أثارت وزارة الري المصرية مشكلة سد النهضة مجددًا وصدَّرتها إلى الصحف المصرية التي تحدثت عن الأمر في أحد عناوينها قائلة: “مصر وقعت بمأزق حقيقي في أزمة سد النهضة”، تلك الصحف نفسها هي التي هللت فرحًا بوثيقة سد النهضة الإثيوبي التي وقعها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي مع رئيس الوزراء الإثيوبي والرئيس السوداني عمر البشير في العاصمة السودانية الخرطوم بتاريخ مارس الماضي.
أما الحقيقة الآنية فقد أغنت عن كل ذلك التهليل والتمجيد لتلك الوثيقة التي حاول النظام المصري الهروب بها من واقع فشله في حل الأزمة مع الجانب الإثيوبي، حتى خرجت وزارة الري مؤخرًا لتعلن أن الدولة المصرية في مأزق بسبب انتهاء مهلة تسليم الدراسات الفنية الخاصة بالسد دون وجود أي ردود من المكاتب الاستشارية القائمة على هذه التقارير.
كما أكد الجانب المصري أن المكاتب الفنية تُماطل في تسليم الدراسات المطلوبة منها، إذ لم تلتزم بالمواعيد التي حددتها لتسليم الدراسات الفنية والتي كان مقرر لها يوم العاشر من أغسطس الماضي، ومدت المدة إلى الخامس من سبتمبر ولم يتم التسليم، في حين أن الأجهزة المعنية في مصر لم تضع في حسبانها أي إجرءات لتفادي هذه الأزمة.
وقد أوضح المستشار في وزارة الري المصرية مغاوري شحاته، في تصريحات صحفية نقلتها عنه وسائل إعلام مصرية أن هناك عدد من البدائل التي يمكن لمصر اللجوء إليها للخروج من هذا المأزق وفي مقدمتها إسناد مهمة الدراسات الفنية لشركات أخرى، ووقف التعامل مع الشركات الحالية، هكذا يحصر الجانب المصري الأزمة في قضية التقارير الفنية للسد، دون الإشارة إلى أن هذه التقارير غير ملزمة للجانب الإثيوبي من الناحية العملية.
إذ روجت نفس الوزارة المصرية في السابق أن وثيقة سد النهضة الموقعة في الخرطوم مع الجانب الإثيوبي ستحفظ حق مصر في مياه النيل، وذلك عن طريق التزام الحكومة الإثيوبية بالأخد بملاحظات المكاتب الفنية الاستشارية المشرفة على بناء السد، في حال أثبتت تلك الدراسات أن بناء السد سيؤثر سلبًا على الجانب المصري، وهو ما يوجب على الجانب الإثيوبي تعديل مواصفات السد حال ثبوت ذلك.
هذا ما روجه النظام المصري ووسائل الإعلام الموالية له، أما الحقيقة فقد أتت حينها من الطرف الآخر “الإثيوبي” على لسان وزير الموارد المائية الإثيوبي إلمايهو تيجنو، في تصريحات إعلامية لوسائل إعلام إثيوبية أكد فيها أن المناقشات التي سبقت توقيع الاتفاق الثلاثي في الخرطوم لم تتطرق على الإطلاق إلى أمر الالتزام بالملاحظات الفنية التي ستصدر من المكاتب الاستشارية.
الجانب الإثيوبي يكسب الوقت من المصريين بعد أن انتزع موافقة مصرية بهذه الوثيقة الموقعة دون أي التزامات من جانبه اللهم إلا ببعض الكلمات الفضفاضة التي تحتمل التأويل، والتي لا توقف بناء السد بأي حال من الأحوال، حيث أقرت مبدأ الاستخدام العادل لمياه النيل مع منع إلحاق الأذى بأية دولة من الدول المشتركة في حوض النيل، دون التطرق إلى التحكم في السعة التخزينية للسد، حيث أورد بعض الخبراء أنه في خلال فترة ملىء الخزان يمكن أن يُفقد من 11 إلى 19 مليار متر مكعب من المياه سنويًا، مما سيتسبب في خسارة مليوني مزارع لدخلهم المائي خلال هذه الفترة، حيث يبلغ حجم الخزان ما يعادل التدفق السنوي لنهر النيل في مصر والسودان أي 65,5 مليار متر مكعب، ومن المرجح أن يطول هذا الفقدان دول المصب على مدى السنوات القادمة.
كما ستتسبب السعة التخزينية هذه في خفض دائم لمنسوب المياه في بحيرة ناصر، حيث سيتم تخزين الفيضانات خلف سد النهضة في إثيوبيا، وهذا الأمر من شأنه تقليل التبخر الحالي لأكثر من 10 مليارات متر مكعب سنويًا، وهو الأمر الذي قد يؤثر أيضًا على قدرة السد العالي في أسوان لإنتاج الطاقة الكهرومائية التي قد تصل خسارتها إلي 100 ميجاوات بسبب انخفاض مستوى المياه بالسد، وهو ما يعني أن السد سيؤدي بمصر إلى شح مائي وأضرار في توليد الطاقة.
كل هذه الأضرار ستلحق بمصر في حالة عدم التزام الجانب الإثيوبي بالملاحظات الفنية التي تحفظ عدم الإضرار بمصر نتيجة بناء السد، لكن هذه الملاحظات لم تصدر بالأساس حتى هذه اللحظة، وإثيوبيا ماضية نحو التشغيل الأولي للسد، كما أن افتراضًا بصدور هذه الملاحظات، ليس هناك أي جانب إلزامي لإثيوبيا أن تأخذ بها، لأنه من الناحية العملية ستضطر إثيوبيا إلى تدمير مراحل بُنيت بالفعل داخل السد لمواكبة هذه التعديلات الفنية، وهو الأمر الذي يشكك به الجميع.
ملف سد النهضة لم يغلق في أروقة السلطة المصرية كما أشاع النظام في الإعلام بعد توقيع وثيقة السد منذ ستة أشهر، ولكن تبحث الآن وزارة الري المصرية الاستعانة بمكاتب استشارية أخرى غير المشرفة على السد لإصدار تقارير فنية متعلقة بالسد، وهو أمر من الصعوبة بمكان وسيأخذ من الوقت الكثير، وكل ذلك في صالح الجانب الإثيوبي الذي يمضي في عمليات البناء دون الاكتراث لهذا الأمر نهائيًا، حتى أن مصادر داخلية مصرية أكدت أن إثيوبيا تماطل في إعطاء المعلومات الفنية الكافية عن السد، بغرض كسب الوقت حتى يدخل السد المرحلة التشغيلية الأولى ويكون أمرًا واقعًا، حينها لن يكون أمام مصر فرصة كبيرة للتحرك حيال ذلك الأمر بسياسة الأمر الواقع، أكد هذه الأخبار اعتذار الوزير المصري حسام مغازي عن حضور الاجتماع الثامن للجنة الوطنية المعنية بملف سد النهضة في إثيوبيا في شهر أغسطس الماضي بسبب معرفته بأن هذه الاجتماعات مجرد تحصيل حاصل.
وقد أكدت تصريحات مسؤولين مصريين سابقين عن ملف المياه في مصر أن الجانب الإثيوبي وراء تأخر تسليم التقارير الفنية الخاصة بالسد، إذ وقعت مصر في خطأ ترك الحرية لإثيوبيا في مسألة التعاقد مع الشركات للقيام بكافة الدراسات منفردة دون مشاركة مصرية، مؤكدين أن إثيوبيا سوف تعمل لصالحها مع هذه الشركات بحيث تستكمل بناء السد بالطريقة التي تريدها دون مراعاة المصلحة المصرية في التفاصيل الفنية.
أما الجانب المصري فيقف عاجزًا حتى هذه اللحظة أمام أزمة سد النهضة، وبدأت أصوات إعلامية تتمتم بأخطار الشح المائي على مصر، بينما تُصر القاهرة على المضي في مفاوضات دبلوماسية مع الجانب الإثيوبي لن تُغني عن الواقع شيئًا يستخدمها النظام الإثيوبي لكسب الوقت حتى ينتهي من بناء السد ولا يقع في حرج إصدار تقارير فنية تدينه بالرغم من كونها غير ملزمة قانونيًا له بعد توقيع الاتفاقية التي اعترفت بالسد.
في الوقت الذي تبقى فيه الخيارات المصرية في غاية المحدودية بعد فشل كافة المحاولات مع إثيوبيا لإقناعها بضرورة مراعاة حقوق مصر التاريخية في مياه النيل، وخاصة بعد تورط مصر في الاعتراف بالسد بعد تسرع نظام السيسي في أمر توقيع الاتفاقية رغم تحذير العديد من الخبراء من ذلك الأمر، ما سيضعف أي تحرك قانوني محتمل لمصر في حال اكتمال بناء السد دون التوصل لحل مع الإثيوبيين.