“لو أتيح لي فعلاً الهروب لأعطيت الأولوية للهروب الجسدي قبل هذا الثاني” علي عزت بيجوفتش في مقدمة كتابه “هروب إلى الحرية”.
قد يكون الهروب إلى إنسانية الإنسان من جبروت المادة، وقد يكون الهروب بالإنسان من مادة الجبروت، وكله هروب إلى الحرية.
قد يكون الشيء ونقيضه فاعلين في الإنسان؛ فالرؤية الإنسانية بتجلياتها قد تكون كامنة في الوجدان، وفي الوقت ذاته يكون النموذج المادي وحركيته حاضرًا في القلب بتجسيداته المختلفة.
في الغرب الأوروبي يأخذ هذا التجسيد المادي مقولة اختزالية تارة في العنصر الاقتصادي، وتارة في التاريخ ومقولاته الحتمية، وفي أحيان أخرى قد تصبح قضية ما هي الحتمية المادية المتجسدة في الواقع، ومنها يبرز الإنسان صاحب القضية والحق، فيتحول إلى المركز مباشرة، وتسقط لبرهة الحتميات المادية بمركزيتها الخانقة.
هذا السقوط الذي يصب للوهلة الأولى في صالح الإنسان المقموع الهارب بجسده ابتداءً إلى الحرية، ولكنه في حقيقة الأمر يجسد إنقاذًا وخلاصًا للإنسان الغربي المقهور بالنموذج المادي المتسلط، فهو إنما ينقذ ذاته المهدَرة باستدعاء الإنساني والأخلاقي في كيانه بمد يد العون للآخر الإنسان لتنتصر الرؤية الإنسانية الكامنة في وجدانه ولو لوقت من الزمن.
كما أن الحياة الإنسانية بتركيبها مفعمة بالثنائيات ودرجاتها والتنوع وأشكاله، وليست سردية بسيطة أو سطحية على الإطلاق؛ فحياة الإنسان تقع في نقطة تقاطع بين العديد من العناصر التي تشكل حياته؛ تقاطع تواصل وتكامل، وتقاطع حدود وفواصل، فالدنيا هي المكان الذي يحقق فيه الإنسان حريته وإمكاناته، وفي ذات الوقت يحاول ألا يذوب أو يستوعَب في عالم المادة واللذة والاستهلاك، وإلا تحولت حياته جحيمًا لا يطاق وركضًا وراء السراب.
هذه مقدمة لا بد منها لمقاربة الفعل الإنساني الذي رصده المشاهد العربي في تعاطي الإنسان الغربي مع المهاجر العربي – دون انزلاق لثنائية الانبهار أو اللامبالاة الصفرية – وذلك قبل الإشارة إلى التناقض الكامن بين هذا التصرف العفوي الإنقاذي في مقابل التصور الحاكم للمنظومة الغربية الرسمية المتجردة، وليس في استدعاء مصطلح “الرسمي” هنا أي استبطان لعقد مقارنة دارجة بين ما هو شعبي وما هو رسمي في السردية العربية الوصفية للغرب، بقدر ما يكون توصيفًا لما هو عام وشائع في الممارسة الرسمية التي قد تكون حاضرة وبقوة في بعض طبقات المجتمع ذاته.
***
عندما يستشعر الإنسان أنه خلق من جديد؛ أنه استيقظ من سكرة طويلة بعد عقود من الزمن مارس فيها معنى أن يكون عبدًا في وطنه طوعًا أو كرهًا، عندها فقط يكون قد فهم معنى الحرية ممارسة، أن الكرامة هي الهوية وهي القيمة التي يملك، وهي التعريف بالذات الحقيقية، هنا تبدأ صفحة جديدة من التاريخ، ليس هروبًا من الماضي، إنما رسم لمستقبل شعاره “لن نذل بعد اليوم”.
لقد كانت تلك الجثة الحية الميتة المسجاة على شواطئ البحر، والتي اخترقت صورتها دون استئذان العالم كله، كانت تعلن وبقوة عن المعنى العميق لتلك الكرامة الإنسانية، جاءت الرسالة لتقول: نعم للحياة، فمن لم يتعظ بالموت لا يعظم معنى الحياة. لكن الموت – هادم اللذة والمادة – لم يأت طبيعيًا أو من تحت الأنقاض هذه المرة، إنما جاء ملحميًا نضاليًا هروبًا إلى الحرية.
هذه الرمزية ربما هي التي حركت العالم، وتحركت معها شعوب العالم، أو ربما كسرت النسق الذي اعتاد الناس عليه، أو ربما لأن الطفل يملك خصائص جذابة ومقنعة قريبة من أصل كينونته الإنسانية، فمع الزمن يفقد الإنسان شيئًا من إنسانيته تدريجيًا، ومع تقدمه في العمر يبتعد عن جذوره، ومن هنا أراد الجميع تعزية الإنسان في أنفسهم باسترجاع شيء من الأصل الذي ضمر أو افتقدوه طويلاً.
أما إنسان الغرب الذي تعصره المادة، وتحيط به من كل جانب، ويرسم له “السيستم” بأدوات الأخ الأكبر مسار حياته، فقد كان لا بد له من زلزال أو هزة في الضمير والروح المشلولة، كانت تلك الأنفس بحاجة للتفكير في الموت حتى تستيقظ فيها الحياة، لا أقولها هروبًا إلى الأمام وإلقاء بالمسؤولية على الآخر، أو تبرئة لكيانات رسمية موميائية تنطق الضاد، بقدر ما يكون القول رصدًا لحاجة ذلك الإنسان بخصوصيته الأوروبية إلى التحرر والانعتاق من قيود التوصيف المادي للحياة.
ولعله صدق فيهم – على هذا المستوى – قول عمرو بن العاص رضي الله عنه في أسلافهم: “إن فيهم لخصالاً أربعًا: إنهم أحلم الناس عند فتنة، وأسرعهم إفاقة بعد مصيبة، وأوشكهم كرة بعد فرة، وخيرهم لمسكين ويتيم وضعيف، وخامسة حسنة جميلة: وأمنعهم من ظلم الملوك”!
الموقف الشعبي في بعض الدول الأوروبية من المهاجرين تعلي دون مواربة مقولة إنسان التراحم مقابل مقولات أخرى يعيشها الكثير من بشر هذا الزمن، إن الشر هو الذي يعطي للوجود معنى وللتجربة خصوبتها والمقولة الإنسانية شخصيتها وتفردها، ولا أظن أن إنسان أوروبا قد يفكر في استغلال حاجة الأسرة المهجرة في إخماد شهوته المشتعلة كما يفعل البعض من بني جلدتنا تحت عباءة التعدد التي تخفي تحتها غرائز حيوانية هي في الحقيقة تعريف لذواتهم وتعبير عن معنى الإنسان في حياتهم.
في السردية الأدبية حجم البطل ليس في أهميته الاجتماعية، وإنما بحجم القضية الأخلاقية التي يحملها هذا البطل، لذلك فإن الملك في الرواية الأدبية يمكن أن يكون شخصًا ثانويًا وخادمه هو البطل، ولكن لماذا لا تسير الأمور هكذا في الحياة؟! قد يكون السبب لأن الكاتب في الأدب يعرفنا على روح البطل، أما في الحياة ففي الأعم الأغلب تتعرف على الناس فقط من الناحية الخارجية، تلك الأشياء التي لا قيمة أخلاقية لها – الاسم، المهنة، الموقع الاجتماعي والمادي… – ولكن ما هو مهم في الحقيقة وما يخبرنا عنه الأديب عن هذا الإنسان يبقى عادة غير معروف لنا في الحياة.
ولكن ماذا لو ظهرت روح البطولة في الحياة، وتجلت أمام الإنسان على شكل شعب يعاند الظلم والظالمين، ويعلي لواء العزة، وطفل يرفض السجان، فيتحول إلى أيقونة تتمسك وتقبل الأرض، وإنسان في الغرب يرفض تنميط الآخر، ويستقبل إنسانًا مثله رافضًا التخلي عما بقي من شخصيته الإنسانية مقابل الشخصية البراغماتية التي تتحرك مع صيرورة المادة وتقلباتها!
عندها تصح مقولة الثورة أو العقل التوليدي تمامًا – وهي التي تذهب إلى أنه يوجد في العقل أفكار كامنة لا تكتسب عن طريق التجربة وإنما تسبقها – فهي ليست معرفة مكتسبة، وإنما فطرية في العقل الإنساني، وهي تتفق تمامًا مع مفهوم الفطرة في الإسلام متجاوزة الرؤية المادية للعقل والفعل الميكانيكي في إنسان السوق.
“يجب أن نكون مثل الطبيعة، والطبيعة لا تعرف الرحمة والشفقة”، هتلر.
على مر العقود السابقة، وابتداءً من عصر التنوير بدأ تشكل النموذج الغربي، وازدادت مع مرور الوقت معدلات التجريد في المجتمع، فنزعت تدريجيًا الصفات الخاصة عن الإنسان؛ حتى يتسنى استيعابه داخل الماكينة بشكل يتحول فيه الأفراد إلى كم يمكن قياسه ولا قداسه له.
وقد نجحت عمليات التجريد الرسمية مع تعاظم قوة الدولة المركزية وهيمنتها وتحولها إلى مطلق، نجحت في جعل القيمة الأخلاقية شيئًا بعيدًا لا علاقة له بفعل الإنسان المباشر، فتحول الفعل من مسؤولية أخلاقية إلى مسؤولية فنية وتكنوقراطية محضة، وظهرت مؤسسات متخصصة تقوم بتحقيق أهدافها بشكل مقنن ومنظم لا دخل فيه للعواطف.
وبهذا حلت الحسابات الرشيدة محل الاستجابة التلقائية والعواطف؛ مما مكن الإنسان الرسمي من كبت أي أحاسيس لديه بالشفقة أو الانفعال الفطري، وحل محل ذلك كله قدر عال من الانضباط والتخطيط المجرد، وعندها أصبح من الممكن أن تقرر الدولة وأعضاء النخبة إبادة عناصر غير نافعة في المجتمع أو في وطن آخر أو قارة بأسرها تشكل مجالاً حيويًا للدولة صاحبة القرار.
ومن هنا فإن التراكم الرأسمالي والتقدم (حسب المعيار الغربي) الذي حدث في الغرب لم يكن نتيجة جهد ذاتي لتلك الشعوب، بل كان نتاجًا للتراكم الكولينيالي باعتباره جوهر الرؤية الغربية الحديثة والتطبيق للنموذج النظري العلماني الصفري.
لقد تشيأ الآخر وتحول إلى مادة استعمالية توظف لمصلحة الغرب وترفيه مجتمعاته (العمالة الرخيصة، الموارد الرخيصة، الإبادات السكانية، العبيد السود وحقول القطن وقصص الطفرات الاقتصادية بأمريكا في القرن التاسع عشر ثم نهب المستعمرات..)، وهي الإستراتيجية التي اتبعها الغرب في تقدمه المادي وتأسيس بنيته الاقتصادية الضخمة.
ومن ثم لا يمكن إغفال هذه الرؤية الكامنة لدى الرسمي في الغرب عند الحديث عن المواقف الرسمية المرحبة بالمهاجرين، ليس باعتبارها ظواهر سياسية شاذة، وإنما نابعة من صميم تلك الإستراتيجية المادية، إضافة إلى التوظيف الذي تمارسه النخب الحاكمة على شعوبها ابتداءً والجماعة المهاجرة ثانيًا والعالم انتهاء بإطلاق سحابة من الدخان الأخلاقي والإنساني، إما لتسويغ سياسات في الداخل، أو تهميش دورها التاريخي في صياغة منظومة الدولة والطبقة المتحكمة في بلادنا، أو محاولة للتطهر من متتالية العقدة النازية في الحالة الألمانية على سبيل المثال.
وهنا قد يخطر سؤال على الخاطر: ماذا لو شعر الإنسان الغربي في أعماقه بلاأخلاقية النموذج والقرار؟
إن الآليات المتبعة ستعلمه كيف يكون قادرًا على إسكات حسه الأخلاقي؛ فالإنسان الحداثي الرسمي أصبح بحسه العلمي ومن خلال الحسابات الرشيدة والتبرير العلمي الموضوعي المحايد ومراكز الأبحاث الترشيدية، أصبح قادرًا على تسويغ أي شيء وقبول أي وضع، وبذا يمكنه التضحية بالآخر، ثم تتكفل المؤسسات الإعلامية للدولة بتصفية كل ما تبقى فيه من أحاسيس إنسانية وأخلاقية متخلفة.
وبما أن جوهر هذه الرؤية الغربية الحداثية هي تسخير الإنسان ومكننته لتعظيم المكاسب المادية، وصيانة الديناميكية الاقتصادية الغربية، وزيادة عجلة الاستهلاكية الدوارة، فليس من المستغرب حدوث هكذا مواقف على المستوى الرسمي، لاسيما وأن أزمتي الشيخوخة والتباطؤ الذي تعانيه العجلة الاقتصادية باتت مقلقة لأصحاب القرار في أوروبا.
ولكن ماذا لو اكتشف الغرب الرسمي (بأسواق نفوذه وكارتيلات نخبته والأوليغاركات والعائلات المتنفذه فيه) أن هذه المادة المهاجرة غير نافعة، وتشكل عائقًا في طريق المنفعة وزيادة الإنتاج والاستهلاك؟
لقد كانت المنظومة الغربية قبل ثورة التواصل تقوم بإزالة العائق مباشرة كما حدث مع اليهود في ألمانيا ومع الهنود الحمر، في ذات الوقت الذي كانت تجلب فيه أعدادًا غفيرة من السود لأمريكا؛ ذلك لأن الهولوكوست البشري بشكل عام وليس كتجربة خاصة باليهود – كما يقول مؤلف كتاب الحداثة والهولوكوست – يولد طبيعيا من رحم الحداثة الغربية، ولم يكن النظام النازي إلا ثمرة طبيعية للتشكيل الحضاري الكولينيالي الغربي الحديث في عز نضوجه وتجليه.
ولكن المعضلة التي تواجه هذه المنظومة الآن – إذا تجاوزنا الأبعاد السياسية الإعلامية والاقتصاد السياسي ومكسب الصناديق – فإنها تتشكل في التشكيل الحضاري المتماسك الذي تمثله مجموعات المهاجرين كما كان يشكله الهنود الحمر إضافة إلى الحق التاريخي في الأرض، على النقيض من الكتلة السوداء المستجلبة من أفريقيا، والتي فرض عليها الانكسار النفسي، علاوة على غياب عامل التماسك الحضاري.
هذا التشكيل الحضاري المتماسك هو ما يزعج الغرب بالدرجة الأولى – على اختلاف النسب والدرجات بين الدول الأوروبية بفعل عوامل التاريخ وطبيعة الإدراك لدى الطبقة الحاكمة للهوية بين الصلابة والسيولة – وليس مبدأ تقسييم الحصص الذي اعترض عليه وزير خارجية المجر مع بداية الأزمة، ذلك لأن تراجع سطوة الدولة القومية في أوروبا مقابل تعاظم النموذج الاقتصادي المادي كمرجعية نهائية ودور الشركات العابرة للقارات، يحول الإشكال بين الدول الأوروبية حين وقوعه إلى إشكال اقتصادي رقمي كمي حصصي يمكن حله.
وهنا لن يكون أمام الغرب من سبيل إلا استهداف الداخل مباشرة على مستوى النفس البشرية والتصورات الحاكمة للفرد باستيعاب المهاجر ضمن منظومة الغرب الخاصة، واستبطانه للنموذج الغربي المادي بوعي أو بغير وعي.
عندها يتحول الإنسان الهارب إلى الحرية بحمولة نضالية وحضارية إلى كائن اقتصادي تختزل تطلعاته داخل السقف المادي، فينسلخ تدريجيًا عن الحالة النضالية الحادثة على أرضه، ويدور في حدود البقاء، ويتحول معنى الحرية والحق والكرامة في وطنه كقضية مقاومة عادلة إلى حالة اختزالية سطحية في شكل هجرة بشرية ومهجريين جياع؛ مما يمكن الغرب الرسمي بماكينته الإعلامية ومؤسساته المعولمة من التلاعب بأصل القضية وعزلها في سياقات ثانوية خدمة لأهدافه ونزعته الكولينيالية المتلونة.
ولعل المستشارة الألمانية تنظر إلى قادرة العالم الغربي وعلى وجهها ابتسامة صفراء، وتردد في نفسها مقولة هتلر: “يا سادة أنا لم أخلق القبح، بل إن الأمر أبعد ما يكون عن ذلك، كم من التعساء الصغار الذين قتلهم أصدقاؤكم، هذه النزهة كانت قد بدأت وأنا بعد في المهد صبي! في لعبة الأرقام السود لست أسوأ اللاعبين”!
وهنا لا بد من التذكير بأن الإنسان المسلم هو نموذج إنساني للمقاومة، فهو لا يعتبر معدلات الاستهلاك النقطة المرجعية في حكمه على الأمور، فمرجعيته هي مقدار تحقيقه لقيمه الإسلامية، وخلق شبكات عميقة داعمة للصمود والكرامة في بلده، لتسقط قابليته للاستعمار من الداخل مباشرة.