رن هاتفي “مبروك يا غيث لقد صدر الأمر الإداري الخاص بتحديد موعد مناقشة رسالتك لنيل شهادة الماجستير”، فقد كانت لحظة المناقشة هي من أحلامي المؤجلة والتي أصبحت شبه مستحيلة بعد سيطرة تنظيم الدولة على مدينتي “الموصل”، فأنا طالب ماجستير في كلية الهندسة، أكملت كل شيء قبل سقوط مدينتي، بقيت المناقشة والتي تم تحديد مكانها في المدينة المجاورة “كركوك”، ولكن من أجل إنهاء هذا الحلم عليّ بخوض مغامرة بلا أدنى شك، خصوصًا أنني ما زلت أقبع داخل الموصل والخروج منها ليس بالسهل.
كانت هناك الكثير من العراقيل التي يجب أن أتجاوزها للخروج لكي أتمكن من إكمال المناقشة؛ أولها الحصول على موافقة وزير التعليم في تنظيم داعش الملقب بـ “ذي القرنين” وهو مصري يحمل الجنسية الألمانية، ومن ثم الحصول على موافقة ما يسمى والي الموصل وذلك عن طريق مراجعة الأمنية وهي الجهة الأشبه بمؤسسة الاستخبارات أو الأمن العامة المعروفة في دول العالم.
إن الحصول على موافقة والي الموصل ليس بالأمر السهل؛ فتنظيم داعش قد أصدر مرسومًا يقضي بعدم مغادرة أي مواطن من المدينة باستثناء المتقاعدين والمرضى شرط أن تزودهم بسند بيت أو سيارة لا يقل سعرها عن 15000 دولار يعتبرونها رهنًا ويصادرونها حال عدم عودتك إلى المدينة، لكن هذا الأمر استطعت تجاوزته من خلال دفع الرشاوي لبعض عناصر التنظيم، حيث قمت بدفع 1000 دولار لأحد المقربين من والي الموصل وحصلت على كتاب يسمح لي بالخروج من المدينة، لكن الصعوبات لم تنته، فأمامي طريق طويل إلى كركوك، حيث تبعد عن الموصل ساعتين عن طريق السيارة، ولكن وبسبب الحروب والجبهات، فعليّ أن أقضي أيامًا لحين الوصول إلى كركوك.
رحلة العذاب تبدأ بمسار طويل جدًا، يبدأ من الموصل باتجاه منطقة الحضر – كيارة – شرقاط حتى الوصول إلى منطقة راوة في الأنبار وصولاً إلى الخط الدولي في الرطبة القريبة من الأردن إلى الرزازة وجسر بزيبز القريب من بغداد، وهذا الطريق وعر مليء بالمغامرات والصعوبات والسيطرات التابعة لتنظيم داعش وقد تضطر لدفع 1000 دولار أخرى لإحدى السيطرات المتشددة مقابل السماح بالخروج من الأراضي التي يسيطر عليها تنظيم داعش والوصول إلى الرطبة.
بعد اجتياز المناطق التي يسيطر عليها التنظيم، تبدأ ملحمة جديدة ألا وهي المناطق التي يسيطر عليها الحشد الشعبي الشيعي سيء الصيت، فقد تم اعتقال عشرات الشباب من مدينة الموصل من قِبل عناصر الحشد بدون أي سبب سوى أنهم من أبناء الموصل ولم يعثر على أثر لهم! تحتاج تفاصيل أكثر مررت بها.
عند جسر بزيبز القريب من بغداد بدأت معي معاناة جديدة فقد بت في العراء لمدة أسبوع كامل، بعدها سُمح لي ولمجموعة معي بالدخول بشرط أن يستقبلني كفيل من أهالي بغداد، وقد جاءني أحد الأصدقاء القدامى ليكفلني، قامت العناصر الأمنية الحكومية بتدقيق اسمه واسمي في الحاسبة للتأكد من عدم انتمائنا لتنظيم داعش.
بعد وصولي بغداد، بقيت ليوم واحد هناك، وذهبت إلى كراج للسيارات من أجل الذهاب إلى كركوك، ركبت إحدى السيارات الصفراء ومعي رجل كبير في السن وامرأة تبين أنها ابنته، سار بنا السائق بطرق متعرجة وترابية، مررنا خلالها بديالى، حيث القرى السنية “الخاوية على عروشها” التي تسيطر عليها ميليشيات بدر وعصائب أهل الحق والتي من الممكن أن تختطف المسافر السني، ثم يصبح بعد ذلك “في خبر كان” كما يقول ذلك العراقيون في لهجتهم.
وصلنا إلى أبواب جلولاء والتي هي النقطة الفاصلة بين ديالى وكركوك، رأيت قوات البيشمركة الكردية وهم يعاملون النازحين العرب السنة أسوأ معاملة، لكنهم أخيرًا سمحوا لنا بالعبور بعد إسماعنا كم من الإهانات لا تفرق بين عجوز وامرأة وشاب.
مررنا بسلام وقد تجاوزت كل كلمات الإهانة، فالحلم بالماجستير أهم من كرامة قد تهان للحظات وتنسى بعد ذلك، وعند الوصول إلى كركوك طلب مني ضابط السيطرة إبراز هوية الطالب مع كتاب أمر إداري موقع من قِبل عميد الكلية أو رئيس الجامعة يذكر فيه أن الطالب الفلاني أتى لغرض المناقشة فقط وسيغادر المدينة، وبالرغم من إبرازي كل هذه الأمور إلا أن نقاط التفتيش تلك لا ترضى إلا بحفلة من الاستجوابات والسجالات قبل أن يسمح لي بالدخول إلى كركوك، تذكرت حينها أننا كنا ننزعج عندما نقطع طريق ساعتين إلى كركوك، واليوم أنا فرح جدًا لأني دخلت كركوك ولكن بعد ماذا؟ بعد 10 أيام.