في يونيو سنة 2002، أجرى الرئيس التونسي المخلوع زين العابدين بن علي تعديلًا دستوريًا يجيز له الترشح لعدد غير محدود من الدورات الرئاسية؛ ليضرب بهذا التعديل ما كان قد وعد به بعد انقلابه على الرئيس بورقيبة في نوفمبر 1987، من أن لا رئاسة مدى الحياة.
هذا التعديل الدستوري الوقح، الذي تم عبر استفتاء شعبي مزور، والذي كان على مقاس بن علي، لم يكن الأخير في سلسلة تعديلات وقوانين كانت تُفصّل على قياس أطماع النظام أو على قياس قدرة معارضيه على إحراجه، وتبعًا لذلك كان كل استحقاق انتخابي منذ 2002 إلى تاريخ حدوث الثورة يشهد بدعة قانونية تعبّد الطريق سالكة لبن علي وتقطعه على معارضيه، وقد حدث ذلك في رئاسية 2004؛ عندما اشترط القانون الانتخابي في تغيير جديد أن يحظى المرشح للانتخابات الرئاسية بتزكية 30 نائبًا برلمانيًا كي يقبل المجلس الدستوري مطلب ترشحه، وهو الشرط الذي لم يكن لمعارض بن علي الأبرز أحمد نجيب الشابي به قِبل، خاصة مع عدم امتلاك حزبه لأي نائب في البرلمان.
في رئاسية 2009 ابتدع برلمان بن علي شرطًا قانونيًا جديدًا على مقاس المنافسين المفترضين لبن علي، نجيب الشابي ومصطفى بن جعفر، والقاعدة هذه المرة أن يكون المترشح قائدًا منتخبًا في مؤتمر حزبه، وهو ما لا ينطبق على الشابي الذي ترك الأمانة العامة للحزب سنة 2006 شأنه في ذلك شأن مصطفى بن جعفر، قانون آخر على مقاس المعارضين الجديين لبن علي لإعدام وجودهم من ميدان المنافسة.
في 2010 كانت المعارضة التونسية وعدد من النشطاء الحقوقيين يقودون حملة لإثناء الاتحاد الأوروبي عن منح تونس صفة الشريك المتقدم – وهي صفة لها مزايا وتسهيلات اقتصادية مهمة – وذلك للضغط على بن علي من أجل القيام بإصلاحات ديمقراطية، وهنا عاد النظام من جديد عبر قبضته التشريعية لتفصيل قانون على مقاس من يقودون هذه الحملة؛ حيث صادق البرلمان التونسي في الـ15 من يونيو من نفس السنة على قانون “الأمن الاقتصادي” الذي كان يعاقب كل تونسي “يتعمد ربط اتصالات مع جهات أجنبية للتحريض على الإضرار بالمصالح الحيوية للبلاد”.
في كل المحطات المذكورة آنفًا، استعمل نظام بن علي أداته التشريعية (البرلمان) ليضع وحده قواعد اللعبة السياسية، وليحدد منفردًا شكل المواجهة ومستواها، وليكون مهما اختلفت المتغيرات الرابح الأكبر والحاكم المطلق.
قانون المصالحة الاقتصادية، الذي اقترحه الرئيس التونسي الحالي الباجي قايد السبسي، والذي يهدف إلى إيجاد صيغة تصالحية بين رجال الأعمال والموظفين السامين الأكثر استفادة من القروض البنكية ومن تسهيلات النظام السابق حزبًا ومؤسسات، لا يبدو شاذًا عن قاعدة القوانين على المقاس؛ ففي حين يدفع قانون العدالة الانتقالية، حسب فصله الـ46، رجال الأعمال الذين حصلوا على منافع ومكاسب بطرق غير شرعية إلى الاعتراف بالذنب وإلى الاعتذار الصريح عنه مع شرح ملابسات هذه التجاوزات المالية، يقفز قانون المصالحة الاقتصادية على كل هذه المراحل ليمُر مباشرة إلى تحديد شروط المصالحة.
لا تزال جراحات ماضي الاستبداد، بحقبتيه البورقيبية والنوفمبريّة، في تونس مفتوحة، ولا بد لمداواة هذه الجراحات من إماطة اللثام عن الحقيقة، ولا بد كذلك من رد الاعتبار لضحايا الانتهاكات، والمرور تبعًا لذلك إلى إصلاح المؤسسات بما يقطع مع ممارسات عهدي الاستبداد.
كل هذه الأبعاد نص عليها قانون العدالة الانتقالية نصًا واضحًا، إلا أن السلطة الحالية في تونس ترى غير ذلك وتصر على الدفاع عن قانون فُصِّل على قياس عدد محدود من رجال الأعمال الذين كانوا على علاقة بالنظام السابق، وبما أن السلطة الحالية هي امتداد محيّن للنظام السابق فإنه من المنطقي ألا تأبه ولا تهتم بما يمكن أن يحدثه هذا القانون من ضيم طبقي وتفكك اجتماعي، حين تتساءل الطبقات الفقيرة في تونس هل لها أن تتمتع هي الأخرى بعفو عن القروض البسيطة التي تثقل كاهلها لبناء منزل صغير أو لشراء سيارة، لا تهتم لذلك بقدر ما تهتم بتحصين رجال الأعمال المعنيين بأحكام العدالة الانتقالية عبر هذا القانون المُعد على المقاس.
ما حدث في الأسابيع الأخيرة أن السلطة اعتدت بالقوة على المعلمين وعلى الأساتذة واعتدت كذلك على الفلاحين، واعتدت، منذ اقتُرِح مشروع قانون المصالحة الاقتصادية، على كل وقفة احتجاجية أو مسيرة أو تجمع لنشطاء للاحتجاج على هذا القانون، وهي بذلك تفتح ضدها عدة جبهات في آن واحد، وهو ما ليس من الحكمة في شيء.
بالإضافة لكل ذلك يبدو جليًا أن مركز القرار السياسي في البلاد مُشتت تنفيذيًا بين رئاسة الجمهورية، رئاسة الحكومة، تنسيقية الرباعي الحاكم، وأطراف نعلمها وأخرى لا نعلمها، وعلى هذا التشتت والتضارب شواهد كثيرة؛ فإذا أضفنا لهذه العوامل عناصر التهرئة المتواصلة التي وضعتها السلطة أمام نفسها بإصرارها على اليد الحديدية في معالجة الملفات المطروحة أمامها، وكذلك علامات القصور والعجز في التعامل مع الانكماش الاقتصادي، تصبح النبوءات التي تحدثت عن قِصر عُمر الحكومة الحالية قريبة إلى حد ما من التصديق.
ومن يدري، لعل شكل التعامل مع المسيرة التي تعتزم المعارضة المشاركة فيها غدًا، السبت، ضد هذا القانون يؤكد أو ينفي هذا الأمر.