لو تتبعنا ميل العربي للأعمال الأدبية لوجدنا أن أكثر الأعمال تأثيرًا فيه تلك التي تحاكي أوجاعه الداخلية الشخصية منطلقة منها بالضرورة إلى التأزمات الخارجية التي تطفو وتنطبع بها خطواته أينما سار وحط وارتحل، ولربما كان نموذج الرواية الذي قدمه غسان كنفاني أحد أهم المقاربات الاجتماعية لهذه الهموم؛ فقد كان من أهم الأدباء الذين نالوا هذا الاهتمام العربي لمحاولته الصادقة رصد حركة المجتمع العربي في مختلف السياقات الاجتماعية والسياسية.
قدم غسان كنفاني في رواياته السبع مبتدئًا بـ “رجال تحت الشمس” شخصيات من واقع المجتمع العربي بكل خصوصياته، تعكس الجوانب الاغترابية في هذه الشخوص، بكل أشكالها النفسية والاجتماعية الممتدة.
ففي زمن ليس بمواز لزمن غسان ولا بعيد عنه، تجسدت رواية “رجال في الشمس” بيننا، بكل شخوصها المتردية، شخوصًا واقعية إلى الحد الذي تتطلبه مرارة التاريخ، حاملة معها كل أزماتها التي تلاحقها بالأسئلة واللعنات بلا أدنى إجابة.
في زمان ليس ببعيد، كان أبو الخيزران – الذي يمثل عمق التأزم التاريخي من المجهول – ليعدَ شبابنا وآباءنا وأطفالنا بالخلاص على الضفة الأخرى، بلا أدنى الضمانات، بالمقابل كان أسعد وكان مروان ليجسدا الهزيمة التامة لهذا المجهول، حينما لاحقتهم كل أسباب الهروب منه وإليه.
في المشهد ما قبل الأخير من الرواية الذي قام به أبو الخيزران بإلقاء الرجال الثلاثة على المزبلة غير مكتف بقيادتهم للموت (الهزيمة) بل وكشف عن وجهه الانتهازي وهي الشخصية الحقيقة لأبي الخيزران حين قام بإلقائهم على قارعة الطريق ليزيح المسؤولية عن نفسه وينقلها لآخر مخليًا مسؤوليته بسهولة عما تسبب به من موتهم:
“قفز إلى الخارج وأغلق الفوهة ببطء، ثم هبط السلم إلى الأرض، كان الظلام كثيفًا مطبقًا وأحس بالارتياح لأن ذلك سوف يوفر عليه رؤية الوجوه، جر الجثث – واحدة واحدة – من أقدامها وألقاها على رأس الطريق، حيث تقف سيارات البلدية عادة لإلقاء قمامتها، هبت نسمة ريح فحملت إلى أنفه رائحة نتنة، قال في ذات نفسه :”هنا تكوم البلدية القمامة”، ثم فكر: “لو ألقيت الأجساد هنا لاكتشفت في الصباح، ولدفنت بإشراف الحكومة”.
هذا المشهد جسد الفكرة الحقيقة لما قامت به قياداتنا من إلقاء الشعوب المهزومة المتجسدة في الرجال الثلاثة على قارعة الطريق كي تدفن بإشراف الحكومة، هكذا ألقيت الشعوب التي تهجرت إلى هيئة الأمم المتحدة وهيئة إغاثة اللاجئين وكل المهربين الانتهازيين لتتولاهم في خزانها الوضيع، علّه يحمل لها ما هو أبعد من جدرانه.
ما الذي قدمه غسان لنا إذن؟ قدّم لنا ما عجزنا أن نتخيل أنه قادم فعلًا، كان قد استحضر لنا رجالنا وهي تستجدي المضائق أن ترأف بهم حتى يصلوا أقرب مرفأ يحمل عنهم أنفاسهم، كان غسان قد حاصره الخزان كما حاصر نهاياتنا وكل أفكارنا عن الوطن الذي تواطأ علينا بكل بحاره وسمائه ووسائل تهريبه.
لم يدق رجال الشمس الخزان قبلنا حين لجأوا، وبكل ما مروا به، التحقنا ومتنا.