستراتيجي القومي الإيراني، فالشرق الأوسط، حيث معادلات القوة لا تدوم لفترة طويلة، لأن الثابت الوحيد في هذا العالم هو التغيير المستمر، خصوصًا في منطقة مليئة بالصراعات، كما أنها تعتبر منطقة تقاطع مصالح عالمية، وأن التقدم في الإقليم يكون على حساب تراجع قوى أخرى؛ ويلاحظ أن التوسع الإيراني تزامن مع الإخفاقات الأمريكية في الشرق الأوسط متبوعًا بانسحاب أمريكي نسبي، فضلًا عن تراجع النفوذ المصري والسعودي الإقليمي، ولكن ذلك تزامن أيضًا مع عودة تركية نشطة في المنطقة.
وبالعودة إلى الجغرافيا، يتضح لنا أن الدول الثلاث التي توسعت ونشطت طهران فيها بقوة – العراق واليمن وسوريا – تقع ضمن الدائرة الأولى لأمن المملكة العربية السعودية وتركيا؛ وهما دولتان إقليميتان لا يُستهان بقدراتهما، ولا بالمدى الذي يمكن أن تذهبا إليه لحفظ أمنيهما، خاصة اليمن بالنسبة إلى المملكة، وسوريا والعراق بالنسبة إلى تركيا.
أضف إلى ذلك اختيار إيران معظم خطواتها التوسعية استنادًا للأقليات، سواء كانت سياسية أو طائفية، في مواجهة الأغلبية، وليس فقط الأغلبية في كل بلد وإنما أيضًا الأغلبية على مستوى المنطقة ككل، كما أن المشروع التوسعي الإيراني يفتقد للقيم الأخلاقية اللازمة لمبرراته، فبعد أن صعدت صورتها لدى الشعوب نظرًا لشعاراتها الثورية المعلنة، تشوهت تلك الصورة بشكل كبير بعد انكشاف أهدافها وتهديدها لثوابت الشعوب في المنطقة برغم تمسكها ببعض القضايا مثل دعم المقاومة في فلسطين، إلا أن الشعوب نظرًا لانشغالها بأحوالها الوطنية تراجع اهتمامها بفلسطين ومن يدعمها، وأصبح التركيز على أمنها ومستقبلها، المُهدد بصورة أساسية من قِبل إيران – من وجهة نظرهم -، ومن خلال هذا الوضع، لم يعد من الممكن لإيران استمرار توسعها، مع انهيار الأسس الأخلاقية لموقفها، وبالتالي، أصبحت عرضة لأي تغيير مفاجئ في موازين القوى.
ومهما كان أثر الاتفاق النووي على عوائد إيران المالية التي تمكنها من التحرك ودعم حلفائها، إلا أن البعد البشري في الصراع يؤدي دورًا أكبر من البعد المادي؛ لذلك فإن العوائد المالية لن تغير الشيء الكثير بالنسبة إلى واقع الصراع باستثناء إدامته لأطول مدة، ويجب الانتباه إلى أن هناك فرق بين إطالة أمد الصراعات وتحقيق نفوذًا أكبر في المنطقة.
والجدير بالذكر، أن إيران لم تحسن استخدام أدوات قوتها الصلبة والناعمة، فعلى سبيل المثال خطَّت إستراتيجية تعتمد الدفع بحلفائها للاندماج في العمل السياسي والسيطرة على صنع القرار، بالمزاوجة بين الوسائل الصلبة والناعمة، كما هي حال حزب الله في لبنان، وحاولت تكرار تجربته في اليمن بواسطة الحوثيين، في حين تبقى هي تقود من الخلف، وبذلك تحقق مصالحها، حيث تضمن توجيه مقدرات تلك الدول لخدمة أهدافها، والسيطرة عليها بطريقة غير مباشرة.
وعند الأخذ بعين الاعتبار أن حلفاء إيران في جُلِّ هذه الدول أقليات، أو على الأقل توجد هناك قوى سياسية أخرى وازنة لا يمكن استبعادها نهائيًّا، يصبح هذا الوضع أقصى مدى لحدود النفوذ الإيراني في المنطقة.
إذًا، من الواضح أن إيران استطاعت التمدد خارج حدودها وفرض أجندتها الإقليمية، مما أقنع الغرب على التعامل معها كقوة وازنة في الشرق الأوسط، إلا أنها فقدت هيبتها والكاريزما المبنية على شعاراتها الثورية، وبرغم استمرار تموضعها خارج حدودها، إلا أن منحنى الصعود سيقف، ويبدأ التراجع لمشروعها، نظرًا لانكشاف مخططاتها.